حتى من قبل جائحة فيروس كورونا المستجد، التي تعتبر من أخطر الأزمات العالمية في عصرنا هذا، كانت هناك بلدان كثيرة تنظر إلى تلوث الهواء بوصفها مشكلة صحية كبيرة. فقد أشار تقرير حالة الهواء العالمي 2019 إلى أن تلوث الهواء كان يشكل خامس أكبر عامل خطر للوفيات حول العالم في 2017، مع مساهمة تلوث الهواء المحيط في حوالي 5 ملايين وفاة عالمياً، بمعنى وفاة واحدة من بين كل 10 وفيات. وقد وجد التقرير أن عدد من يموتون بالأمراض المرتبطة بالتلوث يزيد عن عدد من يموتون في حوادث السير أو بسبب الملاريا.
وقد فرض الإغلاق الاقتصادي الذي يهدف إلى احتواء تفشي الفيروس قيوداً شديدة على النشاط الاقتصادي، وبدأت تخرج علينا تقارير من كل أنحاء العالم تتحدث عن إمكانية رؤية السماء الزرقاء، أحياناً للمرة الأولى في العمر. لكن هل يتحول هذا إلى مستويات أقل من ملوثات الهواء الضارة؟
في الوقت نفسه، تشير الشواهد التي بدأت تظهر لنا إلى أن تلوث الهواء يؤدي إلى تفاقم آثار الفيروس على الصحة، ويجعل الناس أكثر عرضة للإصابة بفيروس كورونا، ويسهم في انتقاله. ماذا نعرف عن هذه العلاقة؟
جاءت التحسينات في جودة الهواء في وقت شهد قدراً لا يمكن تصوره من المعاناة الإنسانية وفقدان مصادر كسب الرزق. وسوف تتلاشى هذه التحسينات على الأرجح مع رفع الإغلاق واستئناف النشاط الاقتصادي. فهل سيعود الهواء إلى التلوث من جديد، أم هناك إمكانية أمام البلدان لاستخدام برامج التعافي الاقتصادي لمعاودة النمو على نحو أكثر قوة ونظافة، وبالتالي اجتناب أزمة صحية أخرى؟ ما أنواع السياسات القادرة على تمكين هذا الانتقال إلى سماء أكثر نظافة وصفاء؟
تلوث الهواء وفيروس كورونا وإعادة البناء بشكل أفضل
- هل يتم تحويل التقارير التي تتحدث عن السماء الزرقاء إلى مستويات منخفضة من ملوثات الهواء الضارة؟ نعم ولا.
- ماذا نعرف عن العلاقة بين تلوث الهواء وفيروس كورونا؟ الكثير، لكن هذه المعلومات ليست قطعية بعد.
- هل تستطيع البلدان معاودة النمو على نحو أكثر نظافة وتحفيز النمو الاقتصادي؟ نعم.
يتناول هذا المقال أثر الإغلاق على جودة الهواء، ويلخص المواد المنشورة المعنية بالعلاقة بين تلوث الهواء وفيروس كورونا، ويقترح توصيات على صعيد السياسات كي تعيد البلدان البناء بشكل أفضل.
ربما تكون السماء زرقاء، لكن ماذا تقول لنا البيانات عن جودة الهواء؟
فرض الإغلاق الذي طُبّق في 89 بلداً على الأقل، مؤثراً على أكثر من نصف سكان العالم، قيوداً شديدة على النشاط الاقتصادي حول العالم، مع ما ترتّب على ذلك من نتيجة غير مقصودة وهي الحد من تلوث الهواء. خرجت علينا تقارير في كل أنحاء العالم تتحدث عن إمكانية رؤية السماء الزرقاء، للمرة الأولى في العمر في بعض الحالات. وتُظهر بيانات الأقمار الاصطناعية عن مستويات تركيز ثاني أكسيد النتروجين قرب وقت الإغلاق مقارنة بمستوياته في الفترة ذاتها عام 2019 انخفاضا صارخا. وعلى صعيد مماثل، تُظهر البيانات المستمدة من القمر الاصطناعي Sentinel 5-P (انظر الشكل 1) أن متوسط مستويات ثاني أكسيد النتروجين في الفترة من 15 مارس/آذار إلى 30 أبريل/نيسان 2020 كانت أقل من مستوياته في 2019. ويُظهر الشكل 2 نتيجة مماثلة فيما يخص الهند. وكانت هذه النتائج متوقعة؛ حيث شهدت حركة مرور المركبات – وهي من أكبر مصادر انبعاثات ثاني أكسيد النتروجين – انخفاضاً شديداً أثناء الإغلاق. كما لفت التحليل الانتباه أيضاً إلى التقدم التكنولوجي الملحوظ الذي تحقق في قياس التلوث؛ حيث أتاحت بيانات الأقمار الاصطناعية قياس مستويات ثاني أكسيد النتروجين في الزمن شبه الحقيقي عالمياً.
الشكل 1: شهدت مستويات ثاني أكسيد النتروجين انخفاضاً حاداً أثناء الإغلاق عالمياً
متوسط تركيزات ثاني أكسيد النتروجين استناداً إلى بيانات الأقمار الاصطناعية بين 15 مارس/آذار-30 أبريل/نيسان 2020 (مع الإغلاق)
متوسط تركيزات ثاني أكسيد النتروجين استناداً إلى بيانات الأقمار الاصطناعية بين 15 مارس/آذار-30 أبريل/نيسان 2019 (دون إغلاق)المصدر: خبراء البنك الدولي.
ملاحظات: البيانات المستمدة من القمر Sentinel-5P حول ثاني أكسيد النتروجين (العمود التروبوسفيري الرأسي) معالجة من خلال محرك Google Earth
الشكل 2: شهدت مستويات ثاني أكسيد النتروجين انخفاضاً حاداً في أنحاء جنوب آسيا أثناء الإغلاق
متوسط تركيزات ثاني أكسيد النتروجين استناداً إلى بيانات الأقمار الاصطناعية بين 15 مارس/آذار-30 أبريل/نيسان 2020 (مع الإغلاق) وبين 15 مارس/آذار-30 أبريل/نيسان 2019 (دون إغلاق)
المصدر: خبراء البنك الدولي.
ملاحظات: البيانات المستمدة من القمر Sentinel-5P حول ثاني أكسيد النتروجين (العمود التروبوسفيري الرأسي) معالجة من خلال محرك Google Earth.
تسرد لنا البيانات المستمدة من أنظمة الرصد الأرضية عن مستويات ثاني أكسيد النتروجين قصة مماثلة. فمتوسط التركيزات اليومية لثاني أكسيد النتروجين في مقاطعة هوبي الصينية، التي تقع فيها مدينة ووهان، يُظهر انخفاضاً حاداً مع تطبيق الإغلاق (انظر الشكل 3 – الصورة اليسرى). لكن مستويات ثاني أكسيد النتروجين في 2020 عادت إلى مستوياتها التي كانت عليها في 2019 حالما تم رفع الإغلاق. وفي فرنسا، تُظهر البيانات المستمدة من أنظمة الرصد الأرضية أيضاً أن التركيزات اليومية من ثاني أكسيد النتروجين انخفضت أثناء الإغلاق وتوقف حركة المركبات (انظر الشكل 3 – الصورة الوسطى). بل وكان الأثر أشد وضوحاً في سهل الغانج الهندي – وهو من أشد المناطق تلوثاً في الهند – كما يتضح في الشكل 3 (انظر الصورة اليمنى).
الشكل 3: شهدت مستويات ثاني أكسيد النتروجين انخفاضاً حاداً في مقاطعة هوبي الصينية وفي فرنسا وفي سهل الغانج الهندي أثناء الإغلاق
المتوسط المتحرك اليومي على مدى 7 أيام لتركيزات ثاني أكسيد النتروجين استناداً إلى أنظمة الرصد الأرضية قبل الإغلاق وأثناءه وبعده
ملاحظات: تم الحصول على بيانات OpenAQ (https://openaq.org/) فيما يخص قياسات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون وثاني أكسيد النتروجين من أنظمة الرصد الأرضية فيما يخص الهند والصين وفرنسا تم دمج بيانات الهيئة المركزية لمكافحة التلوث (https://www.cpcb.nic.in/) في بيانات OpenAQ لسد الفجوات فيما يخص الهند. تم تنزيل البيانات من https://app.cpcbccr.com/ccr/#/caaqm-dashboard-all/caaqm-landing/data.
لكن هل يعني هذا الانخفاض في مستويات ثاني أكسيد النتروجين ضمناً أن الناس يتعرضون لمستويات أقل من الملوثات الضارة؟ تعتبر الجسيمات الدقيقة جداً القادرة على اختراق الرئتين بعمق والدخول إلى مجرى الدم من أخطر صور تلوث الهواء. وتتميز هذه الجسيمات، المعروفة باسم الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون، بقطر أيروديناميكي أقل من 2.5 ميكرون، بمعنى حوالي واحد على ثلاثين من سمك شعرة الإنسان. وبإمكان التعرض لهذه الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون التسبب في الإصابة بأمراض كسرطان الرئة والسكتة الدماغية وأمراض القلب.
فكيف أثّر الإغلاق على مستويات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون؟ لا تقدم بيانات الأقمار الاصطناعية تقديرات دقيقة للجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون في الزمن الحقيقي، ويلزم الحصول على بيانات مستمدة من أنظمة الرصد الأرضية.
تشير هذه البيانات إلى أن أثر الإغلاق ليس صارخاً (الشكل 4).
الشكل 4: أثر الإغلاق على مستوى الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون في مقاطعة هوبي الصينية وفي فرنسا وفي سهل الغانج بالهند
المتوسط المتحرك اليومي على مدى 7 أيام لتركيزات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون استناداً إلى أنظمة الرصد الأرضية قبل الإغلاق وأثنائه وبعده
المصدر: خبراء البنك الدولي
ملاحظات: تم الحصول على بيانات OpenAQ (https://openaq.org/) فيما يخص قياسات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون وثاني أكسيد النتروجين من أنظمة الرصد الأرضية فيما يخص الهند والصين وفرنسا تم دمج بيانات الهيئة المركزية لمكافحة التلوث (https://www.cpcb.nic.in/) في بيانات OpenAQ لسد الفجوات فيما يخص الهند. تم تنزيل البيانات من https://app.cpcbccr.com/ccr/#/caaqm-dashboard-all/caaqm-landing/data.
في مقاطعة هوبي الصينية، كانت مستويات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون في 2020 أقل من مستوياتها في 2019، لكن هكذا كان الحال حتى قبل فرض الإغلاق. علاوة على ذلك، تصادف الإغلاق مع فترة تنخفض فيها مستويات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون موسمياً. وفي فرنسا، لم يحدث تغيير في مستويات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون بعد فرض الإغلاق. وفي سهل الغانج الهندي، كما الحال في مقاطعة هوبي، كانت مستويات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون في 2020 أقل قبل فرض الإغلاق وبعده على السواء مقارنة بها في 2019، ربما نتيجة البرامج الحكومية لمكافحة تلوث الهواء أو العوامل المتعلقة بالأرصاد الجوية أو التباطؤ الاقتصادي في البلاد. لكن مستويات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون لم تشهد مزيداً من التراجع بعد فرض الإغلاق في سهل الغانج الهندي.
الصورة متباينة أيضاً على مستوى المدينة.
من المفاجئ أنه لم يلاحَظ أي فرق في مستويات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون في مدن شنغهاي وتيانجين وبكين الصينية نتيجة فرض الإغلاق (الشكل 5).
الشكل 5: لا أثر لفرض الإغلاق على مستويات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون في المدن الصينية
المتوسط المتحرك اليومي على مدى 7 أيام لتركيزات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون استناداً إلى أنظمة الرصد الأرضية قبل الإغلاق وأثنائه وبعده في شنغهاي وتيانجين وبكين
المصدر: خبراء البنك الدولي
ملاحظات: تم الحصول على بيانات OpenAQ (https://openaq.org/) فيما يخص قياسات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون وثاني أكسيد النتروجين من أنظمة الرصد الأرضية فيما يخص الهند والصين وفرنسا
الشكل 6: تبايُن أثر فرض الإغلاق على مستويات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون في المدن الهندية
المتوسط المتحرك اليومي على مدى 7 أيام لتركيزات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون استناداً إلى أنظمة الرصد الأرضية قبل الإغلاق وأثنائه وبعده في نيودلهي وكلكتا ومومباي
المصدر: خبراء البنك الدولي
ملاحظات: تم الحصول على بيانات OpenAQ (https://openaq.org/) فيما يخص قياسات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون وثاني أكسيد النتروجين من أنظمة الرصد الأرضية فيما يخص الهند والصين وفرنسا تم دمج بيانات الهيئة المركزية لمكافحة التلوث (https://www.cpcb.nic.in/) في بيانات OpenAQ لسد الفجوات فيما يخص الهند. تم تنزيل البيانات من https://app.cpcbccr.com/ccr/#/caaqm-dashboard-all/caaqm-landing/dat
تراجعت مستويات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون في دلهي لمدة نحو 10 أيام بعد الإغلاق (الشكل 6، اللوحة اليسرى). المثير للاهتمام أن مستويات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون في 2020 كانت أقل منها في 2019. وفي كلكتا، جاء الانخفاض على مدى ثلاثة أسابيع بعد الإغلاق (الشكل 6، اللوحة الوسطى). ولم يلاحَظ سوى فرق ضئيل بين مستويات 2019 و 2020 في مومباي (الشكل 6، اللوحة اليمنى)، وكانت مستويات التركيز في مومباي دائماً أقل منها في دلهي أو كلكتا.
يعكس تدني الانخفاضات أو انعدامها في تركيزات مستويات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون حقيقة أن هذه الجسيمات تتميز بهيكل مصادر معقد، ولم تتأثر جميع هذه المصادر بالإغلاق الاقتصادي. ومن أكثر مصادرها شيوعاً الانبعاثات من حرق الوقود الأحفوري كالفحم أو النفط والكتلة الأحيائية الصلبة كالخشب أو الفحم النباتي أو مخلفات المحاصيل. ويمكن أن تتولد الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون أيضاً من الغبار الذي يذروه الرياح، بما في ذلك الغبار الطبيعي والغبار الناتج عن مواقع الإنشاء والطرق والمحطات الصناعية. فضلاً عن الانبعاثات المباشرة، يمكن أن تتكون الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون بشكل غير مباشر (تُعرف باسم الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون الثانوية) من التفاعلات الكيميائية التي تشتمل على ملوثات أخرى كالأمونيا المخلوطة بثاني أكسيد الكبريت، ثاني أكسيد النتروجين. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تظل الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون عالقة في الغلاف الجوي لفترات زمنية طويلة وتنتقل لمسافة مئات أو آلاف الكيلومترات. وكان للإغلاق طائفة من الآثار على مختلف مصادر الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون في مختلف المواقع الجغرافية، الأمر الذي يوضح هذه الاتجاهات المفاجئة.
خلاصة القول، تشتمل جودة الهواء على مكونات كثيرة، والتحسينات لم تكن متسقة كنتيجة للإغلاق الاقتصادي، ولا سيما فيما يتعلق بالمادة الملوثة الأشد ضرراً بصحة الإنسان وهي الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون.
ما معنى ذلك في هذا الوقت من أزمة فيروس كورونا الصحية؟
تشكل جائحة فيروس كورونا أزمة صحية خطيرة فجرت أسوأ أزمة اقتصادية في زماننا هذا. لكن هذه ليست هي اللحظة التي يوجه فيها واضعو السياسات تركيزهم بعيداً عن الآثار الصحية لتلوث الهواء. لماذا؟
أولاً: يظل تلوث الهواء يشكل تحدياً، والتبعات الصحية لتدني جودة الهواء ما زالت ملموسة في عموم المجتمع.
ولعل الشيء الأكثر أهمية في سياق جائحة فيروس كورونا أن هناك دراسات كثيرة تشير إلى وجود علاقة ارتباط بين تلوث الهواء والعدوى بفيروس كورونا.[1] ويوضح علماء الأوبئة هذه النتائج التجريبية بالتنويه إلى أن تلوث الهواء يمكنه التأثير على جائحة فيروس كورونا بثلاث طرق: زيادة الانتقال، وزيادة القابلية للإصابة، وتفاقم شدة الإصابة. فالاعتقاد السائد أن انتقال الفيروس يحدث عن طريق انتشار القطيرات المحمولة في الهواء من شخص مصاب، خاصة عند عطاسه أو سعاله. وبما أن السعال استجابة شائعة لتلوث الهواء، فالأرجح أن يؤدي تلوث الهواء إلى زيادة انتقال الفيروس. علاوة على ذلك فإن تلوث الهواء يمكنه زيادة القابلية للإصابة. ففي المسالك الهوائية العلوية التي يرجح أن تترسب فيها القطيرات الفيروسية، تحتوي الخلايا المبطنة للمسالك الهوائية على زوائد شعرية تسمى الأهداب. وتعمل هذه الأهداب على تحريك المخاط الذي يحتجز الجسيمات الفيروسية إلى مقدمة الأنف ليتم طرده في مناديل ورقية أو لأسفل الحلق لابتلاعه، وبالتالي يُمنع الفيروس من دخول الرئتين. ويؤدي تلوث الهواء إلى تدهور هذه الخلايا بحيث لا يعود للأهداب وجود أو تتوقف عن العمل، مما يجعل الشخص أكثر عرضة للإصابة بفيروس كورونا. أخيراً، هناك فهم متزايد مفاده أن الأفراد الذين يعانون من أمراض مزمنة موجودة من قبل (أمراض القلب، والسكري، وأمراض الرئة المزمنة غير الربوية، وأمراض الكلى المزمنة) يشكلون غالبية من أُدخلوا المستشفيات لإصابتهم بفيروس كورونا. ويعتبر الهواء أحد عوامل المخاطر فيما يخص جميع هذه الأمراض، وبالتالي يساهم في شدة العدوى.
في هذه المرحلة، لا يمكن اعتبار الصلات بين جائحة فيروس كورونا وتلوث الهواء قاطعة نظراً لعدم إمكانية الحصر الدقيق للإصابات أو حتى الوفيات الناجمة عن الفيروس، كما ترتبط الآثار بعوامل من قبيل قدرات الرعاية الصحية وإمكانية الوصول إليها واستعداد الفرد لزيارة المستشفى. لكن استناداً إلى معرفتنا الحالية وكما سبق وذكرنا، فمن المعقول أن نتوقع وجود صلة عامة بين تلوث الهواء وعدوى الجهاز التنفسي. علاوة على ذلك، فأثناء جائحة سارس (الفيروس المسبب لمرض سارس ينتمي لنفس عائلة الفيروس المسبب لمرض كورونا) في عام 2003، تبيّن وجود صلة بين تلوث الهواء وزيادة الوفيات من المرض في العديد من الدراسات، التي وجدت إحداها أن مرضى سارس الذين ينتمون إلى مناطق بمؤشر جودة هواء مرتفع في الصين أكثر عرضة مرتين للوفاة نتيجة سارس مقارنة بالمرضى الذين ينتمون إلى مناطق بمؤشر جودة هواء منخفض.
خلاصة القول، يعتبر تلوث الهواء مضاعف خطر يفاقم على الأرجح العواقب الصحية لجائحة فيروس كورونا. ويظل هذا مثار قلق؛ لأن جودة الهواء لم تتحسن بشكل موحد أثناء الجائحة.
فماذا يفعل واضعو السياسات؟
- كحد أدنى، ينبغي أن تظل البرامج الحكومية لمكافحة تلوث الهواء على مسارها، وألا تعْمد البلدان إلى تخفيف لوائحها التنظيمية البيئية في إطار برامج التعافي الاقتصادي.
- علاوة على ذلك، ينبغي الامتناع عن ممارسة الأنشطة التي يمكنها التسبب في زيادة قصيرة الأمد في تلوث الهواء، كحرق مخلفات المحاصيل على سبيل المثال، حيث دعت وزارة البيئة في ولاية واشنطن الأمريكية إلى فرض حظر على الحرق – تقييد أو إرجاء أي حرق غير ضروري – للمساعدة على احتواء الأزمة الصحية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا. ومن نفس المنطلق، فإن جهود الحكومة الهندية لتوفير أسطوانات غاز البترول المسال اللازم للطهي مجاناً للنساء من الأسر المعيشية الفقيرة خطوة جديرة بالثناء كإجراء تدخلي على صعيد سياسات شبكات الأمان وكسياسة لاحتواء الجائحة.
- أخيراً وبما أن القرارات المتخذة الآن لتحفيز التعافي الاقتصادي ستُبقي على نوع الاقتصاد الذي سيظهر لبعض الوقت مستقبلاً، وبما أن الحكومات ستفتقر إلى الأموال اللازمة لاستثمارها في السلع العامة كالهواء النظيف بسبب الديون المتراكمة عليها، هناك مبررات اقتصادية قوية لتحفيز كل من النمو وتحسين النتائج البيئية الآن. فهل هذا ممكن؟
هل تستطيع البلدان معاودة النمو على نحو أكثر نظافة، بحيث تحفز التعافي الاقتصادي لكن تحد من تلوث الهواء في الوقت نفسه؟
ماذا سيحدث بمجرد إنهاء البلدان الإغلاق الاقتصادي واستئناف النشاط الاقتصادي؟ هل سيصبح الهواء من جديد أكثر تلوثاً، أم هل يمكن للبلدان استخدام برامج التعافي الاقتصادي لمعاودة النمو على نحو أكثر قوة ونظافة؟ هذا اعتبار مهم لوجود مخاطر إضافية ألا يعود تلوث الهواء إلى مستوياته السابقة فحسب، بل يزداد سوءاً في حالة تخفيف اللوائح التنظيمية البيئية بغية تحفيز النمو.
وتقدم لنا تجربة البلدان التي طبقت برامج التحفيز المالي المراعي للبيئة إبان الأزمة الاقتصادية 2008 بعض الدروس، وتشير إلى إمكانية معاودة النمو على نحو أكثر نظافة.
سنعرّف أولاً ما نعنيه ببرامج التحفيز المالي المراعي للبيئة.
يشير التحفيز المالي المراعي للبيئة إلى السياسات والتدابير التي تساعد على تحفيز النشاط الاقتصادي على المدى القصير، وتهيئة الظروف لتوسيع الناتج على المدى الطويل، والمساعدة على تحسين النتائج البيئية على المديين القريب والبعيد. فالحوافز المقدمة للشركات للاستثمار في تقنيات الحد من تلوث الهواء – في تكنولوجيا مكافحة التلوث على سبيل المثال – لا تشكل في حد ذاتها تحفيزاً مالياً مراعياً للبيئة. بل هناك حاجة أيضاً إلى تدابير إضافية لتحفيز الطلب، وذلك من خلال برنامج للشراء المراعي للبيئة بحيث يحصل على السلع من الصناعات الأكثر نظافة. علاوة على ذلك، يجب أن يكون برنامج الشراء المراعي للبيئة واسع النطاق حتى يتمكن من المساعدة على خفض تكاليف الإنتاج بمرور الوقت ومساندة التوسع الاقتصادي على المدى الطويل.
في أعقاب الأزمة المالية العالمية 2008، طبقت الحكومة الأمريكية برنامج تحفيز مالي مراع للبيئة لإنقاذ قطاع السيارات، فأحيا القطاع وشجع بيع المركبات التي تتميز بكفاءة استخدام الطاقة. وتلقت شركات السيارات الأمريكية ما مجموعه 80 مليار دولار على هيئة قروض من برنامج إنقاذ الأصول المتعثرة في 2008. كانت المساندة مشروطة، حيث كان يتعين على الشركات التوصل إلى سبل لتصنيع مركبات تتميز بكفاءة استخدام الطاقة (وتشمل كلاً من المركبات الهجينة والكهربائية) ضمن خطط إعادة هيكلتها. تلا ذلك في 2009 برنامج “النقد مقابل المركبات المتهالكة” الذي قدم حوافز للسائقين لمبادلة سياراتهم القديمة التي تستهلك كميات كبيرة من الوقود والحصول على طرازات جديدة تتميز بكفاءة استهلاك الوقود، مما أدى إلى زيادة مبيعات السيارات الجديدة التي تتميز بكفاءة استخدام الطاقة. وتشير التقديرات إلى أن البرنامج خلق أو أنقذ 42,000 وظيفة متعلقة بصناعة السيارات في النصف الثاني من 2009. بالإضافة إلى ذلك، أسفر البرنامج عن تحسين بنسبة 61% في كفاءة استهلاك الوقود في السيارات الجديدة المشتراة مقارنة بالسيارات التي تم الاستغناء عنها، مما ترتب عليه تخفيض استخدام البنزين بمقدار 72 مليون غالون سنوياً. بعد عملية الإنقاذ، استقر التوظيف في صناعة السيارات ثم انتعش، وظهرت الشركات مجدداً ككيانات مربحة. والواقع أن صناعة السيارات أضافت أكثر من ربع مليون وظيفة، تحديداً 236,000 وظيفة، منذ عام 2009. كما أن السيارات والشاحنات الجديدة التي تباع في أمريكا تحرق وقوداً أقل بكثير مما كانت تحرقه قبل عقد من الزمان.
وبالمثل، طرحت كوريا الجنوبية في 2009 الاتفاق الجديد المراعي للبيئة استجابةً منها لثاني أكبر انكماش اقتصادي في البلاد في الربع الأخير من 2008 فيما كانت تعاني أيضاً من آثار تغير المناخ والتلوث وارتفاع مستوى الاعتماد على الوقود الأحفوري المستورد. ومن خلال هذا التوجيه على صعيد السياسات، حددت الحكومة مشاريع أساسية ينصب تركيزها على الطاقة المتجددة، والمباني التي تتميز بكفاءة استهلاك الطاقة، والمركبات والسكك الحديدية منخفضة انبعاثات الكربون، وإدارة المياه والنفايات لتحفيز النمو الاقتصادي، وخلق فرص عمل اقتصادية، وتحسين النواتج البيئية. بدأ البرنامج بخطة استثمارية بقيمة 50 تريليون ون كوري (38.5 مليار دولار) للفترة 2009-2012. وفي الوقت نفسه، أُعدت موازنة تكميلية إضافية كحزمة تحفيز مراعٍ للبيئة بنسبة 6.3% من موازنة السنة المالية 2009، وبذلك كانت الموازنة التكميلية الأكبر في تاريخ موازنات كوريا. الأهم من ذلك أن هذا الجهد أعطى دفعة لتطوير تكنولوجيا مراعية للبيئة وصناعة مراعية للبيئة في البلد، فنمت صناعة الطاقة المتجددة 6.5 مرات من حيث المبيعات و 7.2 مرة من حيث الصادرات منذ 2007. علاوة على ذلك، تم تنشيط الاستثمار الخاص المراعي للبيئة، حيث أظهر الاستثمار المراعي للبيئة من جانب أكبر 30 تكتل شركات زيادة سنوية بنسبة 75% بين عامي 2008 و 2010. كما تمخض برنامج التحفيز أيضاً عن محركات نمو جديدة، ومنها الانتهاء من أكبر مصنع لبطاريات السيارات الكهربائية في العالم، وهو ثاني أكبر مصنع من هذا النوع على مستوى العالم، وشهد هذا المصنع تحولاً جذريّاً من تحقيق عجز تجاري إلى تحقيق فائض في 2010.
كيف يبدو شكل برنامج التحفيز المراعي للبيئة الذي يساند التعافي الاقتصادي مع الحد من تلوث الهواء في الوقت نفسه؟
لهذا الغرض، من المهم أن نفهم تكوين مصادر تلوث الهواء. تشير اتجاهات الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون في الواقع إلى مساهمة قطاعات عديدة في مستويات تركيز هذه الجسيمات، وعلى الرغم من أهمية المصادر المرتبطة بالنقل، فإن القطاعات الأخرى تساهم بنصيبها أيضاً، وتشمل توليد الطاقة والتلوث الصناعي، واستخدام الكتلة الأحيائية للحصول على الطاقة المنزلية، والزراعة. وبالتالي ينبغي لأي برنامج للحد من تلوث الهواء أن يكون عابراً للقطاعات المتعددة. علاوة على ذلك وكما سبق أن ذكرنا، سيحتاج هذا البرنامج إلى الجمع بين تدابير على جانبي العرض والطلب.
الجدول 1: أمثلة للتدابير المتخذة على صعيد السياسات للحد من تلوث الهواء مع مساندة التعافي الاقتصادي في الوقت نفسه
القطاع | تدابير تحفيز الإنتاج المراعي للبيئة | تدابير تحفيز الطلب المراعي للبيئة |
النقل | سياسة تخريد المركبات للتمكين من إخراج المركبات القديمة من الخدمة | برنامج “النقد مقابل المركبات المتهالكة” للتحفيز على تحديث أسطول المركبات |
الصناعة | إصدار شهادات مراعاة البيئة والحدود الائتمانية المدعومة للإنتاج المراعي للبيئة | برنامج الشراء المراعي للبيئة |
الزراعة | تخفيض/إلغاء دعم سماد اليوريا (الاستخدام المفرط لسماد اليوريا أحد مصادر الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون الثانوية) وتحويل هذا الدعم إلى الزراعة العضوية | |
الطاقة | القروض المدعومة للطاقة المتجددة | برنامج تحديد سقف الانبعاثات وتداولها (لإيجاد طلب على الطاقة النظيفة) |
لا يورد الجدول 1 سوى بعض الأمثلة، لكن هناك العديد من التدابير التي يمكنها تعزيز التعافي الاقتصادي وتحسين جودة الهواء في الوقت نفسه. يمكن أن يؤدي إنشاء مناطق منخفضة الانبعاثات ومناطق مخصصة للمشاة إلى الحد من تلوث الهواء وتحفيز نمو اقتصاد البيع بالتجزئة عبر المطاعم والتسوق، وهذا مثال آخر من الأمثلة التي تكتسب زخماً، حيث يريد المواطنون الحفاظ على نظافة الهواء في مدنهم.
في الختام، على الرغم من تحسن بعض عناصر جودة الهواء، فإن الملوثات الأشد ضرراً – الجسيمات الدقيقة بقطر أقل من 2.5 ميكرون – ما زالت موجودة على الرغم من الإغلاق الاقتصادي. أضف إلى ذلك احتمال عمل هذه الجسيمات على زيادة انتقال العدوى بفيروس كورونا وشدة هذه العدوى. وبالتالي لا ينبغي أن تصرف الحكومات انتباهها عن إدارة تلوث الهواء خلال هذه الفترة.
وكخطوة أولى، يستطيع واضعو السياسات اعتماد التدابير التالية:
- فعلى المدى القريب، يجب على البلدان إبقاء برامج مكافحة تلوث الهواء على مسارها وعدم تخفيف اللوائح التنظيمية البيئية باسم النمو الاقتصادي. عدم تشجيع الأنشطة التي قد تؤدي إلى طفرة في تلوث الهواء على المدى القصير
- مع تحويل الحكومات اهتمامها إلى التعافي الاقتصادي، يجب عليها اعتماد برامج للتحفيز المالي المراعي للبيئة لتحقيق المزيد من النمو والحد من التلوث. وهذا أمر ممكن
- أخيراً، تعتبر البيانات عنصراً أساسياً، وينبغي على البلدان قياس النطاق الكامل للملوثات وإتاحة هذه المعلومات في الزمن الحقيقي. وسيعطينا الجمع بين البيانات المستمدة من أنظمة الرصد الأرضية والأقمار الاصطناعية صورة أدق.
[1] أتوجه بالشكر إلى ريتشارد دامانيا، وكارين كيمبر، وسوزان بليمينغ، وإليزابيث ميلي، وكارين شيباردسون، ومارتن هيغر، ودانيال ميرا-سلام، وإرنستو سانشيز-تريانا، ويواندي أوي، وجوستين نيغارد، ودافي هوانغ، على تعليقاتهم المفيدة. وأشكر أيضاً ناغاراجا راو هارشاديب، وهريشي باتيل، وروشيل أوهاغان، على ما قدموا من مساندة في تحليل البيانات.
[2] يعتمد هذا القسم بشكل كبير على مقابلة مع مايكل براور، الأستاذ بكلية السكان والصحة العامة، جامعة كولومبيا البريطانية.