تنتهج العراق خلال الفترة الماضية مبدأ تحقيق التوازن في علاقتها الخارجية، في ظل سياق عالمي وإقليمي يتغير بين حين وآخر، على خلفية الحرب الروسية-الأوكرانية وما أنتجته حالة الاستقطاب الدولي من انعكاسات على الإقليم، دفعت الدول العربية إلى اعتماد نهج المصلحة الوطنية والعمل على تنويع شراكاتها الخارجية، وللعراق خصوصية في هذا الصدد نظرا لما شهدته من أوضاع مضطربة منذ 2003، بعد الغزو الأمريكي للعراق، ومحاولة تنظيم داعش السيطرة على أراضي الدولة في 2014، مما جعل القيادات المتعاقبة فى الحكومات العراقية تنتبه وتدرك المتغيرات المحيطة، لذلك اتبعت نهجاً متوازنا في علاقتها الإقليمية والدولية بما يحقق مصالحها الوطنية، ضمن هذا الإطار تناقش هذه الورقة أبعاد السياسة الخارجية العراقية من حيث تعزيز الهوية العربية وتوسيع الشراكات العراقية الخارجية.
أولاً-تعزيز الهوية العربية
تحاول العراق إحداث توازن في علاقتها الخارجية؛ وإن كانت هناك بعض العقبات أمام تحقيق هذا التوازن في ظل التنافس الدولي وكونها ساحة للتجاذبات بين إيران والولايات المتحدة. بدأت محاولة إحداث التوازن مع رؤساء الوزراء العراقيين السابقين “عادل عبد المهدى ومصطفى الكاظمي”، ويسير على ذات النهج رئيس الوزراء الحالي “محمد شياع السوداني”؛ إذ بدأت ملامحه تتضح في تنويع الشراكات ورفع مستوى الزيارات الخارجية التي قام بها السوداني إلى العديد من الدول والتي تنوعت ما بين الأردن والكويت وفرنسا وألمانيا والسعودية ومصر وتركيا، في محاولة لاستعادة الدور العراقي والانخراط في الفاعليات سواء بالمشاركة أو تنظيمها.
وارتبطت السياسة الخارجية العراقية بمحددات جديدة، تختلف عن سياستها ما قبل 2003، حيث حرصت على الانتقال من مبد أ العزلة إلى مبدأ التوازن كنقطة تحول في سياستها مما يعيد الدولة إلى تحقيق التوزان في مصالحها على المستوى الخارجي. والتفاعل مع المحيط الإقليمي مع التزام الحيادية تجاه التوترات الإقليمية، بل لعب دور الوسيط واستضافة جولات الحوار الإقليمي بين إيران والسعودية. فقد حاولت العراق انتهاج دبلوماسية قائمة على تنويع الشراكات مع الدول كافة، وانتهاج الحوار كأداة للتفاهم حول الملفات المشتركة أو العالقة خاصة مع دول الجوار، حيث حاول الكاظمي خلال فترة رئاسته للحكومة اعتماد برنامج سياسة خارجية يقوم على ثلاث ركائز وهي: السيادة بمعنى رفض المس بسيادته أو أن تكون العراق ساحة لتصفية حسابات إقليمية أو دولية، والتوزان من خلال رفض سياسة المحاور وتبنى سياسة الانفتاح الإيجابي مع جيرانه وعمقه الإسلامي والعربي ودول العالم والتعاون مع مختلف الدول وبناء منظومة مشتركة في علاقاته الخارجية. وكان إدراك القيادة في ذلك الوقت للمتغيرات الإقليمية والدولية دوراً في تحقيق التوازن في علاقات العراق الخارجية وفرصة لتحقيق الاستقرار الداخلي.
إذ بدأ العراق الانخراط في المحيط العربي والعودة التدريجية له من خلال مشروع “المشرق الجديد”، من خلال تعزيز آلية التعاون الثلاثي بين (مصر والأردن والعراق) منذ مارس 2019 والتي شهدت العديد من اللقاءات والاجتماعات على مستوى الرؤساء أو وزراء الخارجية، فكانت البداية مع لقاءات القمة التي جمعت رئيس الحكومة الأسبق “عادل عبد المهدى” والرئيس “عبد الفتاح السيسي” والملك الأردني “عبد الله الثاني” في القاهرة في 25 مارس 2019، ثم تلاها لقاء آخر بين الرئيس “السيسي” والملك “عبد الله” والرئيس العراقي “برهم صالح” على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2019، ثم عقدت قمة أخرى في عمان في 25 أغسطس 2020 بين رئيس الوزراء العراقي السابق “مصطفى الكاظمي” والرئيس “السيسي” والملك “عبد الله”، ولمأسسة هذا التعاون تم إنشاء سكرتارية دائمة للتنسيق بين الدول الثلاث ومتابعة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه. وتضمن هذا المشروع إنشاء خط الأنابيب النفطي ويمتد من ميناء البصرة جنوب العراق إلى ميناء العقبة في الأردن ثم يصل إلى مصر، بالإضافة إلى الربط الكهربائي بين مصر والعراق، وتعزيز التكامل العربي بشكل أكبر عبر قيام مصر والأردن بتنفيذ مشروعات في قطاعات مثل البنية التحتية والكهرباء والصحة والإسكان والزراعة بما يحقق معادلة “النفط مقابل الإعمار”.
ومن ضمن مؤشرات أخرى لاندماج العراق في محيطها العربي والإقليمي، استضافتها لمؤتمر “بغداد للتعاون والشراكة” في 21 أغسطس 2021، والذي مثل آلية للحوار الإقليمي مع مختلف القوى الدولية والإقليمية، وكمؤشر على تغير في سياسة العراق الخارجية بما يعزز الهوية العربية، ليصبح العراق نقطة ارتكاز للتفاهمات بين مختلف القوى، فكانت العراق وجهة لزيارات الرؤساء ووزراء الخارجية العرب خلال مؤتمر بغداد للشراكة والتعاون بحضور تسع دول.
ومن ضمن ملامح أخرى لاستعادة الدور العراقي تمثلت في استضافة بغداد لجولات الحوار بين طهران والرياض، فكان قبول الطرفين بأن يكون العراق وسيط لحل الخلافات بينهما؛ إذ استضافت العراق خمس جولات للتفاوض بين السعودية وإيران، فكانت زيارات الكاظمي إلى السعودية في 13 مارس 2021، ولإيران في 13 سبتمبر 2021. بالإضافة إلى ملمح آخر من خلال تعزيز التعاون مع الدول العربية عبر مشروعات الربط الكهربائي مع دول الخليج، بما يُخفض من اعتماد العراق على واردات الطاقة من إيران، إذ تم توقيع اتفاقية توفير الطاقة الكهربائية بين العراق وهيئة الربط الخليجي في 15 يوليو 2022، وتتضمن قيام هيئة الربط الكهربائي الخليجي بإنشاء خطوط ربط من المحطة التابعة للهيئة بدولة الكويت، إلى محطة الفاو الواقعة بجنوب العراق لإمدادها بنحو 500 ميجاوات من الطاقة، علاوة على إنشاء خطوط جديدة يستغرق العمل بها عامين بقدرة تصل إلى 1800 ميجاواط.
ارتباطا بهذا السياق، استضافت العراق الدورة 34 “لأعمال مؤتمر الاتحاد البرلمان العربي” في الفترة من 23-26 فبراير 2023، بمشاركة رئيس الاتحاد ورئيس مجلس النواب العراقي “محمد الحلبوسى” ورؤساء البرلمانات والوفود العربية ورئيس الاتحاد الدولي، ورئيس برلمان البحر الأبيض المتوسط تحت شعار ” الدعم العربي لتعزيز استقرار العراق وسيادته”، وبمشاركة حوالي 18 دولة بتمثيل 14 رئيس برلمان و4 آخرين ممثلين عن رؤساء البرلمانات العربية، وتمخض عن المؤتمر “إعلان بغداد” تأكيداً على دعم العراق وتعزيز استقراره وسيادته ووحدة أراضيه، والتشديد على ضرورة تفعيل الدبلوماسية البرلمانية، علاوة على التأكيد على أهمية الدور العراقي وفاعليته على المستوى الإقليمي والدولي.
ثم استضافتها لكأس الخليج العربي لكرة القدم في الفترة من 6-19 يناير 2023 بعد انقطاع دام نحو أربعة وأربعين عاماً على آخر دورة برلمانية عقدت في العراق منذ 1979 في محاولة لاستعادة الدور العراقي الذي تراجع بعد غزوه في 2003، وتأكيداً على الاندماج العراقي في الحاضنة العربية، وخفض السيطرة الإيرانية على القرار العراقي واستقلالية قراره، إذ كان هناك حرص خلال استضافة كأس “خليجي 25” في البصرة على استخدام مصطلح “العربي” الذي أثار اعتراض إيران التي تصف المنطقة بالخليج الفارسي. فكان لهذه الاستضافة دور هام في تعزيز اندماج العراق في المحيط العربي، بما للرياضة من دور في تحقيق تقارب بن الشعوب؛ إذ عقدت النسخة الأولى من هذا المؤتمر في عام 1970 بمشاركة كل من البحرين وقطر والسعودية والكويت، ثم عقدت النسخة الثانية منه في عام 1972 وكانت الدولة المستضيفة هي السعودية، ثم انضمت الإمارات إلى المنتخبات المشاركة في البطولة وبذلك أصبح عدد الدول خمسة، وفى نسخته الثالثة في عام 1974 استضافته الكويت وانضمت سلطنة عمان إلى المنتخبات، وبذلك ارتفع عدد الدول العربية المشاركة إلى ست دول، ثم في عام 1979 انضمت العراق وأصبح العدد سبع دول، وبعد ذلك انضمت اليمن فازداد عدد الدول إلى ثمانية، ثم استضافت اليمن البطولة في عام 2011، وكانت قطر الدولة المستضيفة له في عام 2019( خليجيي 24).
واستمر النهج العراقي الذي يعمل على تعزيز الهوية العربية مع رئيس الوزراء العراقي” محمد شياع السوداني” فقد تعهد في بداية رئاسته للحكومة مؤكداً في برنامجه على تعزيز علاقات العراق الخارجية، استناداً إلى مبادئ الاحترام المتبادل، وتحقيق المصالح المشتركة، ورفض أن يكون العراق ساحة لتصفية الحسابات أو لتجاذبات القوى الإقليمية أو الدولية. كما عبر السوداني خلال تصريحاته الإعلامية عن قناعة الحكومة العراقية لتطوير علاقات العراق الخارجية على أساس التعاون والتوازن والابتعاد عن سياسة المحاور، وانتهاج سياسة تنويع الشراكة مع العديد من الدول، والابتعاد عن سياسة المحاور. فكانت أولى جولات السوداني الخارجية إلى الأردن والكويت ثم زيارة السعودية في القمة الصينية العربية، بالإضافة إلى تلقيه دعوة لزيارة الإمارات. وكانت زيارته إلى إيران عقب ذلك ولقائه بالمرشد الأعلى الإيراني “آية الله على خامنئي”. إذ بعثت أولى جولات السوداني الخارجية إلى الدول العربية برسالة مفاداها التأكيد على البعد العربي وتكريس النهج الذي بدأه سابقوه والتمسك بتنفيذ اتفاقيات الطاقة والتجارة التي سبق وأن تفاوضت عليها حكومة الكاظمي.
ثانياً-توسيع الشراكات العراقية الخارجية
خلافًا للتحركات على الصعيد العربي السابق الإشارة إليها، انعكست مساعي السوداني لتطوير علاقات العراق الإقليمية والدولية وفق نهج تعاوني توازني على سياسته الخارجية تجاه الدول الأوروبية، فخلال الأشهر الخمسة التالية لتعيينه في منصبه أجرى زيارتين أوروبيتين الأولى إلى فرنسا في 26 يناير الماضي والثانية إلى ألمانيا في 16 فبراير الفائت. علاوة على استقبال وزيرة الخارجية الإيطالية جورجيا ميلوني يوم 23 ديسمبر 2022 في أول زيارة رسمية لها خارج أوروبا.
ومن اللافت استهلال الزيارات الأوروبية بفرنسا وألمانيا ويرجع ذلك جزئيًا إلى كونهما أكثر مقبولية عراقيًا بالنظر لعدم تورطهما في الدم العراقي برفضهما الانضمام للغزو الأمريكي للعراق عام 2003، فعلى سبيل المثال رفض المستشار الألماني الأسبق جيرهارد شرودر الانضمام للتحالف الدولي بالجنود أو الأموال واصفًا الغزو بالمغامرة الأمريكية البريطانية. فضلًا عن حفاظ فرنسا على علاقات متوازنة مع المكونات العراقية كافة ما أكسبها قبولًا محليًا وقد سلط ماكرون الضوء على هذا الحياد عندما مدد زيارته الأخيرة للعراق يوم آخر إضافي لزيارة الكاظمية المقدسة عند الشيعة، والموصل المهمة لدى السنة، وأربيل عاصمة إقليم كردستان. وبشكل عام يلاحظ هيمنة الموضوع الاقتصادي على المناقشات العراقية الأوروبية وتراجع المسائل السياسية بالنظر لحقيقتين الأولى غلبة الطابع البروتوكولي على الزيارات العراقية للدول الأوروبية وتركز هدفها بشكل كبير في ضمان استمرارية العلاقات دون وجود مساحة كبيرة من المصالح المشتركة، والثانية تجنب السوداني الخوض في القضايا الإقليمية لا سيما الملف الإيراني خشيةً من سوء تفسير تصريحاته بشكل يضر بعلاقته مع ظهيرة السياسي والبرلماني المتمثل في الإطار التنسيقي، بشكل يعيق سياساته الحكومية.
ويريد العراق – ثاني أكبر منتج للنفط الخام في أوبك – الاستفادة بشكل أفضل من احتياطياته الكبيرة من الغاز والفوز بحصص من خطط تنويع واردات الطاقة الأوروبية بعيدًا عن روسيا في ظل المنافسة الشديدة مع نظرائه الإقليميين، وقد أظهرت البيانات نمو الطلب الأوروبي على الخام العراقي خلال العام الماضي 2022؛ إذ بلغ متوسط صادرات البصرة إلى أوروبا 574 ألف برميل يوميًا من يونيو إلى ديسمبر 2022 مقارنة بـ 330 ألف برميل يوميًا في عام 2021، وبحسب رئيس أبحاث السوق في شركة النفط العراقية الحكومية “سومو” فإن 48% من الشحنات المُصدرة من البصرة وغير المحدد واجهتها ذهبت إلى أوروبا، وشكلت تلك الشحنات 9% من إجمالي صادرات البصرة في عام 2022. وفي مفاوضات العقود الآجلة لعام 2023 مع شركة “سومو” طالب بعض العملاء الأوروبيين زيادة مخصصاتهم أربعة أضعاف.
ويتطلع العراق لجذب الاستثمارات الأوروبية في قطاع الطاقة سواء فيما يتعلق بتحديث البنية التحتية لشبكة الكهرباء أو الاستثمار في حقول الغاز والنفط. وفي هذا الإطار، وقعت شركة سيمينز الألمانية ثلاثة عقود طويلة الأجل – مدة كل منها خمس سنوات – مع وزارة الكهرباء العراقية، خلال شهر مارس الجاري، تهدف لإعادة تأهيل محطات توليد الكهرباء في الصدر وكركوك والرشيد وتوفير الصيانة والخدمة لضمان استقرار محطات الطاقة هذه التي تولد أكثر من 1 جيجاوات من الكهرباء، كما تتيح العقود تدريب ونقل المعرفة للموظفين المحليين في وزارة الكهرباء. وخلال زيارة السوداني لألمانيا في يناير الماضي وقعت سيمينز مذكرة تفاهم مع وزير الكهرباء العراقي لتوفير 11 جيجاوات إضافية لإنتاج الطاقة المحلية. ومع ذلك يتوقف إطلاق مشروعات سيميز في العراق على توافر الإرادة السياسية وتخصيص الأموال المطلوبة في الميزانية الوطنية التي يوافق عليها البرلمان، فقد سبق لرئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي توقيع اتفاقية مع سيمينز في أبريل 2019 تصل قيمتها إلى 14 مليار دولار بشأن خطة لتحديث البنية التحتية للكهرباء في العراق، لكنها لم تُنفذ نتيجة لعدة عوامل تشمل العقبات البيروقراطية على الجانب العراقي، واحتجاجات تشرين 2019 وما تبعها من حالة عدم استقرار سياسي استمرت حتى تعيين حكومة السوداني، والتصعيد بين إيران والولايات المتحدة بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، وغياب المخصصات المالية اللازمة لتنفيذها.
كما تُشير المعلومات إلى وصول المحادثات بين شركة النفط الفرنسية توتال إنرجي والعراق إلى مرحلة متقدمة بشأن صفقة طاقة بقيمة إجمالية تبلغ 27 مليار دولار، وهي اتفاقية تم توقيعها عام 2021 تقوم بموجبها شركة توتال ببناء أربعة مشاريع للنفط والغاز والطاقة المتجددة تشمل بناء منشآت لجمع ومعالجة الغاز المستخرج من النفط الخام المستخدم في توليد الكهرباء وبناء محطة للطاقة الشمسية في جنوب العراق، باستثمارات أولية قدرها 10 مليارات دولار على مدى 25 عامًا، لكنها تعثرت بسبب الخلافات بين السياسيين العراقيين حول شروط الاتفاقية، حيث طلب العراق الحصول على حصة 40% في المشروع بينما تريد شركة توتال إنرجي حصة الأغلبية.
وتستهدف الحكومة العراقية أيضًا من خلال علاقاتها الأوروبية تنويع شركائها الاقتصاديين وجذب الاستثمارات الأجنبية وإطلاق الاتفاقيات الموقعة مع الأطراف الأوروبية المتعلقة بالبنية التحتية والخدمات باعتبار أن نجاح الوظيفة الاقتصادية للحكومة تشكل اختبارًا لها وعاملًا ضروريًا لاستقرارها كون العامل الاقتصادي يشكل مدخلًا للقوى السياسية الرافضة لها وعلى رأسها التيار الصدري لتحريك الشارع ضدها، كما أنها تعتبر أحد العوامل المحركة للاحتجاجات ضد الحكومات العراقية منذ احتجاجات تشرين 2019. وخلال زيارته لألمانيا التقى الوفد العراقي برئاسة السوداني بمستثمرين ألمان لشرح مزايا قانون الاستثمار العراقي والسعي لجذب الاستثمارات في مجالات البتروكيماويات والأسمدة. وكذلك خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي لفرنسا التقى مسؤولون عراقيون رفيعو المستوى مع رجال أعمال فرنسيين وممثلين عن الشركات الفرنسية الكبرى. ومن جهتهم، تأمل كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا الحصول على عقود لإعادة إعمار المناطق الوسطى في العراق التي دمرت في الحرب ضد داعش.
وبالمقابل يكتسب العراق أهمية جيوسياسية بالنسبة للاتحاد الأوروبي تتعلق بعدة جوانب؛ أولها امتلاكه خامس أكبر احتياطات عالمية من الهيدروكربونات وتصنيفه كثاني أكبر منتج للنفط في أوبك ما يجعله طرفًا مهمًا في لإمدادات الطاقة العالمية عمومًا وأمن الطاقة الأوروبي خصوصًا (يلبي العراق أكثر من 20% من الطلب الوطني لإيطاليا) قد لعبت العديد من شركات الطاقة الأوروبية مثل إيني وتوتال وشل دورًا أساسيًا في تطوير صناعة النفط العراقية. وثانيها حلول الاتحاد الأوروبي كرابع أكبر شريك تجاري للعراق حيث بلغ إجمالي تجارة السلع لعام 2020 ما يقرب من 16.9 مليار يورو، ويتم تنظيم الشراكة الاقتصادية بين الجانبين من خلال اتفاقية الشراكة والتعاون بين الاتحاد الأوروبي والعراق الموقعة عام 2012 ولكنها دخلت حيز النفاذ بالكامل عام 2018 وهي تغطي مجموعة واسعة من القطاعات التجارية وتوفر عناصر تفضيلية ووصولًا واسعًا إلى الأسواق للشركات الأوروبية، ومع ذلك تشهد الشراكة التجارية والاقتصادية بين الطرفين اختلالات هيكلية حيث تستحوذ الصادرات النفطية العراقية على 99.8% من إجمالي صادراتها للتكتل، كما لا تزال الشراكة الاقتصادية الثنائية بين الاتحاد الأوروبي والعراق متخلفة عن تلك الخاصة بالعراق مع الصين وتركيا – الشريكان التجاريان الأول والثاني لبغداد على التوالي – اللذان يستحوذان على نسبة أكبر من إجمالي حجم التجارة.
