د. هالة أحمد الرشيدي أستاذ العلوم السياسية المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة
طالعتنا وسائل الإعلام في الأسبوع الأخير من شهر مايو الماضي بقيام مدعي الحقوق المدنية الأمريكي النائب جيسي جاكسون بتوجيه خطاب إلى أعضاء مجموعة النواب الأمريكيين من أصول أفريقية ودعوتهم لدعم الموقف الإثيوبي بخصوص سد النهضة، وذلك على خلفية الخطاب المرسل من وزارة الخارجية المصرية إلى مجلس الأمن الدولي في الأول من ذات الشهر لإحاطته علما بآخر التطورات في هذا الملف، وطلب تدخله لوقف التصرفات أحادية الجانب أو المنفردة التي تتخذها إثيوبيا استعداداً لملء خزان سد النهضة في الأول من يوليو القادم، بغض النظر عن تأثير ذلك على دولتي المصب مصر والسودان.
والحقيقة أن خطاب السيد جاكسون قد تضمن حججاً مغلوطة واتهامات غير صحيحة للحكومة المصرية، في تحيز واضح لإثيوبيا. ويمكن الرد على هذه المغالطات واستعراض الأسانيد والحجج القانونية الداعمة للموقف المصري من هذه القضية التي تمس الأمن القومي للوطن، على النحو التالي.
1ـ أشار السيد جاكسون في خطابه إلى أن مصر تسعى إلى الهيمنة على مياه النيل، وتحصل على نصيب الأسد من مياهه رغم أنها لا تسهم في تدفق موارده.
ويمكن القول رداً على هذه المغالطة، إن الحقائق الجغرافية والطبيعية للنهر إنما تشير إلى تحيزه إلى مصبه. فالنهر يسير آلاف الكيلومترات من أقصى منابعه في الجنوب، ولكنه يستمر نحو الشمال باندفاع وقوة، وصولاً إلى دولة المصب، مصر.
كما أن الظروف المناخية لحوض النيل تصب أيضاً في مصلحة مصر التي تعمل كمصرف لكافة دول المنابع، والتي لا يمكنها استيعاب زيادة الهطول المطري في بعض المناطق أو التحكم في جريان الماء نتيجة الانحدارات.
وإضافة، فإن نهر النيل هو نهر دولي يحكم الاستغلال المشترك للموارد المائية للأنهار الدولية مجموعة من القواعد القانونية المستقرة عرفاً وفقهاً واتفاقاً وقضاءً، وصدقت عليها الممارسات الدولية، وفي مقدمتها مبدأ المساواة في المراكز القانونية بين دول الحوض، وحق كل منها في حصة عادلة ومنصفة من مياهه بغض النظر عن إسهامها في إيراد النهر.
ومن هذه القواعد أيضاً ضرورة التزام كل دولة من دول النهر باحترام الاستخدامات الأخرى لبقية دول النهر وعدم المساس بحقوقها المكتسبة في مياهه، والالتزام بالتشاور عند القيام بأي مشروعات يكون من شأنها المساس بحقوق أو مصالح الدول الأخرى المشتركة معها في ذات الحوض.
وعليه، فإن فمصر لا تسعى إطلاقاً لفرض هيمنتها على مياه النيل ولكنها على العكس من ذلك تماماً تعترف بسائر الحقوق المستقبلية المشروعة لدول الحوض، ولكن وفقاً للضوابط القانونية المستقرة في هذا الشأن عرفاً وفقهاً واتفاقاً وقضاءً، ونعني بها التوازن بصفة خاصة ما بين الحق في الاستخدام المنصف والمعقول لموارد النهر ومبدأ عدم الإضرار ومبدأ احترام الحقوق المكتسبة.
2ـ أوضح السيد جاكسون في خطابه المذكور أن مصر تستند في نزاعها ضد إثيوبيا إلى مجموعة من الاتفاقيات التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية، وبخاصة اتفاقيتا عام 1929 و1959 المبرمتان مع السودان، ولم تكن إثيوبيا طرفاً في أي منهما.
وينطوي هذا القول، أيضاً على مغالطات قانونية مهمة كثيراً ما تروج لها إثيوبيا رغم صريح مخالفتها لقواعد القانون الدولي ذات الصلة باستخدامات المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية. وهو أمر مردود عليه كما يلي:
أولاً، إن الإطار القانوني المنظم لاستغلال مياه النيل لا يقتصر على اتفاقيتي عام 1929 وعام 1959 وحسب، فإلى جانبهما أبرمت العديد من الاتفاقيات، تحت مسميات مختلفة، لتنظيم الاستغلال المشترك لموارد النهر شاركت إثيوبيا فيها، ومن ثم، لا يمكنها أن تتذرع بأنها أبرمت في الحقبة الاستعمارية لكي تتحلل من التزاماتها بموجبها.
من أبرزها على سبيل المثال: اتفاق أديس أبابا المبرم بين بريطانيا العظمى وإثيوبيا في مايو 1902، بشأن الحدود ما بين السودان المصري ـ البريطاني وكل من إثيوبيا وإريتريا، والذي تعهد الإمبراطور مينيليك الثاني ملك ملوك أثيوبيا بموجبه بعدم بناء أو السماح بإقامة أية مشروعات على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط يكون من شأنها إيقاف إيراد أو تصريف مياها في نهر النيل، إلا بالاتفاق المسبق مع كل من بريطانيا العظمى وحكومة السودان المصري ـ الإنجليزي.
ورغم أن إثيوبيا تتذرع بأن هذه المعاهدة لم يصدق عليها البرلمان الإثيوبي لكي تتحلل من التزاماتها بموجبها، إلا أن هذه الحجة أيضاً يمكن الرد عليها من واقع السلوك اللاحق لإثيوبيا ذاتها، حيث اعترفت بصحة هذه المعاهدة بموجب مذكرات تبادلها الإمبراطور هيلاسيلاسي مع الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري في 18 مايو 1972 لترسيم الحدود بين البلدين، كما أنها لم تطعن في صحة المعاهدة المذكورة أمام لجنة تعيين الحدود بينها وبين إريتريا.
وهناك، كذلك، إطار التعاون المبرم بين مصر وإثيوبيا في عام 1993. وهو اتفاق إطاري تعاوني تم إبرامه بين البلدين لتنمية موارد النيل وتعزيز مصالحهما الاقتصادية والسياسية. كما تعهدت الدولتان بالعمل من أجل التوصل إلى إطار للتعاون بين دول حوض نهر النيل مجتمعة لتعزيز المصلحة المشتركة فيما بينها وتنمية حوض النهر. وقد تضمن هذا الإطار مجموعة من الالتزامات فيما يتعلق بمياه النيل: امتناع الدولتين عن القيام بأي نشاط يتعلق بمياه النيل قد يسبب ضرراً بمصالح الدولة الأخرى؛ وضرورة المحافظة على مياه النيل وحمايتها؛ واحترام القوانين الدولية ذات الصلة؛ والتشاور والتعاون بين الدولتين، بغرض إقامة مشروعات تزيد من حجم تدفق المياه وتقليل الفواقد.
ثانياً، صحيح أن الدول الموقعة على هذه الاتفاقات كانت – في غالبيتها العظمى – دولاً أوروبية من أصحاب المستعمرات، ووقعت تلك المعاهدات نيابةً عن الدولة أو الإقليم الأفريقي الخاضع لحكمها. ومع ذلك، فإن القانون الدولي يعترف بأن الاتفاقات العينية التي محلها جزءاً من الإقليم، تشكل التزاماً وقيداً على الدولة المتعاقدة، وأن انتقال السيادة على ذلك الإقليم لا تمس منها شيئاً.
ووفقاً لنص المادتين 11 و12 من اتفاقية فيينا لعام 1978 بشأن التوارث الدولي في المعاهدات، فإن المعاهدات التي تنظم أوضاعاً إقليمية تنتج آثاراً مادية على الأرض كتلك الخاصة بتحديد وترسيم الحدود الدولية أو التي تنظم المرور بالمرافق والممرات الدولية كالقنوات والمضايق والخلجان الدولية، لا ينال منها أو يمسها التوارث الدولي، وتظل تلك المعاهدات سارية المفعول باعتبارها اتفاقات موضوعية ممتدة تمثل التزاماً وقيداً على الدولة الوارثة أو الخلف، ولا يمكن تعديلها أو إلغاؤها إلا باتفاق الدول الموقعة عليها مجتمعة. كما أن هذه الاتفاقيات وطبقا للعمل والممارسة القانونية المستقرة، تستثنى من نطاق تطبيق قاعدة التغير الجوهري في الظروف كسبب لإنهاء هذا النوع من المعاهدات أو الانسحاب منها بالإرادة المنفردة.
وإضافةً، فإن عموم الدول الإفريقية قد قبلت بقاعدة التوارث الدولي للمعاهدات فيما يتعلق بصلاحية اتفاقيات الحدود الدولية الموروثة فيما بينها بغض النظر عن تغيير السيادة فيها، حتى أن منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حالياً) قد اعترفت منذ نشأتها بالاتفاقات القائمة لتعيين الحدود بين الدول الإفريقية حديثة الاستقلال، فيما عرف بمبدأ قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار؛ مغلبةً في ذلك اعتبارات الاستقرار وحفظ السلم والأمن الإقليميين داخل القارة.
3ـ استعرض السيد جاكسون مواقف الإدارات المصرية المتعاقبة من مسألة الاستغلال المشترك لموارد النهر، مصرحاً بأنها تتمسك بالتوزيع القائم لمياه النيل والذي تستأثر فيه مصر بحصة تقدر بحوالي 66% (55.5 مليار متر مكعب) من الإيراد السنوي للنهر، في حين دول المنابع على نصيب أو حصة مقدارها صفر.
وبالمثل، يمكن الرد على هذه الحجة بالقول إن حجم الموارد المائية التي يستقبلها حوض نهر النيل سنوياً تتسم بالوفرة الهائلة، إذ تقدر هذه الموارد بحوالي 1600 مليار متراً مكعباً. غير أن نحو 95% من هذه الموارد، أي حوالي 1516 مليار متراً مكعباً يهدر ويفقد سنوياً نتيجة عمليات البخر والتسرب الأرضي، إذ يقدر متوسط الإيراد السنوي للنهر بنحو 84 مليار متراً مكعباً.
وبالتالي، فإن ما يثار من أن هناك تعارض بين مصالح دول حوض النيل تتعلق بالاستغلال المشترك لمياهه، هو أمر غير صحيح وتعارض غير حقيقي، فأزمة مياه النيل ليست أزمة ندرة، بل هى أزمة إدارة وسوء استغلال لموارد النهر في ظل غياب استراتيجيات لتحقيق الإدارة المتكاملة والرشيدة والمستدامة لموارد النهر، على نحو يكفل المحافظة عليه والاستفادة المثلى منه وتنميته. الأمر الذي يعني إمكانية حل هذه المشكلة من خلال تشجيع استخدام المياه المهدرة حالياً للاستجابة للاحتياجات التنموية لدول الحوض، دون المساس بالحقوق المكتسبة والتاريخية لمصر في مياه النيل.
4ـ أشار السيد جاكسون إلى مقتطفات مجتزأة من خطابات القيادة المصرية في مناسبات عديدة للادعاء بأن مصر لن تتوان عن اللجوء إلى الحرب وحشد قواتها العسكرية لهدم السد والحفاظ على حصتها من مياه النيل.
ويتعين القول، رداً على ذلك، أن مثل هذه العبارات يجب أن يتم تفسيرها في سياقها الصحيح في ضوء أهمية مياه النيل لمصر وشعبها. ويعتبر نهر النيل هو المصدر المائي الأول إن لم يكن الأوحد بالنسبة لمصر قديماً وحديثاً، ولا يوجد أي مصدر آخر يمكن مقارنته به.
وعليه، فإن ثمة مصلحة مؤكدة لمصر في مياه النيل، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. مما جعل هدف تأمين حقوق مصر المكتسبة في مياه النيل مسألة حياة أو موت بالنسبة للدولة المصرية، فبات يشكل أحد الثوابت الأساسية والحاكمة لسياستها الخارجية على امتداد الزمان.
وعلاوة على ذلك، فإن تحليل الخبرة التاريخية العملية لعلاقة مصر بدول حوض النيل، وبخاصةً دول المنابع يكشف وبوضوح عن إعلاء مصر دوماً لمبادئ حسن الجوار فيما بين الدول المعنية على المستويين الثنائي والجماعي على حد سواء، والتشاور في تنظيم الانتفاع بالمياه وإدارة بعض المشروعات المشتركة ذات الصلة. فالتصريحات المشار إليها لم تثر إلا في فترات محدودة من تأزم العلاقات مع بعض دول المنابع، كنتيجة للتوظيف السياسي لقضية مياه النيل ضد مصر والتلويح بحرمان هذه الأخيرة من حصتها العادلة من مياه النيل في انتهاك صارخ لمجمل قواعد القانون الدولي ذات الصلة.
كما أن مصر، وفيما يتعلق بالقضايا التي تثيرها نزاعات المياه، تتبنى نهجاً تعاونياً قوامه السعي إلى التوفيق بين مصالح كافة الأطراف من أجل الوصول إلى أقصى انتفاع بموارد النهر الدولي المعني، بل والعمل على خلق مصالح مشتركة جديدة من أجل تفادي أي تصعيد في المستقبل. وتطبيقاً لهذا النهج، فقد حرصت مصر دائما على تعزيز مجالات التعاون الفني مع دول حوض النيل، وكانت دائما هي المبادر إلى مد يد التعاون مع الأشقاء في دول حوض النيل، حتى إن العديد من السدود المنشأة على طول مجرى النهر قد بنيت بسواعد مصرية كسد الروصيرص بالسودان، وسد أوين بأوغندا.
وذلك انطلاقاً من قناعة راسخة لدي صانع القرار المصري بوحدة حوض النيل، والمصير المشترك لدوله وشعوبه، وحتمية بناء جسور التعاون لتحقيق المنفعة المشتركة لجميع شعوب الحوض، لاسيما أن الموارد المائية المتوفرة هي موارد متجددة وتكفي، بل وتزيد، لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة لمصلحة الجميع، إذا ما أحسن استغلالها وتكاتفت الأيدي من أجل الاستفادة منها، بدلاً من أن تكون سبباً ينذر بنشوب حروب بين دول الحوض بشأنها.
ثالثاً، أن الدبلوماسية المصرية تنطلق من توجه معين مؤداه أن الحلول العسكرية لا يمكن أن تفيد في التعامل مع نزاعات المياه، خاصةً في ظل الطابع الإنساني لهذه النزاعات. وحيث إننا بصدد الحديث عن مورد طبيعي مشترك على درجة عالية من الأهمية، فإن اللجوء إلى الآلة العسكرية فلن ينتج عنه إلا تعقيد الأمر سوءاً ومعاناة شعوب حوض النيل من ويلات الحروب جنباً إلى جنب مع تداعيات شح المياه، هذا ناهيك تكلفة التصعيد العسكري.
5ـ ينتقد جاكسون دور كل من الولايات المتحدة الأمريكية ومجموعة البنك الدولي كوسطاء في هذا الملف، وبتجاوز دورهما كراعيين ومراقبين للمفاوضات إلى إعداد اتفاق حول السد دون أن تأذن لهما إثيوبيا بذلك باعتبارها الطرف الرئيس المعني.
وبطبيعة الحال، فإن هذا الادعاء كذلك قد جانبه الصواب، إضافة إلى أنه ادعاء نظري يغفل طبيعة دور الوسيط في تسوية النزاعات في الواقع العملي، حيث يتعين عليه ألا يدخر جهداً للتوفيق بين الأطراف المعنية من جانب، كما أن دور هذا الوسيط يتناسب طردياً مع قوة علاقته بأطراف النزاع، وهو ما يصدق على المفاوضات الإثيوبية – المصرية حول سد النهضة. فمعلوم أن كلا من مصر وإثيوبيا يتمتعان بعلاقات طيبة مع الولايات المتحدة الأمريكية، مما يؤهل هذه الأخيرة للقيام بدور يفوق كثيراً دور الوسيط التقليدي. وكذلك الحال بالنسبة لمجموعة البنك الدولي والذي يعتبر من أهم الجهات الدولية المانحة المعنية بتسوية نزاعات المياه حول العالم.
6ـ أخيراً، لوح السيد جاكسون في خطابه بأن مصر تضطهد الدول الأفريقية المشتركة معها في حوض النيل لاختلافها معها عنصريا، وهو ادعاء واهي لا يمكن قبوله عقلاً ولا منطقاً، فمصر إضافة إلى تمسكها بهويتها العربية، إلا أنها تتمسك وبذات القدر بهويتها الإفريقية. علاوة على أن الدائرة الأفريقية تمثل إحدى الدوائر الرئيسية للسياسة الخارجية المصرية وفي القلب منها تأتي دائرة حوض النيل. ويعكس تاريخ وحاضر العلاقات المصرية الأفريقية هذه الحقيقة، فمنذ أن ساندت مصر دول القارة لنيل استقلالها، ارتبطت بعلاقات وثيقة معها حكومات وشعوب، كما أن مصر تحظى بعضوية العديد من المنظمات الدولية الأفريقية ذات الصلة.
رابط المصدر: