تنويع التحالفات: لماذا تسعى تركيا للانضمام إلى مجموعة البريكس؟

أبدت تركيا اهتمامًا مبكرًا بالانضمام إلى مجموعة البريكس منذ عام 2018 ضمن سياسة تنويع الحلفاء والموازنة بين المحاور، حتى أعلن الكرملين على لسان نائب الرئيس الروسي يوري أوشاكوف خلال أغسطس 2024 تقدم أنقرة بطلب الحصول على العضوية الكاملة في البريكس، وقبول دعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمشاركة في قمة البريكس المقبلة السادسة عشرة التي تستضيفها روسيا –الرئيس الحالي للمجموعة– في مدينة كازان عاصمة جمهورية تتارستان خلال الفترة بين 22 و24 أكتوبر الجاري، لتكون بذلك أول عضو في حلف شمال الأطلسي يتقدم بطلب لعضوية منظمة تستهدف تحدي النظام المالي والتجاري العالمي القائم الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون. ورغم مرور قرابة عقد ونصف على إنشاء المجموعة دون إحداث تحولات دراماتيكية في هياكل الحوكمة الاقتصادية العالمية، فإنها بمثابة علامة على التحديات التي يواجهها النظام العالمي الحالي، ومن هنا تنبع أهمية تركيز هذه الورقة على دوافع رغبة أنقرة في الانضمام إلى البريكس والمكاسب التي يُمكن أن تحققها المجموعة من قبول الطلب التركي.

تبرز مجموعة العوامل الجيوسياسية والاقتصادية والاستراتيجية كدوافع لرغبة تركيا في الانضمام إلى مجموعة البريكس، والتي يُمكن استعراضها كالتالي:

• تحقيق التوازن الدولي: تخضع رغبة تركيا للانضمام إلى البريكس إلى قراءة صناع السياسة الخارجية لمشهد التحولات في هيكل النظام الدولي؛ إذ يعتقد العقل الاستراتيجي التركي أن العالم يقف على أعتاب مشهد مماثل لبداية التسعينيات، لكنه هذه المرة ينهي حقبة الهيمنة الأحادية الأمريكية ليتشكل نظام متعدد الأقطاب يتيح للقوى الدولية المتوسطة والصغيرة هامش حرية أكبر للحركة والمناورة بين أقطابه. ومن هنا ترى أنقرة أن عضوية البريكس تمكنها من تفعيل استراتيجية “التحالفات المتعددة” من خلال إقامة علاقات مع القوى العالمية الكبرى الأخرى وبالأخص روسيا والصين، وتوظيفها كأداة لتدعيم موقفها أمام حلفائها الغربيين، واستغلالها كورقة للإسهام، كما أنها تمنحها صوتًا أكبر في الشئون العالمية، مع الاستمرار في الوفاء بالتزاماتها كعضو رئيسي في حلف شمال الأطلسي، فالسياسة التركية الحالية لا تميل للألعاب الصفرية بقدر المناورات بين المحاور لتعظيم المكاسب.

• مواجهة تعثر مسار عضوية الاتحاد الأوروبي: رغم محدودية الوزن الاقتصادي والسياسي لمجموعة البريكس بخلاف الاتحاد الأوروبي، فإن الإحباط التركي المتنامي من تعثر مسار عضوية الاتحاد الأوروبي دفعها للبحث عن بديل أكثر قبولًا لها؛ فالمجموعة لا تضع اشتراطات للعضوية تتعلق بالديموقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون والحريات بعكس المعايير والقيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأوروبية الواجب استيفاؤها شرطًا للانضمام والتي تخلت أنقرة عن بعضها لا سيَّما المتعلقة باستقلال القضاء، وحقوق المرأة والأقلية الكردية، وحجم الحريات الممنوحة لوسائل الإعلام، والامتثال لأحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. كما يغيب عن المجموعة “اعتبارات الهوية” الحاكمة لتوجهات الاتحاد الأوروبي –بحسب اعتقاد أنقرة– التي ترى أنها أسهمت بشكل كبير في تعثر مسار العضوية لعقود وربما تدفع بعض الدول الكبرى في الاتحاد للرفض القطعي لقبول عضوية تركيا، بينما يضم البريكس دولًا ذات أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة وتنتمي إلى حضارات وأعراق مختلفة.

• مواكبة تغيرات المشهد الجيوسياسي العالمي: لطالما اكتسبت تركيا أهميتها الاستراتيجية من لعب دور الجسر بين الكتلتين الشرقية والغربية لكن مع انتقال مركز الثقل الجيوسياسي العالمي من الغرب إلى مناطق غير تقليدية مثل منطقة المحيطين الهندي والهادئ -تسعى أنقرة لعدم فقدان دور الجسر، ولكن هذه المرة بين التكتلات الجيوسياسية وليس بين المحاور التقليدية، علاوة على أن التعاون والشراكة مع اللاعبين الغربيين والأوراسيويين يساعدها على تحقيق طموحها في أن تصبح قوة متوسطة لا غنى عنها على الساحة العالمية، كما تسمح عضوية البريكس لأنقرة بطرح نفسها شريكًا سياسيًا وتنمويًا لدول الجنوب العالمي، حيث يتلاءم هدف المجموعة بإعطاء دول أكبر لدول الجنوب في القضايا الدولية مع اتجاه تركيا مؤخرًا إلى تنمية علاقاتها بدول أفريقيا وآسيا الوسطى وشرق آسيا والبلقان.

• الاندماج في المؤسسات غير الغربية: يتناسب اهتمام تركيا بمجموعة البريكس مع اتجاهها لعدم وضع كل بيضها الجيوسياسي في سلة المنظمات الاقتصادية والأمنية والسياسية الغربية، مستفيدة في ذلك من المساحة التي اكتسبتها على الساحة الدولية لتبني سياسات أكثر مرونة ربما لا تتوافق كليًا مع خط شركائها الغربيين، وهو ما عكسته مساعيها للانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون ومكانتها كشريك حوار لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وذلك بهدف تعزيز التعاون مع الاقتصادات الناشئة الأخرى، وتقسيم تفاعلاتها بين المنظمات الغربية والتكتلات الاقتصادية والأمنية الحديثة الساعية إلى إحداث تحولات بنيوية في هيكل النظام الدولي، والاستفادة من الفرص المطروحة على الجبهتين.

• خدمة الرؤية التركية للنظام الدولي: تتوافق أهداف مجموعة البريكس مع مطالبة تركيا بنظام عالمي متعدد الأقطاب عادل ومتوازن؛ حيث تطرح المجموعة نفسها باعتبارها نادي للاقتصاديات الناشئة التي تبحث عن بديل لهياكل الحوكمة الاقتصادية الحالية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، ولا تحظى بإمكانية المشاركة التصويتية العادلة في عملية صنع القرار بداخلها، ويتسق ذلك مع رؤية أردوغان لضرورة “إعادة تأسيس بنية الحوكمة العالمية من خلال نظام عالمي يعيد بناء كل مكونات الحوكمة العالمية من الأمن إلى السياسة ومن الاقتصاد إلى الصحة”، كحل لمعالجة “البنية الفاسدة الجائرة للنظام الدولي” بحسب رؤيته التي طرحها في كتاب بعنوان “نحو عالم أكثر عدالة”، ومن ثَمّ تدعم عضوية البريكس هذا الهدف من خلال دمج تركيا في تنظيم يسعى إلى إصلاح الحوكمة العالمية.

• تأمين شراكات اقتصادية متنوعة: حافظت أنقرة تقليديًا على علاقات وثيقة مع الاقتصادات الغربية لكنها أبقتها عرضة للتقلبات الاقتصادية والنزاعات التجارية، وجعلتها رهينة للتوترات السياسية مع الغرب؛ فبينما يمر الاقتصاد التركي بأزمات تتعلق بارتفاع معدل التضخم وتراجع قيمة العملة “الليرة” وتباطؤ النمو الاقتصادي، عجزت أنقرة عن جذب الاستثمارات الغربية نتيجة لتعثر مسار الإصلاحات الديموقراطية بسبب ضغوط التيار القومي الحليف للحزب الحاكم، ومن ثَمّ قد تمكن عضوية البريكس تركيا من تنويع شراكاتها الاقتصادية إلى ما هو أبعد من حلفائها التقليديين والتخفيف من تأثيرات التقلبات الاقتصادية وتعطل سلاسل التوريد والتوترات الجيوسياسية بين القوى الكبرى؛ إذ تضم المجموعة أكبر الأسواق الناشئة في العالم التي تمثل مجتمعة حوالي 29% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و25% من التجارة العالمية، ونحو 45% من سكان العالم، وتنتج دولها قرابة 44% من النفط الخام في العالم، ويمتلكون 6 آلاف و340 طنًا من إجمالي احتياطيات الذهب العالمية.

ويتوقع صندوق النقد الدولي ارتفاع حصة مجموعة البريكس في الناتج المحلي الإجمالي العالمي عام 2028 إلى حوالي 35% مقارنة بانخفاض حصة مجموعة السبع إلى 27.8% نزولًا من 29% حاليًا نتيجة لضمها اقتصاديات ناشئة سريعة النمو، مما يُشير إلى الفرص الاقتصادية الواعدة التي تطرحها لأعضائها وقدرتها على تغيير موازين القوى العالمية، إذ قد تمكن تركيا من الوصول إلى أسواق جديدة، وتعزيز العلاقات التجارية مع الاقتصادات الناشئة الرئيسية؛ مما يخلق مزايا للشركات المصدرة العاملة في قطاعات الزراعة والغذاء والطاقة والتعدين والدفاع والنسيج والبناء وصناعة السيارات والصناعات الفرعية. علاوة على تعزيز التعاون في مجال الطاقة وبالأخص مع روسيا، والتعاون في مبادرات الطاقة البديلة والمشاريع المشتركة في قطاعات مثل الطاقة النووية والطاقة المتجددة والبنية الأساسية للطاقة. فضلًا عن جذب الاستثمارات الأجنبية وتوسيع حضور الدول الأعضاء في مختلف قطاعات الاقتصاد التركي، وتعزيز عملية إزالة الدولرة حيث؛ تدعو أنقرة إلى تبادل السلع بالعملات المحلية مع شركائها التجاريين. كما يوفر بنك التنمية الجديد التابع للمجموعة لتركيا مصدرًا جديدًا لتمويل مشاريع الطاقة المتجددة والبنية الأساسية.

لكن العوامل الجيوسياسية –السالف ذكرها– وليس الفرص الاقتصادية هي التي شكلت الحافز الأكبر لتقدم تركيا بطلب العضوية، نظرًا إلى محدودية المكاسب الاقتصادية على الأمد القريب ارتباطًا بعوامل عدة منها؛ حجم التجارة المرتفع بالفعل بين تركيا ودول البريكس الخمس الأساسيين (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) الذي بلغ عام 2023 حوالي 121.3 مليار دولار ارتفاعًا من 74.3 مليار دولار عام 2013 بما يقارب 60% من إجمالي تجارة أنقرة مع الاتحاد الأوروبي. علاوة على امتلاك علاقات تجارية كبيرة مع الصين وروسيا –وهما الدولتان صاحبتا الثقل الاقتصادي الأكبر في البريكس– حيث سجل حجم التجارة التركية مع كليهما نحو 105 مليارات دولار عام 2032 بما يشكل 17% من إجمالي التجارة الخارجية لتركيا، و87% من التجارة بين الأخيرة ودول مجموعة البريكس مجتمعة. فضلًا عن انخفاض القدرة التمويلية لبنك التنمية الجديد مقارنة بالبنك الدولي وحتى بالبنك الآسيوي للاستثمار والبنية التحتية الذي يمول مبادرة الحزام والطريق، وحاجة تركيا إلى مواءمة السياسات الاقتصادية مع سياسات بلدان مجموعة البريكس لتحقيق أقصى استفادة ممكنة والتي قد تختلف أولوياتها واستراتيجياتها.

من المتوقع أن تنظر قمة كازان المقبلة في طلب عضوية أنقرة، ويلعب العاملان الجيوسياسي والاقتصادي دورًا في اكساب تركيا قبولًا لدى مجموعة البريكس، وذلك على النحو التالي:

• تعزيز الأهمية الجيوسياسية للبريكس: انطلاقًا من حقيقة كون البريكس كتلة سياسية بالأساس حتى وإن حملت طابعًا اقتصاديًا، فإن ضم أعضاء جدد ذوي ثقل يكون له جوانب استراتيجية متعددة، وربما تنظر الصين وروسيا إلى العضوية المحتملة لتركيا باعتبارها خطوة من شأنها زيادة القيمة الجيوسياسية للمجوعة لا سيَّما في ظل نفوذ أنقرة في الشرق الأوسط وانخراطها المتزايد في أفريقيا. علاوة على تعزيز نفوذها العالمي وجعلها خيارًا أكثر جاذبية لدول الجنوب العالمي التي تسعى إلى تحدي الهيمنة والنفوذ الغربيين، والإسهام في تحقيق هدف إنشاء نظام عالمي أكثر توازنًا.

• توسيع سوق البريكس: بالنظر إلى كون تركيا واحدة من الاقتصادات الناشئة في العالم؛ حيث من المتوقع أن تصبح واحدة من أكبر 12 اقتصادًا بحلول عام 2050، وتمتعها بقاعدة صناعية قوية نسبيًا، فإن دول البريكس ربما تجد في عضويتها فرصة لتوسيع حجم سوق المجموعة وحجم تجارتها، مما يخلق فرصًا جديدة للاستثمار والتعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء، كما أنها تمتلك خبرات في مجال تطوير البنية التحتية ومن ثَمّ يُمكنها لعب دور تكميلي في جهود المجموعة الرامية إلى معالجة فجوات البنية التحتية عبر المناطق. علاوة على اتساق رؤية تركيا مع دول البريكس فيما يتعلق بالرغبة في إزالة هيمنة الدولار على المعاملات الاقتصادية الدولية، لا سيَّما أن أنقرة أبدت ميلًا للتجارة بالعملات المحلية واتخذت خطوات متقدمة في هذا الصدد؛ فوفقًا لصندوق النقد الدولي فإن 33% من احتياطات تركيا من العملات الأجنبية هي احتياطات بعملات غير تقليدية، كما ازدادت حصة اليوان والروبل في تجارتها مع روسيا والصين على الترتيب. فضلًا عن رغبة الصين وروسيا توسيع النفوذ الاقتصادي للمجموعة في ظل الاختلافات الحادة في المؤشرات الاقتصادية للدول الأعضاء، حيث تشكل الصين قرابة ثلاثة أرباع الوزن الاقتصادي للبريكس ومن ثَّم تتطلع بكين وموسكو إلى مشاركة أكبر من القوى المتوسطة مثل تركيا لتحقيق توازن اقتصادي أكبر للمجموعة.

ختامًا، يجب التأكيد على أن النخبة الحاكمة التركية ليست معادية للغرب، ولن تتنازل عن كونها جزءًا من المنظومة الأمنية الغربية لحلف الناتو، كما أنها لم تتخلَّ عن حلم عضوية الاتحاد الأوروبي؛ لكن فهم الأبعاد الاقتصادية والسياسية للبريكس يساعد في تفسير السعي التركي للانضمام، بما في ذلك تلبية طموحاتها الأوسع على الساحة العالمية، ورغبتها في تنويع شراكاتها الاقتصادية، وتعزيز نفوذها الإقليمي، وتبني سياسة خارجية أكثر استقلالية، وتأكيد نفسها كلاعب دولي رئيسي، وتوسيع نطاق وصولها إلى التمويل والعلاقات التجارية. ومن ثَمّ لا يُشكل البريكس بديلًا لتركيا التي ترتبط بعلاقات مؤسسية عميقة بالغرب كونها عضوًا مهمًا في حلف شمال الأطلسي وجزءًا من الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي، كما أن التحالف الغربي كان تقليديًا هو المرجعية الجيوستراتيجية لتركيا، وإنما هي لعبة المناورات والانتقال بين المحاور باستخدام الأدوات المتاحة كافة لتحقيق استقلال استراتيجي نسبي في السياسة العالمية، ومحاولة حجز مقعد مبكر في النظام الدولي الجديد. ويدلل على ذلك مشاركة تركيا الأخيرة في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي غير الرسمي خلال أغسطس الماضي بعد انقطاع دام خمس سنوات رغم استمرار القضايا الإشكالية المتعلقة بالعضوية وتوسيع الاتحاد الجمركي وإلغاء تأشيرات السفر.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M