وثالثها مشاركة بعض دول الاتحاد تاريخيًا في مهمات مكافحة الإرهاب بالعراق حيث تلعب فرنسا دورًا في عمليات مكافحة الإرهاب بمشاركة حوالي 800 جندي في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، كما تتواجد القوات الإيطالية على الأراضي العراقية منذ قرابة عشرين عامًا ومنذ 2018 شكلت الجزء الأكبر من مهمة الناتو في العراق (NMI) (هي مهمة أُطلقت عام 2018 بناءً على طلب بغداد وهي عملية غير قتالية واستشارية وتدريبية مصممة للمساعدة في تعزيز المؤسسات الأمنية العراقية، وتحديدًا وزارة الدفاع، من خلال إصلاح قطاع الأمن وتقديم التدريب والدعم) بنشر 1180 جنديًا، وقد تولت إيطاليا قيادة المهمة منذ منتصف 2022. ورابعها تقديم الاتحاد الأوروبي المساعدات الإنسانية للعراق فمنذ بداية الحرب ضد داعش عام 2014 قدم الاتحاد أكثر من مليار يورو لدعم البلاد بما في ذلك 506 ملايين في التمويل الإنساني، وذلك بحسب البيانات المتاحة على موقع الاتحاد الأوروبي عام 2019.
أما فرنسا فترغب في استعادة نفوذها الجيوسياسي في الشرق الأوسط وإحياء ما تعتبره موقعها كقوى وسطى في النظام العالمي قادرة على لعب أدوار دولية مستقلة في المنطقة مستندة إلى رؤية الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول بضرورة اتباع فرنسا سياسة خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة، كما أنها تأتي في إطار محاولات باريس لتوظيف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي واستقالة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل لقيادة المبادرات الدبلوماسية الخارجية للاتحاد واكسابه موضعًا أكبر في الشرق الأوسط. كذلك ترغب فرنسا في التصدي لمحاولات الصين التوسع في المنطقة لحماية المصالح الغربية، بعدما باتت بكين الشريك التجاري الأكبر لبغداد باستحواذها على 44% من صادرات النفط العراقية عام 2021 وتخصيصها 10.5 مليار دولار لتنفيذ مشاريع بنية تحتية تتضمن محطة توليد للطاقة، وتعهدها بتقديم حوالي 10 مليارات دولار لإقامة مشاريع بنية تحتية في إقليم كردستان العراق في قطاعات مختلفة كشبكات السكك الحديدية والطاقة والطرق والسدود، كما تخشى فرنسا نجاح الضغوط الإيرانية على العراق لتوقيع اتفاق شراكة استراتيجية عراقي-صيني على غرار الاتفاق الإيراني-الصيني بما له من تداعيات خطيرة على المصالح الغربية في العراق نظرًا لموقع الأخير الجغرافي الذي يربط سوريا ولبنان بإيران والذي بدوره سيتيح للصين الوصول إلى هذا الشريط ذو الأهمية الاستراتيجية للغرب مُشكلةً هلالًا جنوب أوروبا وشمال النفط الخليجي.
ختاماً؛ رغم الاتجاه الانفتاحى الذي تبنته العراق مؤخراً، إلا أن تحقيق التوزان في سياستها الخارجية يظل محكوماً بالتفاعلات الإقليمية والدولية في ضوء متغيرات الحرب الروسية-الأوكرانية، علاوة على الحضور الصيني في المنطقة والمألات المحتملة للاتفاق الإيراني-السعودي وماله من انعكاسات إقليمية، كذلك سيكون الأمر مرهوناً بتوازنات القوى بين الفصائل السياسية العراقية.
.
رابط المصدر: