د. منذر سليمان و جعفر الجعفري
لم تنعم المؤسسة الأميركية الحاكمة، بدوائرها المتعددة، السياسية والأمنية والاستخبارية والعسكرية، بهدوء من الانتقادات الشعبية، بعد سلسة تساؤلات حول أهليتها في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، بشأن تداعيات المنطاد الهوائي الصيني، حتى حاصرتها اتهامات “شبه موثّقة” بارتكابها “جريمة” تفجير خطي السيل الشمالي ناقلي الغاز الروسي إلى موانئ ألمانيا، العام الماضي، والتي عالجتها بأسلوبها الروتيني المعهود: النفي ثم النفي حتى يقدّم الطرف الآخر دلائل دامغة، تصدر عقبها “بعض” الاعتراف مغلّفاً بادعاء البراءة.
في سياق التفاصيل، نشر الصحافي الاستقصائي الشهير، سيمور هيرش، بتاريخ 8 شباط/فبراير الجاري، تقريراً مفصلاً أرفقه بوقائع وحيثيات وتفاصيل وأسماء صنّاع القرار في غرف مغلقة، ويحدّد مسؤولية اتخاذ قرار التفجير بالرئيس جو بايدن، وتأييد فريقه الأمني المصغّر برئاسة مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان؛ ومسؤولين في قيادة الأركان المشتركة؛ ومندوبين عن وكالة الاستخبارات المركزية ووزارتي الخارجية والخزانة.
قوبل التقرير بعنوان “كيف أخرجت أميركا أنبوب السيل الشمالي من الخدمة” بتجاهل منسّق من قبل وسائل الإعلام الرسمية، المقروءة والمرئية. وانفرد عدد ضئيل من بين إعلامييها في سرد الخبر والتركيز على “الطرف الآخر” الرسمي ونفيه بشدة تلك الاتهامات، على الرغم من ذكر التقرير بدقة عالية “التسلسل التاريخي والزمني وآليات التنفيذ والوحدات العسكرية” التي نفذت الهجوم.
بينما تناولت هيئة تحرير صحيفة “واشنطن تايمز”، اليمينية، النبأ باقتطاف وبالتعليق على بعض ما جاء في التقرير، وكذلك نفي البيت الأبيض بأنه “كذبة مفبركة وخرافة كاملة”، قائلة: “في ظل هذا الزمن الذي يتميّز بعدم الثقة في الحكومة، فإن تفاصيل تقرير السيد هيرش تبدو أكثر صدقاً من النفي” الرسمي (صحيفة “واشنطن تايمز”، 13 شباط/فبراير 2023).
من بين المسائل الأساسية التي أبرزها تقرير هيرش تورط القوات العسكرية النرويجية مع القوات الأميركية في “زرع وتفجير العبوات الناسفة”، بالقرب من شواطئ جزيرة برونهولم الدانماركية، واسفر عن تدمير الأنبوبين في عرض البحر، وجاء متّسقاً مع الأهداف الأميركية المعلنة متمثلة بـ “قطع علاقة ألمانيا مع روسيا وإنهاء اعتمادها اقتصادياً على توريد الغاز الروسي الرخيص”.
هذه الجزئية “البسيطة” تؤدي بالجهود الساعية لتحديد هوية الجهات الفاعلة إلى التقرّب من السؤال الكلاسيكي: من المستفيد أو المستفيدين من تلك الفعلة، برد الاعتبار لعامل الربح المادي.
وعليه، تشير البيانات الاقتصادية للفترة الزمنية المباشرة بعد التفجير إلى ارتفاع معدلات المداخيل والأرباح لصادرات الطاقة لكل من النرويج والولايات المتحدة. واستطاعت النرويج الحلول محل المورد الروسي في تصدير الغاز بنحو 40 مليار دولار سنوياً. أما الولايات المتحدة فقد ضاعفت صادراتها من الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية، خصوصاً بعد افتتاح ألمانيا محطتي استقبال الغاز المسال، قبل نحو شهرين، وتصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بأن واشنطن تبيع غازها لأوروبا بنحو 5 أضعاف السعر العالمي السابق.
تصنيف عملية التفجير، قانونياً وقضائياً، وبحسب المصادر الأمريكية، دفعت بعض النخب الأميركية إلى القول إنه “ينبغي على الشعب الأميركي مطالبة (الحكومة) تقديم أدلة بشأن ارتكاب الرئيس بايدن مغامرة في أعماق البحار ما يستدعي تفسير دولة نووية (روسيا) أن الفعل بمثابة إعلان حرب” (“واشنطن تايمز”، 13 شباط/فبراير 2023).
في الجانب الرسمي من المسؤولين الأميركيين انفرد عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري، مايك لي، بانتقاد عملية التفجير، نافياً علمه وبعض زملائه بتلك الخطة. وأوضح بأنه “قلق لأنني لا أستطيع استثناء فورياً لاحتمال قيام الولايات المتحدة بتفجير أنبوب السيل الشمالي”. وأردف قائلاً: “إن ثبت صحة (تقرير هيرش)، فنحن على أبواب معضلة كبيرة” (تعليق السيناتور على “تويتر”، 8 شباط/فبراير 2023).
ما قصده السيناتور مايك لي أن الإدارة الأميركية أخلّت بعرف التعامل السائد بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية، في مسائل بالغة الحساسية، والذي يقضي بإبلاغ “مجموعة الثمانية” في الكونغرس بالخطط السرّية، والمكوّنة من: زعيمي الحزبين في كلا مجلسي الكونغرس، ورؤساء لجان الاستخبارات في المجلسين ونوابهم.
في هذا الصدد، تنبغي الإشارة إلى دراسة أعدتها “مؤسسة راند” لصالح البنتاغون ركزت فيها على استهداف روسيا عبر اتباع أفضل السبل لاستغلال مواطن ضعف “اقتصادها، وكذلك الثغرات السياسية والعسكرية”، في سياق المواجهة مع موسكو، وناشدت الإدارة الأميركية اتخاذ تدابير عاجلة من أجل “تقليص حجم صادرات (روسيا) من الغاز وإعاقة جهود توسيع طاقة الأنابيب” الناقلة له (دراسة بعنوان “توسّع روسيا: التنافس على أرضية مواتية”، أيلول/سبتمبر 2022).
أيضاً، نلفت النظر إلى “معرفة” مسبّقة للحكومة الألمانية بموعد التفجير وهوية الفاعل. إذ نشرت كبرى الصحف الألمانية “دير شبيغل” تقريراً في اليوم التالي للتفجير، 22 أيلول/سبتمبر 2022، يشير إلى تلقي الحكومة الألمانية “تحذيراً (خطياً) من وكالة الاستخبارات المركزية (الأميركية) من وقوع هجوم محتمل يستهدف أنبوب الغاز”، ونقلت الصحيفة كذلك على لسان “مسؤول رفيع” في الحكومة الألمانية يعرب فيه عن “الحنق الشديد” الذي تملّك مسؤوليها “لاستثناء مشاركتهم في تلك المعلومات”.
تفجير انبوبي الغاز يعد بمثابة “جريمة حرب” في العلاقات الدولية ونصوص القانون الدولي. القاضي اليميني الشهير والمعلق السابق في شبكة “فوكس نيوز”، أندرو بوليتانو، كان شديد الوضوح في توصيف العملية، بالقول: “من المنظار القانوني الصرف (فالعملية) تندرج تحت بند إعلان حرب ضد روسيا وضد ألمانيا. مهما تكن هوية الفاعل، وربما الاحتمال الأوحد هو الرئيس الأميركي نفسه، فقد تسبب في إلحاق الضرر بعشرات ملايين المواطنين الألمان والتسبب في استمرار معاناتهم خلال فصل الشتاء”.
وأردف “إنه إعلان حرب لم يصادق عليه الكونغرس، وهي عملية عديمة الأخلاق بالكامل، وغير دستورية بكل ما للكلمة من معنى. وربما عملية إجرامية” (مقابلة أجراها بوليتانو مع شبكة “ذي بوست ميلينيا – The Post Millenia” الكندية، 13 شباط/فبراير 2023).
نسوق ذلك للتمهيد إلى استنتاجات توصلت إليها هيئة تحرير صحيفة “واشنطن تايمز”، في مقالها المنشور، تسلط فيه الضوء على قرار البيت الأبيض بالتخطيط لعملية التفجير وتنفيذها بسريّة عالية، من بينها: “ازدياد مداخيل الطاقة لروسيا بنسبة 28% في عام 2022، بالرغم من خسارتها لصادراتها الأوروبية”. ودقت هيئة التحرير ناقوس الخطر لدى صنّاع القرار في واشنطن بأن استهدافهم لروسيا دفعها إلى التوجّه شرقاً وتشكيلها حلف أوراسي، ما “ينذر بتهديد هيمنة الغرب على الوضع الجيوسياسي العالمي”. واردفت “كيف يمكن اعتبار ذلك في مصلحة الولايات المتحدة؟”
وأضافت الصحيفة اليمينية أن “تحقيقاً أجرته ألمانيا لم يتوصل إلى أي دليل يثبت تورط روسيا في الكارثة”، تواكبه تصريحات الرئيس جو بايدن العلنية بأنه “إن أقدمت روسيا على تنفيذ الغزو (لأوكرانيا) لن يكون هناك خط سيل -2 الشمالي بعد الآن. وسنقوم نحن بالقضاء عليه” (صحيفة “واشنطن تايمز”، 13 شباط/فبراير 2023).
إذن، ما هي طبيعة الرد الروسي وفق الحسابات الأميركية على عملية تفجير سرّية، استمرت من 26 إلى 29 أيلول/سبتمبر 2022، من دون ترك إي دليل يحدد هوية الفاعل: معادلة عمل تخريبي تقابله أعمال تخريبية ضد أهداف أميركية منها بناها التحتية، أيضاً من دون ترك أدّلة ميدانية. ولن تسلم منشآت مصافي النفط والغاز الأميركية من رد الفعل المنظور.
كما باستطاعة روسيا إعاقة سيل الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا وتدميرها لمنع وصولها إلى الميدان. وربما، بحسب البعض، تقدم موسكو على اختراق إلكتروني لشبكات النقل الأوروبية للتأثير على جهود إيصال معدات حلف الناتو العسكرية براً إلى كييف.
أشدّ ما تخشاه واشنطن، وامتداداً حلف الناتو، تراجع صدقية سرديتها بأنها تخوض “حرباً عادلة ضد خصم أو خصوم يريدون بها السوء”، وتزعزع قناعة جمهورها بأن عليه “التمسك” بالسردية الرسمية ورفض كل ما يصدر عن الطرف الآخر.
لعل تقرير سيمور هيرش يضع لبنة سنمّار الأولى في جدار الهيمنة الغربية، والأميركية تحديداً، على وسائل الإعلام والتوعية الجماهيرية، خصوصاً في ظل توفرّ بدائل أخرى متواضعة بالمقارنة.
.
رابط المصدر: