بعد نحو عامين من الهدوء النسبي، تجدد القتال مرة أخرى بين الجيش التشادي والحركات المسلحة على الحدود الشمالية بين تشاد وليبيا وتحديدًا في إقليم تيبستي الحدودي، بالتزامن مع عدد من الضغوط التي يفرضها الواقع الإقليمي أبرزها التوتر الحاصل في الجارتين النيجر ومالي، والضغط الناجم عن استقبال اللاجئين السودانيين في المناطق الشرقية. وتأتي هذه المستجدات على خلفية أوضاع اقتصادية صعبة، وضغوط سياسية متنامية تمارسها المعارضة، تُلقي بظلالها على حالة الاستقرار الداخلي والإقليمي لتشاد.
عودة التوتر
عاد التوتر مرة أخرى على الحدود الشمالية لتشاد مع ليبيا، بعد أن تراجع القتال بين المتمردين والجيش التشادي في أعقاب مقتل الرئيس إدريس ديبي، وسعي الرئيس الانتقالي محمد إدريس ديبي لاستعادة السلام من خلال عدد من الإجراءات التمهيدية لإنجاح محادثات السلام والحوار الوطني، كان أهمها إصدار العفو عن مئات المتمردين وتشجيع الحركات المسلحة على المشاركة في محادثات السلام. فقد أعلنت جبهة الوفاق والتغيير FACT يوم 19 أغسطس 2023 إنهاء وقف إطلاق النار الذي أعلنته في 2021 نظرًا لتعرض إحدى قواعدها للقصف على أيدي قوات الجيش مما اعتبرته عملًا من أعمال الحرب من قبل المجلس العسكري الانتقالي الحاكم، وفي المقابل رد الرئيس التشادي الانتقالي محمد إدريس ديبي إتنو، الذي زار موقع العمليات في الشمال، بأنه سيقود العمليات بنفسه ضد الحركة المتمردة.
وتأتي هذه الاستجابة بعد تصاعد تدريجي للعنف في مناطق شمال تشاد. ففي أوائل يونيو 2023، شهدت المنطقة قتالًا بين الجيش والمتمردين امتد لأسبوع، أدى إلى مقتل 23 متمردًا و15 جنديًا من الجيش وفق بعض التقارير. كذلك، شن مجلس القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية (CCMSR)، الذي ينشط في المنطقة الحدودية مع ليبيا، هجومًا على مواقع للجيش التشادي يومي 9 و10 أغسطس في منطقتي وور وكوري، أدى إلى سقوط ما لا يقل عن 27 شخصًا وتدمير تسع مركبات مدرعة، وتجدد القتال في مطلع سبتمبر بين الجيش التشادي والجماعة المتمردة، حيث قتل ما لا يقل عن 35 شخصًا، بعد أن اقتحم المتمردون موقعًا للجيش التشادي بالقرب من بلدة كوري بوكودي في مقاطعة تيبستي الغنية بالذهب.
وقد قوض تجدد القتال الإجراءات المتخذة لتحقيق التوافق والسلام بين الحكومة الانتقالية التشادية والحركات المتمردة، بعد أن أصدر محمد إدريس ديبي في مارس 2023 عفوًا عن 380 من سجناء جبهة التغيير والوفاق التي يتراوح عدد أعضائها ما بين 1000 إلى 1500 شخص، لتشجيع المجموعة على المشاركة الكاملة في محادثات السلام. فقد وقع أكثر من 30 فصيلًا متمردًا ومعارضًا اتفاقًا للسلام مع السلطات الانتقالية التشادية في الدوحة العام الماضي، رغم بقاء أقوى الجماعات المتمردة “جبهة التغيير والوفاق” خارج الاتفاق.
ونتيجة لانتشار قوات جبهة التغيير والوفاق على جانبي الحدود التشادية الليبية، اتجهت تشاد لتنسيق الجهود مع السلطات الليبية، حيث التقى الرئيس ديبي نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي موسى الكوني، وناقشا ضرورة طرد الحركات المسلحة من المنطقة الحدودية، كما شن الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر هجومًا على مقر للمتمردين التشاديين في الصحراء الجنوبية الليبية، بعد أن استولى مقاتلو المعارضة وعائلاتهم على أكثر من 2000 منزل قيد الإنشاء في منطقة أم الأرانب بمرزق.
تمدد العنف
غالبًا ما تتداخل الصراعات على السلطة والصراعات بين السلطات التشادية والجماعات المتمردة مع الصراعات والعنف القبلي والمجتمعي. فمع تجدد المواجهات المسلحة بين القوات المسلحة التشادية وفصائل التمرد المسلح، تتنامى مظاهر العنف القبلي والتنافس المسلح على الموارد.
وقد أطلقت الحكومة التشادية والمنظمات الأممية مشروعًا لتعزيز السلام والأمن بين المجتمعات الزراعية والرعوية في أقاليم السلامات وسيلا وواداي في نوفمبر 2021، بعد أن تسببت الاشتباكات في مقتل 309 أشخاص وإصابة 182 آخرين ونزوح 6500. بينما في عام 2022 تم التبليغ عن 36 حالة عنف عرقي في البلاد، حاز الجزء الجنوبي منها على 56% من الصراعات المجتمعية، والتي تتعلق بنسبة 90% بالصراع على الأرض والموارد الطبيعية.
وفي النصف الأول من عام 2023، سجلت 37 حالة عنف مجتمعي، واحدة في الشرق و30 حالة في الجنوب وثلاث حالات في منطقة البحيرات، إذ أدت الاشتباكات إلى مقتل 188 شخصًا وإصابة نحو 360 آخرين، وأدت هذه الاشتباكات إلى نزوح 26,000 شخص، وارتبط 81% من هذه الحوادث بالصراعات بين المجتمعات المحلية في الجنوب، حيث حازت الصراعات بين الرعاة والمزارعين على 13% وبينما احتلت الصراعات داخل المجتمع، و3% منها بين الزعماء التقليديين، و3% مرتبط بقضايا الأرض، فيما سجلت مقاطعة لوجون الشرقية 26% من إجمالي الصراعات في البلاد. وفي مايو 2023، أعلنت وزارة الدفاع التشادية عن تكرار هجمات قطاع الطرق ولصوص الماشية بالقرب من الحدود مع أفريقيا الوسطى، حيث تعاني تلك المنطقة الحدودية بين تشاد وأفريقيا الوسطى والكاميرون من التوتر والمواجهة بين الرعاة وغالبيتهم من المسلمين والمزارعين المستقرين وغالبيتهم مسيحيون. ويعكس هذا الحال اتجاهًا تصاعديًا في عدد النزاعات في عام 2023 مقارنة بعام 2022، حيث توغلت الجماعات المسلحة في جنوب البلاد في أبريل ومايو من عام 2023، الأمر الذي يحتاج إلى تدابير لمنع الصراع وتنفيذ المزيد من آليات بناء السلام المجتمعي وتعزيز التعايش السلمي وتلبية الاحتياجات المجتمعية للسكان المحليين.
تهديد المصالحة الوطنية
من الواضح أن الاضطرابات الأمنية التي تشهدها تشاد من جهة الحدود الشمالية مع ليبيا مع عودة تمرد الحركات المتمردة، فضلًا عن التهديدات الإرهابية التي تمثلها جماعة بوكوحرام من جهة بحيرة تشاد، وكذلك العنف المجتمعي الذي تعاني منه البلاد في الشرق والوسط والجنوب؛ يضع الاستقرار الهش الذي تحاول الحكومة الانتقالية فرضه مع الشروع في إجراءات انتقالية غير متوافق عليها في تحدٍ واسع النطاق.
وتمثل التهديدات بعودة المواجهة بين الحركات المسلحة والحكومة الانتقالية تقويضًا للخطوات المتبعة منذ مقتل الرئيس إدريس ديبي، وتبني نجله محمد إدريس ديبي لغة الحوار والسلام مع حركات التمرد لتحقيق الاستقرار في البلاد، وقد شرعت البلاد في مارس 2022 بعقد الحوار التمهيدي في قطر مع جماعات المعارضة المسلحة، حيث شاركت العشرات من الجماعات تمهيدًا لمشاركة هذه الجماعات في حوار وطني مستقبلي، لكن ظلت أربع جماعات خارج هذا الحوار، وهي: جبهة الوفاق والتغيير (FACT)، ومجلس القيادة العسكرية من أجل إنقاذ الجمهورية (CCSMR)، واتحاد القوات من أجل الديمقراطية والتنمية (UFDD)، واتحاد قوى المقاومة (UFR).
وبعد شهور من الحوار في الدوحة انضم كل من اتحاد القوى من أجل الديمقراطية والتنمية (UFDD) واتحاد قوى المقاومة (UFR) إلى الاتفاق الذي وقّع في أغسطس وتلاه الحوار الوطني التشادي الذي بموجبه تم تشكيل الحكومة الانتقالية الحالية بقيادة رئيس الوزراء صالح كبزابو، فيما بقيت العديد من المعارضة السياسية والمسلحة خارج الحوار، بما في ذلك جبهة الوفاق والتغيير (FACT)، ومجلس القيادة العسكرية من أجل إنقاذ الجمهورية (CCSMR)، اللذان عادا للمواجهة مع القوات المسلحة على الحدود الشمالية. وارتبطت المبررات التي أعلنتها قادة الحركات المسلحة بسير المرحلة الانتقالية ببطء وفشل إجراءات بناء الثقة والسلام في تحقيق أي تقدم، إذ تنظر الحركات للحوار الوطني وضم المعارضة باعتباره أحد أشكال الترضيات السياسية دون إحراز أي تغيير حقيقي. ومع تجدد المواجهات، يخشى اتساع دائرة الفصائل والحركات المسلحة غير المنخرطة في ترتيبات المصالحة الوطنية، حيث يمكن أن يؤدي استمرار الأعمال العسكرية المتبادلة إلى تبني حركات أخرى سبق وأن شاركت في الحوار الوطني انسحابها منه أو معارضتها العلنية للسلطة الانتقالية.
وفي النهاية، يُنذر هذا الوضع بمخاوف من انهيار المرحلة الانتقالية وعودة التوترات للبلاد، مع تفاقم الضغوط الأمنية على قوات الأمن التشادية، في الوقت الذي تتنامى فيه حالة عدم الاستقرار الإقليمي، وتتصاعد التوترات السياسية والاضطرابات الأمنية في إقليم الساحل وحوض بحيرة تشاد، بما يؤثر في النهاية على الأوضاع الأمنية في تشاد ويهدد حالة الاستقرار الداخلي الهش.
.
رابط المصدر: