ثمة هناك حالة من التقارب الملحوظ بين حلف شمال الأطلسي “الناتو” وبين موريتانيا؛ تجسّدت بصورة رئيسية في الزيارات الرسمية التي حدثت خلال الشهر المنصرم (مايو 2024)، مثلما هو الحال بالنسبة لزيارة الأميرال ” بوب بوور” رئيس اللجنة العسكرية لحلف الناتو إلى موريتانيا في الثالث من مايو 2024، وكذا زيارة “حننا ولد سيدي” وزير الدفاع الموريتاني إلى مقر الحلف في العاصمة البلجيكية وذلك في التاسع والعشرين من مايو 2024؛ لتجسد نقطة تراكمية في مسار التحول النوعي في علاقة الطرفين جنبًا إلى جنب وأنها تُمثل محطة تقييمية لتطور العلاقات بين “الناتو” و “نواكشوط” قبيل قمة الناتو المزمع عقدها في “واشنطن” يوليو 2024.
التحول الاستراتيجي ومعادلة الأمن الإقليمي
إثر التطورات الجذرية التي شهدتها منطقة الساحل الأفريقي اللاحقة لسقوط “الأنظمة التقليدية” -ذات الشراكة الاستراتيجية الأمنية مع فرنسا- بسبب الانقلابات العسكرية المتعاقبة داخل دول تلك المنطقة وظهور نخبة عسكرية رافضة للقوى الاستعمارية الغربية وفي مقدمتها فرنسا؛ باتت هناك مساحة وجود روسي وصيني داخل دول الساحل سواء على صعيد التنسيق العسكري أو الاقتصادي والسياسي مع الأنظمة الوليدة، وما لذلك من أبعاد وانعكاسات من شأنها إحداث تغيرات في موازين القوى وفتح جبهة تنافس جيوستراتيجي لتلك القوى ضد المصالح الغربية الأمريكية داخل هذه المنطقة.
ولعل طبيعة الزيارات وتمثيلها يوضح بصورة جلية مدى التحول الاستراتيجي العسكري في العلاقات الموريتانية وحلف الناتو، والتي تأتي في سبيل تحقيق أبعاد ذلك التحول وفقًا للآتي:
- تعزيز المصالح في الساحل والصحراء وتوسيع نطاق المواجهة: في سبيل تعزيز التعاون العسكري لدعم مصالح الناتو في معادلة الساحل والصحراء ومواجهة النفوذ المتنامي للقوى العظمي الصاعدة وفي مقدمتها روسيا والصين، فضلًا عن تكريس النهج الجديد الذي يتبعه حلف شمال الأطلسي منذ عام 2022 والكامن في توسيع حدود التفاعل مع الجوار الجنوبي للناتو بما يعزز من صالح الحلف وتكريس موطئ قدم في الدول ذات التأثير في البحر المتوسط الأوسع، خاصةً وأن حلف شمال الأطلسي بات يركز في استراتيجياته على تحقيق تقارب مع دول التماس بالجناح الجنوبي للحلف، جاء التعويل على موريتانيا في سبيل تحقيق تلك التطلعات، والتي برّزت في التعهدات المختلفة نحو تطوير وتحديث القوات المسلحة الموريتانية وإمدادها بالقدرات التي تجعل منها ركيزة حيوية للتصدي للجماعات المسلحة في هذا النطاق الجيوستراتيجي. وجاءت موريتانيا لكي تكون النافذة الاستراتيجية للناتو في الجنوب؛ ويعزز من خلالها حلف شمال الأطلسي مصالحه عبر ربط مقارب مكافحة الإرهاب بين دول الحلف وبين موريتانيا وتقديم الدعم العسكري للجيش الموريتانيا منذ عام 2021 وتقديم التدريبات العسكرية اللازمة؛ مثلما هو الحال بالنسبة كتيبة الكوماندوز الثانية من القوات الخاصة الوطنية الموريتانية التي تشترك مع نظيرتها في الناتو في إجراء تدريبات عسكرية متباينة، وهذا الأمر سبق وإن تم الاتفاق عليه منذ عام 2021 في سياق حزمة بناء القدرات الدفاعية الموريتانية.
- توسيع عرضي لتأثيرات الحلف: أحد أبرز تطلعات الحزب هو التشبيك بين دائرة الأطلسي والبحر المتوسط، حيث إن هناك تنسيقات مع الحوار المتوسطي أو المنتدى الذي يجمع بين (مصر والجزائر وإسرائيل والأردن وموريتانيا والمغرب وتونس)، وتأتي الزيارات المتعددة لقادة حلف الناتو إلى موريتانيا في سبيل إحداث تفاهمات عسكرية يجعل الناتو من خلالها “نواكشوط” نقطة تمركز لعملياته في عمق الساحل والصحراء، وهذا الأمر يدفع الحلف في تحقيقه كأحد تكتيكات نهج الحلف تجاه جواره الجنوبي، ومن المرجح الإعلان عن خارطة تفاعلاته في قمة الناتو المقبلة المزمع عقدها في واشنطن خلال شهر يوليو (2024).
ولعل هذا التوسع ناجم بصورة رئيسية عن التحولات التي شهدتها منطقة الساحل الأفريقي وثيقة الصلة بأمن المنطقة الأوروبية الأطلسية، لذلك هناك مساعي من قِبل حلف الناتو لوضع استراتيجية لتعزيز نهج حلف شمال الأطلسي في هذه المنطقة.
- بدائل لمسارات الطاقة: في ظل إعلان موريتانيا عن اكتشافات حقل غاز “السلحفاة أحميم الكبير” خلال عام 2023 والمتضمن احتياطيات تصل لأكثر من 100 تريليون متر مكعب (وفقًا لما أعلنه وزير البترول والطاقة الموريتاني)، فإن هذا الأمر يجعل هناك منفذًا لتوريد الطاقة للجانب الأوروبي بديلًا عن المسارات التقليدية (الروسية والجزائرية)، في ظل التقارب الاستراتيجي الجزائري الروسي وعلاقات التذبذب في العلاقات الجزائرية الجنوب أطلسية، فإن هناك مساعي من دول حلف الناتو في الاستحواذ على الغاز الموريتاني لتعويض الآثار الناجمة عن وقف تصدير الغاز الروسي والجزائري للجانب الأوروبي.
معادلة ضاغطة ومساعي الوجود
على الرغم من أن العلاقات بين موريتانيا والناتو قد نمت بشكل ملحوظ منذ عام 2021 عقب مشاركة الرئيس محمد ولد الغزاوني في قمة “الناتو” في يناير من ذلك العام؛ وما تبعها من إعلان “الناتو” دعم مؤسسة الدفاع الموريتانية وتحديث أسلحة الجيش وتعزيز الشراكة في مجالات مختلفة مثل تطوير قوات العمليات الخاصة، واستخبارات الأمن البحري، وبرامج الانتقال الوظيفي العسكري، وإدارة مخزون الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة، والتعليم العسكري – فإن مسار التقارب قد تصاعدت وتيرته مطلع العام الجاري (2024)، ولعل من بين دلالات تصاعد وتيرة التقارب والتنسيق العسكري؛ يمكن رصدها في عدة عوامل أو دافع يتحرك خلفها حلف الناتو:
- روسيا وملء الفراغ: أحد دوافع التحرك المتلاحق لحلف شمال الأطلسي نحو مزيد من التنسيق التعاون العسكري مع نواكشوط، يكمن في حالة الفراغ التي تبعت الانقلابات العسكرية في دول الساحل وفي مقدمتها (مالي والنيجر وبوركينا فاسو) وما تمخضّ عنها من فك الارتباط بالأنظمة الغربية وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، قابلها زيادة تكريس الوجود الروسي في تلك الدول من خلال (فاغنر) وتحديدًا في مالي وبوركينافاسو، وطوّرت فيما بعد تلك الآلية لتنشأ ما يٌعرف باسم “الفيلق الأفريقي- الروسي” والذي برز دوره بدايات عام 2024 داخل تشاد ومالي والنيجر وليبيا والسودان، وهذا الأمر يجعل هناك تخوفات من جانب دول جنوب الأطلسي (الجانب الأوروبي) من تطويق لمصالحهما في العمق الأفريقي من جانب موسكو، في إطار الحرب المفتوحة والصراعات الممتدة بين روسيا والناتو.
ولم تكن موريتانيا بعيدة عن مساعي موسكو لتكريس وجودها العسكري في هذا المجال الحيوي؛ إذ إن الدولتين شهدتا توقيع اتفاقية تعاون عسكري في نهاية يونيو 2021 والذي تم إبرامه في العاصمة موسكو بين وزير الدفاع الموريتاني الجنرال “حنانا ولد سيدي”، ونائب وزير الدفاع الروسي “ألكسندر فومين”، وذلك على هامش مؤتمر موسكو للأمن الدولي.
- الصين ومساعي الاختراق: واحدة من بين المتغيرات الضاغطة على مصالح “الناتو” في منطقة الساحل ودائرة الأطلسي، يتجلى في مساعي “بكين” لتعزيز وجودها في تلك الدائرة عبر استغلال حالة إعادة التوازن الراهن الذي تشهده دول منطقة الساحل مع القوى الغربية وخاصةً (فرنسا والولايات المتحدة) لتفعيل معادلة رابح – رابح اقتصاديًا مع دول الساحل، ليس هذا فحسب بل ثمةّ مساعي صينية لاستمالة موريتانيا إليها وهو ما برز في الزيارة التي أجراها الرئيس “ولد الغزواني” إلى “بكين” نهاية يوليو 2023 والتي نتج عنها إعفاء “نواكشوط” من 20 مليون دولار أمريكي (ديون لصالح الصين)، وما تبعها من تواتر تقارير تفيد بأن الصين تستهدف تخطيط وتدشين قاعدة بحرية قرب الشواطئ الموريتانية في سبيل الحفاظ على مصالحها التجارية في هذا النطاق.
ولعل وجود الصين ضمن مهددات حلف الناتو في دائرة الأطلسي اتضحت في مخرجات قمة الحلف في مدريد (يونيو 2022) والتي شهدت ظهور المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف شمال الأطلسي والمتضمن الصين إلى جانب روسيا، لكونهما مهددين لمصالح دول الناتو في العديد من المناطق الجيوستراتيجية منها منطقة المحيطين الهندي والهادئ وجنوب الأطلسي.خلاصة القول؛ باتت موريتانيا تدخل كطرف رئيس ونقطة استقطاب حيوية حاضرة في معادلة صراع روسيا وحلف شمال الأطلسي، عقب التحولات الجيوستراتيجية داخل دول الساحل وظهور نخبة عسكرية رافضة لدوائر التحالفات التقليدية القاصرة على الجانب الغربي، بل ثمةّ حالة تقارب بين تلك الأنظمة العسكرية الوليدة وبين الشرق (روسيا والصين)؛ الأمر الذي يفرض بطبيعة الحال محاولة شد الأطراف وتعظيم الاستفادة من الجوار الجغرافي لتلك الدائرة، حيث يسعى الناتو لترقية علاقاته بموريتانيا لمستوى الحليف الاستراتيجي وترجمة ذلك بمزيد من التعاون العسكري، في حين تسعى كل من روسيا والصين لإيجاد موطئ قدم في صورته العسكرية داخل تلك الدولة للتموقع على الساحل الأطلسي على الجناح الجنوبي للناتو. بما يُنذر بمزيد من الاستنفار العسكري من جانب قوى التنافس داخل هذه الدائرة.
المصدر : https://ecss.com.eg/47259/