تُكافح كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية منذ مطلع العام 2023، لرأب تصدُّعات لم يسبق لها مثيل داخلها منذ سنوات، جراء المنافسة الشرسة بين العرقيات على السلطة والموارد، والتي خلّفت مظالم عرقية ولغوية متراكمة. وتثير التحديات المستمرة التي تواجه المجمع الكنسي، وبخاصة في إقليمَي أوروميا وتيغراي، التساؤلات حول إشكالية الدين والدولة الموغلة في القدم في إثيوبيا، وتأثير التدافع والتنافس السياسي على أسس عرقية ودينية، في تماسك ووحدة الدولة الإثيوبية، ومشروع رئيس الوزراء آبي أحمد الطامح إلى تكريس مفهوم المواطنة المتساوية، القائم على التعددية الإثنية والدينية، في هذا البلد.
انشقاق جديد داخل الكنيسة
رداً على موقف المجمع الكنسي في أديس أبابا الداعم لحكومة آبي أحمد في حربها ضد التيغراي، والتي اندلعت في نوفمبر 2020 وطالت بفظائعها كنائس وأديرة ورهباناً في الإقليم، أعلن رؤساء الأساقفة التيغراي، في 7 مايو 2021، قطعَ العلاقات فعلياً مع المجمع الكنسي في أديس أبابا، والمضي في ترسيخ كنيستهم الخاصة المستقلة عن الكنيسة الأم، بما في ذلك من خلال إصدار الكتب والمناهج الدينية باللغة “التيغرينية”، وتغيير اسم كنيسة “مريام صهيون” التاريخية في أكسوم إلى “سلامة كيساتي برهان”، وهو اسم يعود إلى الراهب الشهير الإسكندراني الأصل “فرومنتيوس سلامة” الذي بفضل جهوده التبشيرية مطلع القرن الرابع الميلادي أصبحت المسيحية الديانة الرسمية لمملكة أكسوم الإثيوبية، ورَسَمه بطريرك الكنيسة القبطية أثناسيوس، كأول أسقف على الحبشة عام 326 ميلادية، وفي الاسم بالتالي دلالة على عزم كنيسة تيغراي فك ارتباطها الروحي بأديس أبابا وذهابها إلى الكنيسة القبطية في الإسكندرية التي ظلت الكنيسة الإثيوبية تابعة لها حتى عام 1959.
لاحقاً، وبعد مضي أشهر على توقيع اتفاق السلام مُنهياً أكثر من عامين من الحرب المدمرة شمال البلاد، تعهدت الكنيسة الأم بإعادة العلاقات مع كنيسة تيغراي، وأعلنت تقديم مساعدات إنسانية بقيمة 20 مليون بر للمتضررين من الحرب في تيغراي، ثم أصدرت مطلع يوليو الماضي، بيانَ اعتذار إلى شعب التيغراي، على ما قالت إنه تقصير من جهتها تجاه أتباعها ورعاياها في الإقليم، تلاه توجُّه وفد كنسي على رأسه الأنبا ماتياس بطريرك الكنيسة الإثيوبية، إلى عاصمة الإقليم ميكيلي لتقديم الاعتذار وفقاً للأعراف الكنسية. غير أن مساعي المجمع المقدس الأعلى للمصالحة، قُوبلت برفض وتجاهل أساقفة كنيسة تيغراي، الذين رفضوا مقابلة الوفد، وأغلقوا أبواب الكنائس دونه، ونظروا إلى الزيارة والاعتذار المتأخرَين على أنَّهما خطوة مسيسة وجاءت بعد فوات الأوان، فضلاً عن كونها دون المستوى المطلوب، ولا تتناسب وحجم الدور الذي لعبته الكنيسة في تعميق معاناة شعب التيغراي إبان الحرب، على اعتبار أن أساقفة التيغراي كانوا طالبوا بعزل عدد من أعضاء مجمع أديس أبابا الكنسي الذين دعموا الحرب وتحويلهم إلى مجلس التأديب. وفي الـ 16 من الشهر نفسه، شرعت كنيسة تيغراي الأرثوذكسية في ترسيم عشرة أساقفة لقيادة الأبرشيات في الإقليم والجاليات في الخارج، لتترجم بذلك تصميمها على المضي قدماً في مقاطعة الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية وتقوية كرسي “سلامة كيساتي برهان”.
ومثّلت الإجراءات التي اتخذتها كنيسة تيغراي تحديات كبيرة للمجمع الكنسي الذي اعتبرها “باطلة وتتنافى مع قانون الكنيسة، وتنتهك الإدارة المركزية لها وتضر بوحدتها”، داعياً رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى استخدام صلاحياته الدستورية وتفعيل دوره كسلطة عليا في البلاد، للتدخل وإفساح المجال للتوسط بينه وبين الكنيسة التي تم استحداثها في تيغراي. وبعد اجتماع طارئ لأعضاء المجمع المقدس في 2 أغسطس، أعلن طرد رؤساء أساقفة كنيسة تيغراي الأربعة وتجريدهم من سلطتهم الدينية، كما تم تجريد الأساقفة العشرة المعينين من قِبلهم مؤخراً من ألقابهم الروحية ومنعهم من خدمة الكنيسة.
خلفيات سياسية وعرقية وراء أزمة الكنيسة
يُعد انقسام أساقفة التيغراي عن الكنيسة الأم فصلاً جديداً من صراع الهويات العرقية اللغوية القديم المتجذر، والذي يُلقي بظلاله على المشهد الداخلي المضطرب بالأصل، لما يترتب عليه من توترات وأزمة ثقة بين الحكومات الفيدرالية والكنيسة الأرثوذكسية. فهذه هي المرة الثانية في أقل من ستة أشهر التي تواجه فيها الكنيسة الإثيوبية تحركات داخلية لتقسيمها على أسس عرقية وبدوافع سياسية، حيث تسبب انشقاق مجموعة من الأساقفة المنحدرين من قومية الأورومو وقيامهم بتشكيل مجمعاً كنسياً موازياً، وترسيم 26 أسقفاً في الإقليم أواخر يناير الماضي، بأزمة كبيرة كادت تعصف بالبلاد. وكانت مبررات الأساقفة المنشقين هي أنَّ قيادة الكنيسة تمارس التمييز والتعنت من خلال الحفاظ على نظام هيمنة لغوية وثقافية لا يتم فيه إقامة الصلوات والتجمعات الكنسية في إقليمهم بلغتهم الأم (الأورومية).
وإزاء ذلك الانقسام، تبنَّى رئيس الوزراء آبي أحمد (وهو من أصل أورومو بروتستانتي)، في البدء موقفاً محايداً ومتوافقاً مع الدستور الفيدرالي الذي ينص على عدم تدخل الدولة في الشؤون الداخلية لدور العبادة، فقد قال في تصريحات تلفزيونية، إن كلا الجانبين “على حق”، محذِّراً من الترويج للعنصرية والتعصب الديني والعرقي. لكن المجمع الكنسي انتقد تصريحات آبي أحمد واعتبرها “مُضللة” وتتجاهل قرارات السينودس وتتحدى سلطته وتعترف بجماعة “غير شرعية متعطشة للسلطة”، ليتصاعد التوتر بين الحكومة والمجمع المقدَّس الذي اتهمها بالتدخل في شؤون الكنيسة، والتواطؤ مع مجموعة “مارقة”، عبر توفيرها الغطاء السياسي والحماية الأمنية للمنشقين، وعدم القيام بواجبها في منعهم من الاستيلاء على مقدرات الكنيسة في إقليم الأورومو.
ويبدو أن الحملة التي قادتها الكنيسة، وإدراك رئيس الوزراء بقدرتها على تحريك الشارع وتحويل الأزمة الداخلية إلى نزاع كنسي-حكومي، دفعته إلى التدخل وتوفير مساحة للحوار، أثمرت عن التوصل إلى تسوية تم إبرامها بحضوره شخصياً في 15 فبراير، وبموجبها أعادت الكنيسة الأساقفة الثلاثة المنشقين ووافقت على تخصيص التمويل والموارد للكنائس في جميع أنحاء أوروميا، وأقرت بالحاجة إلى تأهيل المزيد من الكهنة الناطقين باللغة الأورومية، ووافقت على تعيين المزيد من أساقفة الأورومو في هرم القيادة الكنسي رفيع المستوى.
إشكالية الدين والدولة
تحافظ الدولة الإثيوبية على روابط تقليدية وثيقة مع الكنيسة الأرثوذكسية التي ظلت تمثل الواجهة الرسمية للبلاد، كأكبر هيئة دينية في إثيوبيا (يقدر عدد أتباعها بأكثر من 40 مليون شخص). وتاريخياً كان على الكنيسة الاصطفاف إلى جانب الدولة والتعبير عن سياساتها والتسويق لها، وظل ملوك إثيوبيا لقرون طويلة يحملون اللقب الديني التابع للكنيسة ويعتمدون عليها لتثبيت دعائم حكمهم. وحتى بعد صعود النظام الماركسي عام 1974، والذي قام بـ”علمنة الدولة”، وتأميم أراضي الكنيسة، والحدّ من دورها، ظلت هذه الأخيرة تدعم سياساته، واستمر تأثيرها ونفوذها قائماً وآخذاً في التزايد.
وللأسباب السالفة، قلَّما تمكنت المؤسسة الدينية الأكبر في البلاد من التعافي من داء الإثنية والمناطقية، والخروج من كونها جزءاً من سلطة الدولة وأداتها الناعمة إلى مسار تحافظ فيه على استقلاليتها وسلطتها الروحية وتنأى بمؤسساتها عن الصراعات العرقية، فعلى سبيل المثال قِلة من أعضاء المجمع الكنسي أعربوا عن رفضهم لموقف الكنيسة من الحرب في تيغراي، وقبل ذلك لم يتردد أساقفة أديس أبابا وعلى رأسهم قساوسة تيغراي عن دعم وتأييد الحرب الحدودية مع إريتريا بين عامي 1998 و2000، تحت مبررات نصرة الدولة.
وفور وصول آبي أحمد إلى السلطة عام 2018، شرع في معالجة ملف الأديان الشائك، ضمن مساعيه لتحييد الدين عن العمل السياسي، بما في ذلك إعادة توحيد كنيسة التوحيد عقب مصالحة تاريخية قادها بين الكنيستين الأرثوذكسيتين الإثيوبيتين، في كلٍّ من إثيوبيا والولايات المتحدة، فضلاً عن تشكيل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، كأول جهة تمثل مسلمي إثيوبيا. غير أنَّ علاقة حكومته بالكنيسة ساءت بعد ذلك، ففي ذروة الحرب ضد تيغراي، سيقت ضده اتهامات باستخدام السلطة الروحية للكنيسة لتجريم وشيطنة خصومه المتمردين في شمال البلاد، وهي اتهامات عززها موقف رئيس الكنيسة الأرثوذكسية البطريرك ماتياس، الذي ينحدر من قومية التيغراي والذي وُضع رهن الإقامة الجبرية بعد تسريبه مقطع فيديو يتهم فيه تحالف آبي أحمد بارتكاب إبادة جماعية في الإقليم. كما تُظهر احتجاجات المسلمين ضد ما اعتبروه “الهدم الممنهج للمساجد ودور العبادة” في إقليم أوروميا أواخر مايو الماضي، تنامي السخط والشعور بالتهميش والإقصاء لدى التيارات الإسلامية، وإخفاق الحكومة في إدارة التنوع والتدافع الديني العرقي في البلاد.
خلاصة واستنتاجات
- يُنظر إلى أزمة الكنيسة كأحد الانعكاسات والتجليات البارزة للمعضلة الأكبر التي تواجه الدولة الإثيوبية التي تزخر بعشرات الهويات العرقية المتنافسة على المصالح والنفوذ بمستوياته وأوجهه السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، فالانشقاقات داخل المجمع الكنسي ذات خلفيات عرقية وسياسية أكثر منها دينية.
- تتجاوز التطورات الأخيرة داخل الكنيسة البُعد الروحي إلى السياسي، وتُشكِّل تهديداً لوحدة البلد الذي أنهكته الحروب والصراعات، وتحدياً لرئيس الوزراء آبي أحمد قد يدفعه إلى التدخل في شؤون الكنيسة لمنع مزيد من الانقسام، وبما يتناسب والأغراض السياسية لإدارته، على نحو قد يناقِض النهج الذي تروج له المؤسسة الرسمية الإثيوبية بشأن الحفاظ على استقلالية المؤسسات الدينية والوقوف على مسافة واحدة من جميع الديانات والعرقيات.
- هناك حاجة ملحة إلى ترسيخ قيم التسامح والتعايش والمواطنة المتساوية في هذا البلد، بما في ذلك من خلال التخفيف من البعد الديني في مؤسسات الدولة، وإضعاف التوجهات السلطوية لتفتيت المؤسسات الدينية، أو محاولة تطويع أو تحييد مواقفها لخدمة الأهداف السياسية، والعمل على تعزيز القوانين المنظِّمة لعمل تلك المؤسسات وعلاقاتها وتفاعل بعضها مع بعض ومع الهياكل الرسمية في البلاد، لضمان ترشيد مشاركتها وتمثيلها في الواقع السياسي، وإفساح المجال أمام السلطات التشريعية للبت في الخلافات داخل المؤسسات الدينية وفيما بينها، وحتى خلافاتها مع السلطات والجهات الحكومية.
.
رابط المصدر: