تصاعد الصراع بين القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق “عبد الفتاح البرهان” وقوات الدعم السريع بقيادة “محمد حمدان دقلو” منذ 15 أبريل 2023، وتمددت الاشتباكات بينهما، مما يُضفي مزيدًا من الاضطرابات السياسية والأمنية، لا سيما أن السودان دولة محورية في مناطق “القرن الأفريقي، والساحل الأفريقي، وشمال أفريقيا”، لذا للصراع ارتدادات على الداخل السوداني والبيئة الإقليمية، وكذلك دول الجوار المباشر، والدول التي لها مصالح استراتيجية في البحر الأحمر ومنطقة القرن الأفريقي؛ إذ يدفع الصراع في السودان إلى مزيدٍ من الاضطرابات في البحر الأحمر بما يهدد المصالح الاقتصادية والممرات التجارية العالمية، كما تمتد الاضطرابات إلى منطقة القرن الأفريقي (والتي تضم جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا والصومال)، وتمثل هذه المنطقة أهمية استراتيجية وحيوية لحركة التجارة الدولية عبر البحر الأحمر وقناة السويس.
كما يؤثر الصراع الدائر على دول الشرق الأوسط، إذ إن العديد من الجماعات والمليشيات المسلحة تعبر الحدود وتتنقل بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، فكانت الخرطوم ملاذًا آمنًا للجماعات الإسلامية المتطرفة التي تعمل ضد أنظمة الحكم في المنطقة في تسعينيات القرن الماضي. وتتباين التأثيرات من دولة لأخرى وفقًا لمصالح كل دولة وأهمية السودان بالنسبة لها، وكذلك موقع السودان وقربها من بعض الدول. وبالنظر إلى مواقف دول المنطقة من الصراع، نجد أن الموقف المعلن اتسم بالحياد (والوقوف على مسافة واحدة) تجاه طرفي الصراع، والذي تمثل في الدعوة إلى خفض التصعيد، وطرح جهودٍ ومساعٍ للوساطة بين الطرفين، ودعم العملية السياسية. وفي السطور التالية يتم توضيح أبرز التأثيرات على دول المنطقة والتي تتفاوت من دولة لأخرى على النحو الآتي:
• مصر: يؤثر الصراع المستمر على الملفات الاستراتيجية للأمن القومي المصري وعلى رأسها ملف سد النهضة، إذ إن تفاقم التوترات في السودان يمثل عنصرًا مهددًا للمفاوضات المتعلقة بملف الأمن المائي بين الأطراف الثلاثة، خاصة أن الإجراءات الإثيوبية مستمرة وفي مرحلة الاستعداد للملء الرابع من مياه السد، لذا يؤثر عدم الاستقرار السوداني على مسار المفاوضات في قضية السد الإثيوبي. ومن ناحية ثانية يمثل الوضع المضطرب وعدم قدرة الدولة السودانية على السيطرة على الأوضاع الداخلية تهديدًا للأمن المصري على الحدود الجنوبية بما يفاقم من الأعباء الأمنية على الدولة المصرية. كما يمثل الوضع المضطرب ولجوء المواطنين السودانيين إلى مصر أحد الأعباء الإضافية على الدولة في ظل صعوبة الأوضاع الاقتصادية، إذ يقدر عدد اللاجئين وطالبي اللجوء من السودان 58237 ألف في ديسمبر 2022 بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين.
• ليبيا: يمثل الوضع المضطرب في السودان تهديدًا وتأثيرًا مباشرًا على الأوضاع في ليبيا خاصة في المنطقة الجنوبية الغربية “فزان”. ويعرقل استمرار عدم الاستقرار السوداني خطة عودة المرتزقة السودانيين الموجودين في ليبيا إلى السودان، إذ تنسق السلطات الليبية مع السودان فيما يتعلق بتبادل البيانات والتنسيق المشترك بينهما لتسهيل عودتهم، ويقدر عددهم بنحو 10 آلاف في عام 2021 وفقًا للأمم المتحدة، كما أن عودتهم في ظل الوضع غير المستقر قد يفاقم من استمرار الصراع السوداني في حال مشاركتهم به.
من ناحية ثانية؛ هناك تخوفات دولية من ملف الهجرة عبر الحدود؛ إذ تمثل ليبيا إحدى الوجهات التي يلجأ إليها اللاجئون السودانيون في ظل الصراع المستمر، ومن ثم قد تمثل ليبيا معبرًا للاجئين إلى الدول الأوروبية. ومن ناحية ثالثة؛ استمرار الاضطرابات الأمنية على الحدود يُفاقم من الأعباء الأمنية على القوات الليبية، إذ تتمركز بعض الجماعات المسلحة في جنوب ليبيا والتي قد تتسلل للمشاركة في الصراع الدائر في السودان، أو أنها تهدد الاستقرار الداخلي في ليبيا. بالإضافة إلى احتمالية انتشار تهريب الأسلحة من السودان إلى ليبيا بما يقود إلى عدم الاستقرار الأمني في كلا الدولتين، إذ تؤكد الأمم المتحدة على أن وجود المقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية والمرتزقة وانتشار الأسلحة في ليبيا يشكل خطرًا على السلام والاستقرار في الدولة والمنطقة بأسرها.
ومن ناحية رابعة؛ استمرار الاضطراب في جنوب ليبيا يُعرقل العملية السياسية من حيث إجراء الانتخابات المحتمل عقدها في عام 2024. إضافة إلى أن المنشآت النفطية بها معرضة للخطر. وأخرى خامسة وهي أبعاد اجتماعية وإنسانية؛ إذ يفاقم تدفق اللاجئين السودانيين إلى ليبيا، وعدم القدرة على توفير الاحتياجات والموارد من هشاشة الأوضاع في ليبيا. كما تعرقل الاضطرابات في السودان من روابط العلاقات الاقتصادية بين الدولتين في مجالات التجارة والاستثمار، فوفقًا لتقديرات الأمم المتحدة يعزز إعادة الاعمار في ليبيا الأوضاع الاقتصادية في السودان بأكثر من 20 مليار دولار لمدة أربع سنوات منذ عام 2021.
• تركيا: يهدد عدم الاستقرار السوداني المصالح التركية بها، إذ تمثل السودان أهمية جيوسياسية بالنسبة لها ولا سيما في ظل عضوية السودان في العديد من المنظمات الإقليمية مثل “الاتحاد الأفريقي” و”السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا” و”تجمع دول الساحل والصحراء”، ومن ثم تعمل تركيا على توسيع نفوذها في أفريقيا، وتمثل السودان بالنسبة لها إحدى ساحات النفوذ، ومنطقة نفوذ استراتيجي في القرن الأفريقي، خاصة مع امتلاك أنقرة قاعدة عسكرية في الصومال واستئجارها لجزيرة سواكن السودانية في البحر الأحمر ورغبتها في التواجد عسكريًا واقتصاديًا على سواحل البحر الأحمر، فقد أنشأت تركيا أكبر قاعدة عسكرية لها في الصومال في عام 2017، بتكلفة حوالي 50 مليون دولار.
ولأنقرة مصالح حيوية في السودان، حيث تتطلع تركيا إلى التحول إلى مصادر الطاقة البديلة والاستثمار بها، وتمثل أفريقيا مركزًا حيويًا لما تحتويه من مصادر الطاقة، ومن ثم تسعى أنقرة إلى تعزيز نفوذها في أفريقيا بالتواجد في السودان كبوابة لها نحو شرق أفريقيا إلى جانب تواجدها في ليبيا. وعملت خلال الفترة الماضية على ترسيخ حضورها هناك من خلال توقيع مذكرات تفاهم لتعزيز التعاون في مجالات الزراعة والثروة الحيوانية بتوقيع “فؤاد أقطاي” نائب الرئيس التركي ووزير شئون مجلس الوزراء السوداني “حسين عثمان” مذكرة تفاهم في 20 يناير 2023 بهدف التعاون في الإنتاج الزراعي وتحسين البذور وتطوير المراعي الطبيعية والثروة الحيوانية وتطوير صناعة المعالجة وزيادة حجم التجارة بين البلدين؛ إذ تمتلك السودان مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، وعملت أنقرة على إجراء بحوث حول البِنَى التحتية للري الخاصة بنهر النيل والمياه الجوفية ومياه الوادي كمصادر لري مشروع “الهواد التنموي” وهو مشروع على مساحة مليونين وأربعمائة ألف فدان بالتنسيق بين وزارة الزراعة والغابات التركية ووزارة الري والموارد المائية في السودان، ومن المقرر أن يتوسع إلى خمسة ملايين فدان ليشمل ولايات الخرطوم وكسلا والجزيرة والقضارف. كما أن تركيا تعمل على ترسيخ حضورها في السودان في ضوء التنافس الدولي والإقليمي على مصادر الطاقة والاستثمارات في السودان والتنسيق مع الأطراف الداخلية، وبذلت مساعي لتهدئة الصراع بين البرهان وحميدتي من خلال دعوة الطرفين إلى الحوار، وهو موقف لا ينفصل عن مصالحها الاستراتيجية هناك.
• إسرائيل: تمثل السودان بالنسبة لها منطقة نفوذ حيوية في القارة الأفريقية خاصة بعد اتفاق التطبيع (أبراهام) بينهما في 23 أكتوبر 2020، ومن ثم سوف تكون حريصة على عدم تجميد هذا الاتفاق في ظل الصراع السياسي الداخلي، خاصة أن السياسة الإسرائيلية لها محدداتها تجاه السودان أولها أن التقارب الإسرائيلي السوداني يعزز من مقاربتها تجاه إيران وهي إحدى أوراقها لمجابهة أي محاولات إيرانية لتهديد المصالح الإسرائيلية. كما أن هناك مساعي إسرائيلية بضم السودان إلى منتدى النقب الإقليمي بدافع الوجود الإسرائيلي في البحر الأحمر والتنسيق معها لمجابهة الحضور الروسي والإيراني العسكري، وتتبع إسرائيل استراتيجية الاستثمارات مقابل مكافحة الإرهاب من خلال ضخ استثمارات في الدول الأفريقية مقابل منع التهديدات الأمنية التي تسببها التنظيمات الإرهابية، ومجابتها من خلال تقديم الأسلحة والتدريبات العسكرية لهذه الدول. وبدأت بدول مثل تشاد والسودان وتعتزم تطبيقها في باقي الدول مثل مالي والنيجر وموريتانيا والسنغال حتى تدخل في مسار التطبيع مع إسرائيل. وقد يمثل الوضع غير المستقر في السودان إحدى المشكلات المزعجة بالنسبة لها إذ تمثل إسرائيل إحدى وجهات اللاجئين الأفارقة من جنسيات مختلفة (إثيوبيا وإريتريا والصومال) ومن ثم قد يمثل عبور سودانيين إلى إسرائيل أمر غير مرغوب بالنسبة لها.
• إيران: يمثل الوضع غير المستقر في السودان تهديدًا لمصالحهاالاستراتيجية في منطقة القرن الأفريقي فيما يخص طرق الملاحة التي تمر بها سفنها التجارية وناقلات النفط عبر البحر الأحمر وخليج عدن، إذ تستخرج جزءًا كبيرًا من عائداتها من تصدير الوقود الأحفوري والمنتجات القائمة على النفط. وعليه فإن تأمين خطوط الإمداد العالمية أمر هام بالنسبة لطهران خاصة بعد الهجمات التي قام بها القراصنة الصوماليون في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين والتي مثلت تهديدًا للمصالح الإيرانية، لذلك كثفت إيران من وجودها في البحر الأحمر وخليج عدن. وتعمل على تعزيز نفوذها في منطقة القرن الأفريقي في ضوء التنافس الجيوسياسي مع كل إسرائيل وتركيا ودول الخليج.
• الدول الخليجية: يمثلالوضع المضطرب في السودان تأثيرًا طويل المدى على الأمن في منطقة البحر الأحمر حيث التخوف من انتشار العنف عبر الحدود، وتفاقم الوضع الإنساني المتردي في القرن الأفريقي مما دفع كلًا من الولايات المتحدة والسعودية إلى تبني مبادرة مشتركة لتهدئة الموقف. وفي بداية اندلاع الاشتباكات بين طرفي الصراع السوداني أصدرت (السعودية والإمارات وقطر) بيانًا دعوا فيه إلى وقف التصعيد، كما تبنت السعودية زمام المبادرة في عمليات المساعدة الإنسانية والإنقاذ وأعمال الإغاثة. كما أن السعودية والإمارات عضوان في الآلية الرباعية (التي تضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والسعودية والإمارات) لمتابعة مسار العملية السياسية في السودان.
وبالنظر إلى المصالح الخليجية بها؛ بالنسبة للسعودية هناك حركة تجارة بين الدولتين ويمثل بورتسودان التي تبعد حوالي 169 ميلًا بحريًا عن السعودية، ممرًا لسفر آلاف من المسلمين من الدول الغربية ومن إفريقيا إلى السعودية. أيضًا تمر معظم ناقلات الحج النيجيرية عبر المجال الجوي السوداني إلى السعودية، ومن ثم يعيق الوضع المضطرب في السودان مرور هؤلاء الحجاج إلى السعودية. وربما يؤدي إلى البحث عن طرق بديلة. من ناحية ثانية يهدد الصراع الطويل وانهيار الدولة السودانية الأمن الإقليمي، ويقوض رؤية السعودية لتطوير ساحلها على البحر الأحمر. كما أن السعودية تشترك في الحدود البحرية مع السودان، ويثير سقوط الدولة السودانية أو تقسيمها تخوفًا بالنسبة لها ويمثل عنصر تهديد؛ إذ تحرص السعودية على عدم تهديد مصالحها في البحر الأحمر.
وتعد الإمارات من أكبر المستثمرين في السودان، إذ وُقعت في فبراير 2023 اتفاقية بين الدولتين تتعلق بالاستثمار في مجال التكنولوجيا الرقمية. كما تعد الإمارات من أكبر مشتري الذهب من السودان بقيمة تقدر بنحو 1.315 مليار دولار في النصف الأول من عام 2022، ويمثل منجم ذهب “جبل عامر” في السودان الذي تسيطر عليه قوات حميدتي مصدرًا للذهب الذي يتم تصديره إلى الإمارات، كما وقعت الإمارات والسودان اتفاقية مبدئية بقيمة 6 مليارات دولار لبناء ميناء أبو أمامة على ساحل البحر الأحمر في ديسمبر 2022 كجزء من الاستراتيجية الإماراتية لتعزيز النفوذ في القارة. كما تُقدر الاستثمارات القطرية لتجديد ميناء سواكن في السودان بنحو 4 مليارات دولار.
وأخيرًا؛ كان الموقف العربي داعمًا لإنهاء التصعيد ووقف الأعمال العدائية، واتضح ذلك في موقف دول مجلس التعاون الخليجي في الدعوة إلى السلام، ودعم مبادرة الوساطة لتهدئة الصراع سواء من خلال المباحثات بين (ممثلي قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية) التي أجريت في السعودية برعاية أمريكية وتمخض عنها إعلان جدة في 11 مايو 2023 بهدف حماية المدنيين وتهدئة التوتر بين طرفي الصراع، أو من خلال الجهود المبذولة من جانب الجامعة العربية وعلى إثرها تشكلت اللجنة السعودية المصرية في 7 مايو 2023 بهدف تهدئة التوترات وحماية المدنيين.
ختامًا، يضفي الصراع السوداني مزيدًا من التعقيد والتشابك على الصراعات القائمة بالمنطقة، سواء في ليبيا أو اليمن أو العراق أو سوريا، بما يقود إلى أوضاع أمنية وبالتبعية اقتصادية واجتماعية أكثر اضطرابًا ستكون لها تبعات آنية ومستقبلية. ومن ناحية أخرى، قد يُمثل تفاقم الصراع بها وعدم حسمه أداة يتم توظيفها من جانب بعض القوى الإقليمية والدولية بما يُسهم في فوضى أمنية كبيرة في المنطقة، في ظل حالة إعادة التشكل والتغيير التي يشهدها العالم والإقليم، بما يسبب ضررًا لدول الجوار المباشر وغير المباشر للسودان.
.
رابط المصدر: