أثار اختفاء وزير الخارجية الصيني تشين غانغ (57 عاماً) عن الأنظار، منذ 25 يونيو الماضي، تساؤلات حول مصيره. وقد زادت التكهنات بعد تأجيل الصين لقاءً بين تشين ومسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل كان مُقرراً هذا الشهر. لكن اللجنة الدائمة لمجلس الشعب الصيني، وهي اللجنة المسؤولة عن تعيين وإقالة الوزراء، وضعت حداً للأقاويل في 25 يوليو الجاري بالإعلان عن استبعاد تشين من منصب وزير الخارجية، وتعيين أكبر الدبلوماسيين في الحزب الشيوعي، ووزير الخارجية السابق وانغ يي، مكانه. ويجعل هذا القرار وانغ أول دبلوماسي يشغل المنصبين في وقت واحد منذ تشيان تشيشان (1992-1998).
وصاحب هذا الإعلان إزالة أخبار كل الفعاليات التي شارك فيها تشين خلال السبعة أشهر التي قضاها في منصبه، وأهمها اجتماعه مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في 18 يونيو، ومباحثاته مع نائب وزير الخارجية الروسي أندري رودكين في آخر يوم قبل اختفائه.
ولم تُقدِّم بيجين أي مسوغات لاستبعاد تشين. وفي إحاطة لوزارة الخارجية، امتنعت المتحدثة باسمها عن تقديم أي تفاصيل، مُكتفية بالإشارة إلى “أسباب صحية“. وتبنَّت وسائل الإعلام الحكومية نفس النهج، باستثناء وكالة شينخوا الرسمية التي نشرت خبراً مُقتضباً مفاده أن الرئيس شي جينبنغ وقَّع على أمر رئاسي يُدخِل قرار الاستبعاد حيز التنفيذ.
ملابسات استبعاد تشين
مثَّل وانغ الصين، في 24 يوليو الجاري، في اجتماع مستشاري الأمن القومي لدول البريكس في جوهانسبرغ. وعلى رغم أن حضور هذا الاجتماع من صميم مهامه الجديدة في الحزب الشيوعي، فإن إعادة وانغ لمنصب وزير الخارجية يبدو منطقياً لعدة أسباب، قد يكون أهمها الآتي:
- أن تولي المنصب حالياً له طبيعة مؤقتة، وسيكون وانغ قائماً للأعمال، خصوصاً أنه تجاوز السِّن المخصصة للتقاعد في الجهات الحكومية (68 عاماً)، ومن غير المتصور استمراره فيه بشكل دائم.
- اقتراب انعقاد قمم وأحداث دولية مهمة، من قبيل قمة “آسيان” في سبتمبر المقبل، وقمة المنتدى الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ “أبيك” في الولايات المتحدة في نفس الشهر، وقمة مجموعة العشرين في الهند في سبتمبر أيضاً.
- يملك وانغ خبرة كبيرة في إدارة أجهزة الوزارة وعلاقات دولية وساعة مستندة إلى خبرته وزيراً للخارجية لقرابة عقد (2013-2022). إلى جانب معرفته العميقة بأبعاد العلاقات الصينية – الأمريكية، وخبرته الواسعة بشؤون تايوان (تولى منصب مدير مكتب شؤون تايوان في الحزب قبل وزارة الخارجية)، وهي خبرة ستكون مفيدة للغاية مع اقتراب الانتخابات الرئاسية التايوانية في يناير المقبل.
وكانت حياة تشين العملية حافلة وغنية وسريعة، ويُنظر إليه باعتباره أحد المقربين للزعيم شي. وقد حُضِّر تشين لتولي منصب وزير الخارجية على مدار سنوات، شملت قيادة فريق البروتوكول في الوزارة (المسؤول عن تنظيم رحلات شي في الخارج، وهو ما تطلب العمل معه شخصياً في معظم الأوقات)، ثم تعيينه سفيراً للصين في واشنطن لفترة وجيزة، قبل استدعائه لقيادة وزارة الخارجية، وهو المنصب الذي استمر فيه سبعة شهور فقط.
وعلى رغم استبعاد تشين، فإن ثمة تناقضات في القرار، أهمها احتفاظه بمنصب مستشار في الحكومة (أعلى من درجة وزير). إلى جانب ذلك، لا يزال تشين يوصف بـ”الرفيق” في الحزب الشيوعي، ويحتفظ بمنصبه الآخر عضواً في اللجنة المركزية للحزب. وعمَّق هذا التناقض الشكوك حول الأسباب الحقيقية وراء استبعاده. فعلى سبيل المثال، لم تستبعد اللجنة الدائمة لمجلس الشعب تشين من منصب المستشار الحكومي رغم صلاحياتها التي تسمح لها بذلك. وفي ديباجة القرار، استخدمت اللجنة، عمداً، لفظ “استبعاد” وليس “إقالة”. ويُميِّز القانون الأساسي لمجلس الشعب الصيني بين اللفظين بوضوح: فـ”استبعاد” توحي بأن تشين يخضع لتحقيق رسمي تحت إشراف اللجنة المركزية لفرض الانضباط في الحزب الشيوعي، وأن التحقيق لا يزال جارياً، بينما يشير لفظ “إقالة” إلى انتهاء التحقيق وظهور نتائجه.
فضلاً عن ذلك، قد تكون السرعة التي اُستبعِد فيها تشين من منصب وزير الخارجية، والإعلان عنه، مرتبطان بحساسية منصبه، وبفاعلية العمل الدبلوماسي الصيني وصورة بيجين في الخارج. ولا تنطبق هذه الملابسات على منصب المستشار الحكومي الذي لا يحمل تبعات مرتبطة بتعقيدات السياسة الخارجية للدولة الصينية.
دوافع محتملة خلف الاستبعاد
يظل الدافع الحقيقي خلف استبعاد تشين غير معروف، وربما يظل سرياً لمدةٍ طويلةٍ جداً. كما أن الوقت لا يزال مبكراً للتوصل إلى استنتاجات متماسكة وأقرب للصحة بشأن الأمر. ومن ثم، فإن هذا القسم يعتمد على التكهنات المبنية على أدلة مبدئية، رغم عدم القدرة على التحقق من بعضها بعد.
أولاً، دافع الموانع الصحية: وهو السبب الذي سعت وزارة الخارجية لتسويقه. ولا يجب استبعاد هذا الدافع كلياً. لكنه، رغم ذلك، يظل غير مرجح لأسباب أهمها إزالة جميع أرشيف لقاءات تشين وخطاباته وأنشطته من موقع وزارة الخارجية. وإذا كان الاستبعاد له أسباب صحية، فإنه لم يكن ضرورياً حجب أرشيف تشين. ويشير ذلك إلى أن الأسباب قد تكون سياسية في المقام الأول.
ثانياً، دوافع فرض الانضباط: وترتبط هذه الدوافع بالشائعات والتكهنات حول علاقة تشين الشخصية بفو تشياوتن، مقدمة برنامج “حوار مع قادة العالم” في قناة فوينكس، ومقرها هونغ كونغ، على رغم زواجه لسنوات. ولمَّحت فو، التي تعيش حياة مترفة للغاية لا تتناسب مع وظيفتها، على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى وجود علاقة شخصية مع تشين، ونشرت صورة لابنها الرضيع في نفس المنشور مع صورة أخرى لتشين. وبعد أن أثارت هذه المنشورات الكثير من الجدل حول وجود علاقة خاصة مع وزير الخارجية، لم تنف فو الأمر. إلى جانب ذلك، فإن فو توقفت عن الظهور في برنامجها تقريباً في نفس توقيت توقف تشين عن القيام بمهامه. ومع أن مثل هذه العلاقة، إن وجدت، لا تعد مخالفة قانونية، فإنَّه قد ينظر لها باعتبارها خروجاً عن محددات الوظيفة رفيعة المستوى وفقاً لقواعد لجنة الانضباط في الحزب الشيوعي.
ثالثاً، دوافع سياسية: ويرتبط هذا السبب بالسرعة الفائقة التي شهدها صعود نجم تشين في السلك الدبلوماسي الصيني، والذي قد يكون السبب في ظهور خصوم أكبر سناً وأعمق خبرة. وبات هذا الاحتمال ممكناً استناداً إلى التغيرات العميقة في التنافس السياسي داخل الجهاز البيروقراطي الصيني. وخلال عصري ماو تسيدونغ ودنغ تشياوبنغ، هيمنت الأيديولوجيا على فلسفة التنافس الداخلي، لكن اليوم أصبح هذا التنافس مُحدَّداً بشبكة علاقات المتنافسين على مستوى القيادة العليا، والفصائل المتصارعة.
الاستنتاجات
ليس من المؤكد بعد السبب الحقيقي وراء استبعاد وزير الخارجية الصيني تشين غانغ. لكن ثمة حقائق ينبغي تسليط الضوء عليها، وهي:
- إن كان تشين لا يزال حياً (إذ تُدووِلت شائعات بأنَّه فارق الحياة)، فإن مزيجاً من دوافع فرض الانضباط والدوافع السياسية يظل أكثر ترجيحاً ومنطقية لشرح هذا الاستبعاد المفاجئ.
- أن تشين ربما يكون خاضعاً حالياً لتحقيق لا يزال مستمراً في ما تعدُّه قيادة الحزب الشيوعي مخالفة صارخة استدعت إقالته بعد فترة وجيزة في المنصب، رغم قربه من الرئيس شي. ويُفسِّر ذلك إبقاء تشين في منصبه في الحكومة، وعدم إقالته من جميع مناصبه الحزبية تحسُّباً -ربما- لتبرئته لاحقاً.
- من غير الواضح بعد إذا ما كانت هذه التطورات ستقود إلى نهاية حياة تشين العملية، أم أنَّه قد يُعاد تأهيله مرة أخرى في منصب آخر (كما حدث في السابق مع مسؤولين آخرين).
- على المستوى الداخلي، لن تقود هذه التفاعلات إلى إحداث تأثيرات سياسية مباشرة على الرئيس شي، أخذاً في الاعتبار كسره للبروتوكول وقواعد الترقيات السياسية في تصعيد تشين. وعلى العكس، فإنه بعد انتهاء فترة صمت وسائل الإعلام الرسمية، يتوقع أن يُسوَّق قرار الاستبعاد، وعلاقة تشين الشخصية مع شي، باعتبارهما أمرين يعكسان عدم تسامح القيادة الصينية مع أي مخالفات أو فساد حتى لو طال أقرب حلفاء القائد الأعلى.
- على المستوى الخارجي، لا يتوقَّع أن يؤثر استبعاد تشين في علاقات الصين الخارجية مع القوى الكبرى أو دول شرق آسيا أو الشرق الأوسط، ولا يتوقع تأثُّر فاعلية الماكينة الدبلوماسية في تمثيل مصالح الصين في القمم والفاعليات متعددة الأطراف المنتظرة في وقت لاحق هذا العام. لكن، قد ينظر في الغرب إلى الدبلوماسية الصينية باعتبارها شريكاً دبلوماسياً غير مستقر، ويصعب التعويل عليه أحياناً. فضلاً عن ذلك، فإن جاذبية “النموذج الصيني”، بوصفه منافساً للنموذج الديمقراطي الغربي، قد تتأثر في دول الجنوب العالمي بالنظر لدور فلسفة الحكم السلطوي والتنافس الداخلي بين كبار مساعدي الرئيس على القرب منه أحياناً في تغذية عدم الاستقرار في مؤسسات الدولة الحساسة.
.
رابط المصدر: