تقدير موقف حول أزمة سد النهضة

تعتبر قضية المياه على رأس قضايا الأمن القومي بالنسبة لمصر التي تعتمد على “مياه نهر النيل ” كمصدر أساسي نظرًا لندرة الأمطار ومحدودية المياه الجوفية غير المتجددة، ومن هنا تأتي خطورة بناء سد النهضة كمشروع إنمائي لإثيوبيا يندرج ضمن “مبادرة حوض النيل ” التي وقعت عليها كل من (إثيوبيا -كينيا – تنزانيا – أوغندا – رواندا – بوروندي ) لتنفيذ مشروعات تنموية على المجرى النهري و توليد الطاقة الكهربائية بشكل أحادي، مما ينعكس سلبًا على مصر والسودان. حيث يتوقع أن تنخفض حصة مصر السنوية من مياه النيل من 55مليار متر مكعب إلى مقدار يتراوح من 35 إلى 40 مليار متر مكعب.

أزمة السد وأبعادها

يجري بناء سد النهضة الإثيوبي على نهر النيل الأزرق الذي يمثل المصدر الرئيسي لإيرادات مياه النيل بنسبة ” 86٪ “، وتتزايد خطورة السد مع اعتزام إثيوبيا بناء مجموعة سدود بسعة تخزينية تبلغ 200 مليار م3 من مياه النهر لتوليد طاقة تبلغ 45 ألف ميجاوات من إجمالي 200 ألف ميجاوات تمثل المستهدف الاستراتيجي لإثيوبيا وهو ما سيتيح لها التحكم منفردة في ضخ المياه لدولتي المعبر والمصب.
وتكمن أهمية السد بالنسبة لإثيوبيا في التالي :

  • شرعنة بناء السدود في دول منبع حوض النيل بشكل أحادي.
  • نقل عملية تخزين مياه النيل من السد العالي بمصر إلى إثيوبيا.
  • التحكم في مصادر الطاقة الرئيسية لدول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا.
  • زيادة القدرات الشاملة للدولة الإثيوبية – بالاعتماد على التوسع الزراعي [ إزالة 40٪ من الغابات وزراعة الأرض ] وزيادة الطاقة لتطوير الصناعة، وتحسين الأوضاع المعيشية، وزيادة الدخل القومي .

ومنذ الشروع في البناء الفعلي للسد تبنت إثيوبيا إستراتيجية في التعامل مع الأزمة ترتكز على استنزاف الوقت وإطالة أمد التفاوض لفرض موقف تنفيذي على الأرض يصعب تجاوزه، بالتوازي مع استمرار تحقيق تقدم في عملية بناء السد دون تقديم ضمانات حقيقية لحقوق مصر في مياه النيل .

على مدار 7 سنوات لم تحقق المفاوضات أيَّ تقدم ملموس. ويدور الخلاف بين مصر وإثيوبيا حول فترة ملء وكيفية تشغيل السد، ومؤخرًا أعلنت مصر والسودان فشل جولة المفاوضات الأخيرة التي عقدت في كينشاسا عاصمة الكونغو الديمقراطية، وتبادلت بيانات صادرة من الدول الثلاثة الاتهامات حول أسباب عدم التوصل إلى اتفاق لإعادة استئناف المفاوضات، حيث تتمسك مصر والسودان بالدعوة لتوسيع الوساطة لتشمل أمريكا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي برئاسة الاتحاد الأفريقي، وهو ما ترفضه إثيوبيا التي تصر على قصر التفاوض على الاتحاد الأفريقي فقط.

وقد ازداد التوتر مع الإصرار الإثيوبي على المضي قدما في بدء الملء الثاني لخزان السد في يوليو المقبل، وهو ما يمثل تهديدا مباشرا للأمن المائي المصري، وصولا إلى احتمال بيع أثيوبيا المياه إلى مصر حسبما صرح المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية أن “من حق إثيوبيا بيع المياه الفائضة عن حاجتها بعد الملء الثّاني لخزان سد النهضة”.

أما السيسي فقد صرح مؤخرا بأن مياه النيل “خط أحمر” و أن المساس بها سيكون له تأثير على استقرار المنطقة بكاملها، في تلويح لاستخدام الخيار العسكري مع التأكيد على التمسك بالتفاوض كخيار أولي، لكنه سرعان ما أطلق تصريحات بعدم نيته خوض حرب بعد أن تلقى اتصالات دولية تحذره من تنفيذ عمل عسكري ضد السد. في حين يميل السودان إلى التمسك بالمسار السياسي والتفاوضي وهو ما أكده المسئولون المدنيون السودانيون مثل رئيس الوزراء ووزير الخارجية ووزير الري في تصريحاتهم بأن التعامل العسكري مع الأزمة أمرٌ غير مطروح بالنسبة لهم.

ومنذ الانقلاب على البشير في أبريل 2019، لعبت إثيوبيا دورًا فاعلًا ورئيسيًّا في ترتيب الفترة الانتقالية في السودان ورعاية اتفاق السلام بين الحكومة والحركات المسلحة، ولكن حدث تصعيد في الأزمة الحدودية بمنطقة الفشقة في ظل حالة من الهشاشة وانعدام الاستقرار في المنطقة في ظل الاقتتال الداخلي في أثيوبيا في إقليم التجراي، وانخراط إريتريا في الصراع الإثيوبي، وتدفق آلاف اللاجئين الإثيوبيين إلى السودان هربا من القتال في أثيوبيا، فضلا عن اضطراب الأوضاع في السودان في دارفور وشرق السودان، والمشاكل السياسية والاقتصادية الداخلية بين القوى المدنية والمكون العسكري.

التحرك المصري قبل الملء الثاني

عملت مصر على احتواء السودان وكسب تأييده وتحويل المعادلة التفاوضية إلى “2+1” أي «مصر والسودان معًا في مقابل إثيوبيا» عبر العديد من الاتفاقيات والزيارات على مستوى رفيع وصولا إلى زيارة السيسي نفسه للسودان في مارس 2021، وكذلك تكثيف التدريبات العسكرية بين البلدين في رسائل واضحة للطرف الإثيوبي، فتوحيد الموقف المصري السوداني هو الضامن الوحيد لقوة موقف الدولتين.

وجدير بالذكر أنه منذ بدء الأزمة والموقف السوداني اتسم بالاضطراب بين الحياد أو الميل للطرف الإثيوبي إلا أنه مؤخرًا مع تفاقم أزمة الحدود بين السودان وإثيوبيا حاولت مصر استثمار التوتر بين الخرطوم وأديس أبابا بشكل جاد للضغط على إثيوبيا لعقد مفاوضات جادة تفضي إلى حل مرضي لكل الأطراف.

كما عملت مصر على تعزيز تعاونها العسكري والأمني في دول الجوار الإثيوبي رغم مواجهتها مجموعة من المصاعب والتحديات – يتمثل أبرزها في شبكة التحالفات الإقليمية والدولية المؤثرة في تلك الدول. فقد وقعت مصر اتفاقا عسكريا مشتركا مع كل من السودان وأوغندا وبوروندي، هذا بجانب جولة موسعة قام بها وزير الخارجية “سامح شكري” في 19 أبريل إلى كل من ( كينيا، جزر القمر، جنوب إفريقيا، الكونغو الديمقراطية، تونس، السنغال) لشرح الموقف المصري فضلا عن جولات أخرى سابقة.

الوضع الداخلي في مصر وتأثيره على اتخاذ القرار

يواجه النظام المصري أزمةً مالية في ظل أزمة كورونا وتوقف الدعم الخليجي، ويحاول تعويض ذلك بالاستدانة من المؤسسات الدولية والمحلية لكن هذا أوصل فوائد الديون في ميزانية 2020″ 2021 إلى 566 مليار جنيه. وبالتالي لجأ النظام لزيادة الضرائب وفرض جبايات على المواطنين مما أوجد حالة من الاحتقان الشعبي دفعت النظام للتراجع في ملفين مهمين هما تسجيل العقارات في الشهر العقاري، وغرامات التصالح على المباني. وبالتالي فإن أي أزمات إضافية تنتج عن نقص مياه النيل ستؤدي إلى تداعيات كبيرة على القطاعات الزراعية والصناعية فضلا عن حياة المواطنين مما يهدد بحدوث اضطرابات داخلية.

وبالتوازي مع ما سبق، يوجد انزعاج داخل مؤسسات بالدولة ولدى أفراد داخل المؤسسة العسكرية والمخابرات العامة من طريقة إدارة السيسي لملف أزمة النهضة، حيث يتبنون توجيه ضربة عسكرية محدودة للسد لدفع أثيوبيا للانخراط في تفاوض جاد.

ومع تأزم الموقف هناك خياران أمام مصر. الخيار الأول، هو الخيار الدبلوماسي والقانوني، فالمادة 36 من ميثاق مجلس الأمن الدولي تخول للمجلس التدخل في أي مرحلة من مراحل النزاع بين الدول وإصدار قرارات ملزمة لكل الأطراف. كما يمكن للمجلس وفق المادة 38 من ميثاقه فرض وساطة دولية أو إصدار قرار تحكيمي أيضا لتجنب أي صراع أو حرب قد تندلع بين الدول المتنازعة. والخيار الثاني هو الخيار العسكري الذي يقتصر على توجيه ضربات تساهم في تعطيل عمليات البناء أو تؤثر على المعدات الفنية المهمة لتشغيل السد.

إمكانية توجيه ضربة عسكرية لسد النهضة

يوجد أمام النظام المصري مساران للتعامل مع الأزمة :

أولًا : عدم توجيه ضربة عسكرية، وقبول الوضع الراهن

سيعتمد النظام المصري هذا السيناريو في حال فشله في حل الأزمة بالتفاوض أو فشله في توفير غطاء دولي من بعض الدول الكبرى مثل روسيا لتنفيذ ضربة عسكرية، وعدم قدرته على تجاوز الفيتو الأميركي بخصوص مهاجمة السد. وفي هذا المسار سيعمل النظام على محاولة تقليل الآثار السلبية للملء الثاني عبر مجموعة من الإجراءات مثل مشروع تبطين الترع الذي بدأ العمل فيه عام 2018، ومشروع معالجة مياه الصرف وتحلية مياه البحر والحد من زراعة المحاصيل شديدة الاستهلاك للمياه.

ولكن هذا السيناريو ستكون له تداعيات سلبية على المواطن المصري في ظل عدم قدرة الإجراءات أعلاه على تعويض النقص في المياه مما سيؤثر سلبًا على الزراعة والصناعة وحياة المواطنين، كما سيؤثر ذلك سلبًا على الصورة الذهنية للسيسي ونظامه وقد يصل إلى فقدانه المشروعية أمام مؤسسات الدولة في ظل فشله في التعامل مع تلك القضية الوجودية وتجاهله لتحذيرات المؤسسات السيادية بالدولة من خطر عقده لاتفاق المبادئ وطريقته في التفاوض لحل الأزمة.

ثانيًا : توجيه ضربة عسكرية محدودة

سيلجأ النظام لهذا السيناريو في حال تقديره بأن الآثار الجانبية للملء الثاني للسد لا يمكن احتواء ضررها، ووجود ضغط شديد من الأجهزة السيادية لشن عمل هجومي ضد السد، ووجود غطاء دولي من بعض الدول الكبرى مثل روسيا لتنفيذ ضربة عسكرية محدودة. لكن توجد عوائق أمام هذا السيناريو تتمثل في صعوبة تقدير أبعاد رد الفعل الدولي والأفريقي على الهجوم المصري، والذي قد يصل إلى فرض عقوبات على مصر، فضلا عن أن أثيوبيا ستتعنت مع مصر بشكل أكبر في ملف المياه مما قد يدفع لمواجهات عسكرية مستقبلية أكثر حدة.

الخيار الحالي

بحسب التطورات والمستجدات الدولية والإقليمية الحالية، وتوجهات وضغوط المؤسسات السيادية المصرية مثل الجيش والمخابرات العامة، سيختار النظام المصري أحد السيناريوهين خلال الفترة القادمة قبل بدء الملء الثاني في شهر يوليو 2021. وحتى الآن يترجح أن خيار السيسي هو عدم توجيه ضربة عسكرية.

.
رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M