ريتشارد هاتشيت
بلغ تفشي فيروس «كورونا» الجديد مرحلة جديدة، مع بدء انتقال العدوى من شخص لآخر في بلدان مختلفة حول العالم، مما دفع كثيراً من الدول إلى دقّ نواقيس الخطر اقتصادياً واجتماعياً مخافة المخاطر الكبيرة التي باتت تفرضها الأوبئة اليوم، نتيجة ترابط عالمنا واتصاله الوثيق أكثر من أي وقتٍ مضى.
وبالطبع؛ سيكون من الصعب للغاية وقف انتشار الفيروس كلياً من خلال العزل والحجر الصحي، رغم أن الإجراءات الاحتياطية التي تتخذها الحكومات، بما فيها في دول الخليج العربي، قد تحدّ من سرعة انتشاره وتمنحنا وقتاً إضافياً لإيجاد حلول أكثر نجاعة.
ولعل الحلّ الأمثل هو الاستثمار في تطوير لقاح فعّال يعالج هذا الفيروس؛ إذ نعلم جميعاً أن اللقاحات هي السلاح الوحيد القادر على القضاء على الأمراض المُعدية بشكل جذري. ورغم تسجيل أكثر من 80 ألف حالة إصابة و2700 وفاة بسبب الفيروس؛ معظمهم في الصين، فإننا ما زلنا نجهل الكثير عن فيروس «كورونا» المسبب لمرض «كوفيد 19»؛ ويشمل ذلك عدد الأشخاص الذين قد يُصابون بالعدوى من شخص مصاب، ومعدل الوفيات الناتجة عن المرض، وما إذا كان الفيروس مرضاً موسمياً مثل الإنفلونزا ينحسر انتشاره بالتالي مع قدوم أشهر الصيف.
لكن في المقابل، هنالك حقائق واضحة لا يمكن إنكارها، مثل أن الفيروس صعب الاحتواء، ويشكل خطراً صحياً كبيراً، كما يُخشى من استمرار تفشيه، وأن يصبح مرضاً مستوطناً، وهنا سيغدو اللقاح حاجة ماسة أكثر من ذي قبل.
وبما أنه فيروس جديد ولا توجد معلومات مسبقة عنه، فهو مثل «مرض إكس» المجهول الذي لطالما شكل مصدر قلق لخبراء الصحة، فلا توجد بالتالي أي علاجات له أو إجراءات لمنع انتشاره.
وعليه، فإن ابتكار لقاح لهذا العدو القاتل مهمة شاقة بلا شك، لكننا استطعنا أن نحرز تقدماً بهذا الخصوص في زمن غير مسبوق، وذلك بفضل دعم «تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة (CEPI)» الذي تأسس عام 2017 عقب تفشي وباء «إيبولا» الفتّاك في غرب أفريقيا بين عامي 2014 و2015، لتسريع وتيرة العمل على ابتكار لقاحات للأمراض المُعدية الجديدة. وهذا التحالف منظمة عالمية تُضفّر جهود الهيئات العامة والخاصة والخيرية، ومنظمات المجتمع المدني، لمحاربة الأوبئة العابرة للحدود.
وعادة ما يحتاج ابتكار لقاح جديد لسنوات عدة، بل وأحياناً لعقود من الزمن. لكن في إطار برنامج نقوم بتمويله، فقد تمكنت شركة مختصة في التكنولوجيا الحيوية تدعى «مودرنا» من شحن الدفعة الأولى من لقاح فيروس «كورونا»، والذي تم إنتاجه بعد 42 يوماً فقط من إعلان التتابع الجيني للفيروس. وقد أُرسلت القوارير الأولى إلى «المعهد الوطني للحساسية والأمراض المُعدية» في الولايات المتحدة، في قفزة غير مسبوقة نحو تحقيق هدفنا في ابتكار لقاحات للأمراض مجهولة الأسباب، لتكون جاهزة للاختبار على البشر في غضون 16 أسبوعاً.
وبالتأكيد ما زلنا في البداية، فحتى لو أظهر اللقاح فعالية كما هو مأمول، فقد يستغرق الأمر نحو عام ونصف لاستكمال التجارب وزيادة الإنتاج.
ويعمل خبراء الصحة من القطاعين العام والخاص بجد وبأقصى سرعة ممكنة لبلوغ هذا الهدف. كما يدعم «تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة» العديد من المساعي الأخرى لإيجاد لقاح لمرض «كوفيد 19» (مثل جامعة كوينزلاند الأسترالية، وشركة «إينوفيو» لصناعة الأدوية، وشركة الأدوية الحيوية «كيورفاك»). كما نتعاون مع شركة «غلاكسو سميث كلاين»؛ الشركة العالمية الرائدة في تصنيع اللقاحات، حيث ستعمل الشركة على إتاحة «تكنولوجيا إضافة مواد مساعدة لمواجهة الأوبئة»؛ والمواد المساعدة هي مكونات خاصة تُضاف إلى اللقاحات لتعزيز الاستجابة المناعية وفعالية اللقاح.
لقد كانت الأبحاث التي أُجريت خلال فترات «الهدوء» بين الأوبئة مفيدة جداً في هذه الفترة العصيبة، حيث ساعدتنا على فهم فيروس «كورونا» بسرعة أكبر. فعلى سبيل المثال، يستند اللقاح الذي طورته شركة «مودرنا» إلى نتائج التجارب على الفيروسات التاجية الشبيهة بـ«كورونا» والمسببة لـ«متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس)»، و«المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس)».
علاوة على ذلك، يدعم «تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة (CEPI)» الجامعات وشركات التكنولوجية الحيوية لتطوير تقنيات اللقاحات القابلة للتعديل (أو ما تعرف بتقنية «الربط والتشغيل»)؛ وهي لقاحات تضم مكونات قياسية أساسية ويمكن التعديل عليها لتناسب كل مرض على حدة عبر الربط بين تتابعات جينية مختلفة.
ويتطلب ابتكار لقاحات جديدة مبالغ كبيرة، لكن التكلفة المقدرة لإيجاد لقاح لمرض «كوفيد 19» ضرورية للانتقال باللقاحات المقترحة إلى مرحلة التجارب السريرية واسعة النطاق، وهي أقل بكثير من الضرر الاقتصادي الكبير الذي سيسببه انتشار المرض. فقد ثَبُتَ تاريخياً أنه حتى الأوبئة الصغيرة قادرة على ترك تأثير سلبي كبير على الاقتصاد، فما بالك بهذا المرض المنتشر بشكل كبير. وقد سبب «كوفيد 19» حتى الآن تأثيراً مدمراً على قطاعي التجارة والسفر، وأنماط العمل وسلاسل التوريد حول العالم، وهو ما انعكس في انخفاض توقعات الناتج المحلي الإجمالي وتراجع أسواق الأسهم بشكل حاد.
إن ترابط عالمنا اليوم وانفتاحه المتزايد بعضه على بعض يسرّع انتشار الفيروسات بسرعة انتقال الطائرات النفاثة، ومن المؤسف أن هذا يزيد مخاطر تفشي الأوبئة على نحو كبير. وقد شهدنا خلال السنوات القليلة الماضية انتشار العديد من الأمراض؛ مثل «إيبولا»، و«حمى لاسا»، و«سارس»، و«كورونا»، و«زيكا»، و«نيباه». ورغم ذلك، فإنه لا يزال بإمكاننا أخذ الاحتياطات لمنع تفشي مزيد من الأمراض، وهو ما يتطلب تكاتف الحكومات والشركات والمجتمع المدني اليوم لابتكار لقاحات تحمي الأرواح والاقتصادات في المستقبل.
رابط المصدر: