مروة عبد الحليم
مثل التفاعل بين الاتحاد الأوروبي ودول الخليج والذي بدأ منذ عام 1988 قصة صعود وهبوط في العلاقات، تميزت بدرجات من الانقسام بين الطموح والواقع. وفي الوقت الذي أصبح فيه الاتحاد الأوروبي مدركًا للأهمية الاستراتيجية المتزايدة لمنطقة الخليج، وتتوق دول مجلس التعاون الخليجي إلى تعزيز علاقاتها مع أوروبا على أسس سياسية واقتصادية؛ ظل كلا الجانبين مترددين وغير متأكدين من كيفية هيكلة علاقاتهما ومكانة كل من هؤلاء اللاعبين على الساحتين السياسية العالمية والشرق أوسطية.
تقع دول مجلس التعاون الخليجي في قلب توازن جديد للقوى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عززه تراجع هيمنة الولايات المتحدة في المنطقة وسط الفوضى التي سادت في العقد الماضي، ودفعت أعضاء مجلس التعاون الخليجي إلى توسيع دورهم على الساحة الدولية بشكل لم يسبق له مثيل. في هذه الأثناء، كافحت الدول الأوروبية -التي اعتادت العمل تحت مظلة الولايات المتحدة في المنطقة- التكيف مع النظام الإقليمي الناشئ متعدد الأقطاب، ولكنها كانت بطيئة في الاعتراف بتأثير الشبكات السياسية والموارد المالية الهائلة لدول مجلس التعاون الخليجي.
وفي حين أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي لاعبًا حاسمًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، استمرت أوروبا في النظر إليها من منظور اقتصادي في المقام الأول. وقد أدى إطار العمل الذي ركز على الاقتصاد مع دول مجلس التعاون الخليجي إلى استثمارات كبيرة وصفقات تصديرية، لكنه قوض أيضًا النفوذ الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. حتى مؤسسات الاتحاد الأوروبي ركزت على استخدام مكانتها لتوفير مكاسب اقتصادية للدول الأعضاء الصغيرة ذات الروابط الثنائية الضعيفة نسبيًا مع الخليج. وكانت مؤسسات الاتحاد الأوروبي مهتمة بشكل متناقض بانتهاكات حقوق الإنسان وإبرام الصفقات الاقتصادية.
وظل العنصر الأساسي المفقود في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي هو مستوى الأولوية لكلا الجانبين. فبينما يوجد مجلس التعاون الخليجي على خريطة الاتحاد الأوروبي، لا يُنظر إليه على أنه الجوار المباشر لأوروبا؛ إذ يُنظر إلى التطورات في سوريا أو ليبيا على أنها مخاوف أكثر إلحاحًا، ولم تتخذ أي دولة من دول الاتحاد الأوروبي زمام المبادرة داخل الاتحاد لدفع الخليج إلى أعلى جدول الأعمال والأولويات.
الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي دائمًا ما كانوا على خلاف حول القضايا المشتركة، سواء كان التهديد النووي الإيراني، أو الحوثيون في اليمن، أو الحرب في ليبيا، أو حرب روسيا في أوكرانيا؛ فكان من الصعب في كثير من الأحيان إيجاد رؤية مشتركة، هذا على الرغم من أن كلا الجانبين يشتركان في العديد من المصالح.
وبما أنهما يمثلان معا 20٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فإن كلًا من أوروبا والخليج من بين المستفيدين الرئيسين من العولمة، ولديهما مصلحة مشتركة في الحفاظ على نظام دولي قائم على القواعد وخطوط اتصال بحرية وبرية آمنة. ومن هذا المنظور، سيستفيد كلاهما من السلام والاستقرار في جوارهما المشترك. وقد تم التعبير عن اتساع نطاق هذه المصالح المشتركة خلال الاجتماعات الوزارية المشتركة بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي، والتي عقدت دورتها الـ 26 في فبراير 2022.
وقد أكدت الحرب الروسية على أوكرانيا -إلى جانب عوامل أخرى- الحاجة إلى إعادة تنشيط الشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي والارتقاء بها بسبب عدد من العوامل:
- علاقات اقتصادية آمنة:
عندما ضربت الأزمة المالية أوروبا، تقدمت دول مجلس التعاون الخليجي لتصبح مصادر مهمة للاستثمار والدعم المالي الآخر في مختلف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. على رأس الاستثمارات الرئيسية تلك الموجودة في نادي باريس سان جيرمان، وشارد في لندن، والعقارات الفاخرة في إيطاليا، ومولت دول مجلس التعاون الخليجي البنوك وغيرها من مجالات القطاع الخاص في أوروبا. على سبيل المثال، استثمر جهاز قطر للاستثمار ( (QIAوهو صندوق ثروة سيادي، 300 مليون يورو في بنوك الادخار المتعثرة في إسبانيا، ومليار يورو في صندوق مشترك يركز على الشركات اليونانية الصغيرة والمتوسطة( (SMEs. وأقام كل من شركة مبادلة للاستثمار في أبو ظبي ومركز قطر للاستثمار شراكات مع صندوق الاستثمارات والشحنات لاستثمار 300 مليون يورو و800 مليون يورو على التوالي في الشركات الفرنسية الصغيرة والمتوسطة.
وفي عام 2014، وافقت قطر والكويت على استثمار مليار و500 مليون يورو في شركة Fondo Strategico Italiano. وفي عام 2018، عرضت المملكة العربية السعودية إحياء اتفاقية وقعتها مع إسبانيا في عام 2007 لإنشاء صندوق للبنية التحتية والطاقة بقيمة تزيد على مليار يورو. وعززت دول الخليج العربية مشاركتها الاقتصادية مع الاقتصادات الأوروبية الأكثر قوة، مثل الاقتصاد الألماني. واستثمر جهاز قطر للاستثمار في كيانات ألمانية كبرى مثل فولكس فاجن وهوتشتيف وسيمنز ودويتشه بنك، وتعمل حوالي 700 شركة ألمانية في المملكة العربية السعودية التي تعد الآن ثالث أكبر شريك تجاري لألمانيا في الشرق الأوسط.
ويعد الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي بعد الصين، إذ يمثل 12.3٪ من إجمالي تجارة السلع لدول مجلس التعاون الخليجي مع العالم في عام 2020، و7.8٪ من واردات دول مجلس التعاون الخليجي تأتي من الاتحاد الأوروبي. وبالتالي، صُنف الاتحاد الأوروبي على أنه الشريك الأول لدول مجلس التعاون الخليجي.
أزمة الطاقة المتفاقمة في أوروبا:
مع فرض العديد من الدول الأوروبية عقوبات على روسيا، اتجهت نحو تقليل اعتمادها على النفط والغاز الروسيين، وسعت إلى تلبية مطالبها من دول الخليج. وأجرى القادة الأوروبيون اتصالات بأعضاء مجلس التعاون الخليجي الغني بالغاز والنفط لتجنب أي أزمة طاقة. ومع ذلك، تعذر على دول مجلس التعاون الخليجي تلبية المطالب الأوروبية لارتباطهم بعقود طويلة الأجل مع عملاء آسيويين.
وفيما يتعلق بتأمين إمدادات الطاقة، تشترك دول الخليج في بعض المخاوف الأمنية لأوروبا، فضلًا عن الرغبة في مزيد من التنويع في التجارة والطاقة. على سبيل المثال، يشعر الجانبان بالقلق إزاء أمن إمدادات الطاقة؛ إذ تعد منطقة الخليج موطنًا لنحو 50% من احتياطيات النفط العالمية وإنتاجها وصادراتها وحصة كبيرة من الغاز أيضًا، ويمكن أن تساعد أوروبا على التعامل مع النقص الحالي في الطاقة وارتفاع الأسعار. من ناحية أخرى، إذا تعطلت إمدادات الطاقة الخليجية كما هددت إيران ووكلاؤها الإقليميون، فإن إمدادات الطاقة وأسعارها ستتأثر في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أوروبا، مما يزيد الأمور تعقيدًا، وبالتالي يبرز الجانبان أكثر حرصًا على تأمين إمدادات الطاقة.
الملف النووي الإيراني:
يبرز الاتحاد الأوروبي أكثر حرصًا من بعض دول الخليج على التوصل إلى اتفاق نووي جديد. وقدم الممثل الأعلى لشؤون السياسة الخارجية والأمن جوزيب بوريل خلال مشاركته في منتدى الدوحة في مارس الماضي تحديثًا حول محادثات فيينا حول الاتفاق النووي مع إيران، وتبادل وجهات النظر حول التطورات الأخيرة في المفاوضات. وأجرى أمير قطر زيارة إلى إيران وألمانيا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى؛ لمناقشة جهود إحياء الاتفاق النووي.
وعلى الرغم من أن دول مجلس التعاون الخليجي ليست طرفًا في المفاوضات مع إيران، فإنها المعني الأول بتطورات الملف الإيراني وبالسياسات الإقليمية لإيران. ويزيد من تصاعد اهتمام دول المجلس بالملف الإيراني التحولات في المشهدين العالمي والإقليمي، سواء من ناحية مؤشرات الحرب الروسية على أوكرانيا، أو الانسحاب الأمريكي من المنطقة، أو تفاقم الأعمال العدائية لإيران ووكلائها في البر وضد الملاحة البحرية، أو ارتفاع أسعار النفط بسبب الحرب وتأثيرها السلبي على الاقتصاد العالمي، فضلًا عن بروز الصين كلاعب في المنطقة بعد الاتفاق الصيني الشامل مع إيران.
محددات الشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي
في وقت يتسم بانعدام الأمن والتحديات الكبيرة للنظام الدولي القائم على القواعد والتي تفاقمت بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، بذل الاتحاد الأوروبي أول جهد جاد منذ فترة طويلة لسد هذه الفجوة؛ من خلال تقديم اقتراح لـ “شراكة استراتيجية مع الخليج” في 18 مايو الماضي، حددت ستة مجالات لتعزيز التعاون: الازدهار، وانتقال الطاقة، والأمن العالمي، والمساعدات الإنسانية، والاتصالات بين الشعوب، والعلاقات المؤسسية.
وجاء الاقتراح في وقت يتزايد فيه القلق في بروكسل وواشنطن بشأن التقارب المستمر في الخليج نحو الصين وروسيا، ويتزامن ذلك أيضًا مع محاولة الاتحاد الأوروبي صقل صورته الإقليمية وإعادة إطلاق نفسه كشريك استراتيجي لدول الخليج. وقدم الاتحاد الأوروبي قائمة من الأفكار والاقتراحات، بما في ذلك بعض الأفكار والاقتراحات مثل إحياء المفاوضات من أجل التوصل إلى اتفاق تجاري وتسهيل الحوار الأمني الإقليمي. وتسعى الاستراتيجية أيضًا إلى فتح آفاق جديدة بعدة طرق تشمل:
تعزيز وجود الاتحاد الأوروبي في الخليج: تتعهد الاستراتيجية بتعزيز وجود الاتحاد الأوروبي في الخليج بشكل كبير، ومضاعفة تمثيل الاتحاد الأوروبي من خلال إنشاء بعثة جديدة للاتحاد في الدوحة سيتم افتتاحها في وقت لاحق من هذا العام، وتعيين سفير للاتحاد الأوروبي لدى دول مجلس التعاون الخليجي. بالإضافة إلى ذلك، سيقوم الاتحاد الأوروبي بترشيح ممثل خاص لأمن الخليج لإشراك دول مجلس التعاون الخليجي في قضايا الأمن الإقليمي، وهناك توقعات بإنشاء غرفة تجارة للاتحاد الأوروبي في الخليج لتسهيل العلاقات التجارية.
هذه الجهود مهمة لأنها ستمكن الاتحاد الأوروبي من أن يصبح أكثر حضورًا في الخليج، وتساعد على تعزيز تماسك الاتحاد الأوروبي على الأرض. ومن ثم من المتوقع من دول الخليج رفع مستوى تمثيلها الدبلوماسي في بروكسل، فجميع دول الخليج ليس لها بعثة منفصلة لدى الاتحاد الأوروبي، ولا يزال عدد الدبلوماسيين الخليجيين المعتمدين لدى الاتحاد محدود نسبيًا.
تصاعد الدور: يتعهد الاتحاد الأوروبي بلعب دور سياسي وأمني أكبر في الخليج. وسيتم دعم تعيين الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي لأمن الخليج من خلال حوار سياسي سنوي بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي، وإجراء مشاورات حول القضايا متعددة الأطراف. بالإضافة إلى ذلك، يتصور الاتحاد الأوروبي آلية تعاون جديدة بشأن الأمن البحري، فضلًا عن تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب، ومكافحة التطرف العنيف، والأمن السيبراني. وفي حين تمثل هذه الجهود بداية جيدة، فمن المرجح أن يجد الاتحاد الأوروبي صعوبة في إحراز تقدم في هذه المجالات؛ نظرًا إلى الاختلافات السياسية على جبهات متعددة، من صادرات الأسلحة، إلى حقوق الإنسان، والمخاوف المتعلقة بالخصوصية.
الطاقة النظيفة: سيبرز التحول في مجال الطاقة الخضراء كمحور تركيز جديد للعلاقات بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي؛ فمن ناحية، يتوق الاتحاد الأوروبي إلى الاستفادة من إمكانات الطاقة المتجددة الهائلة التي توفرها دول الخليج للمساعدة في تسهيل انتقال أوروبا إلى مستقبل محايد للكربون، ومن ناحية أخرى، يريد الاتحاد الأوروبي حشد القوة الشرائية المالية لدول الخليج من أجل مساعدة البلدان الأكثر فقرًا على الانتقال نحو مصادر الطاقة المتجددة.
وعلاوة على ذلك، إن مشاكل البيئة ومكافحة تغير المناخ أحد المجالات الأخرى التي يمكن للاتحاد الأوروبي العمل فيها مع دول مجلس التعاون الخليجي؛ إذ ستستضيف أبو ظبي مؤتمر المناخ الدولي COP28 في نوفمبر 2023. ذلك بالإضافة إلى الطلب المتزايد على تحلية المياه، والحاجة إلى زراعة المزيد من الغذاء محليًا، وهي ثلاثة مجالات يمكن أن تساعد فيها الخبرة والتكنولوجيا الأوروبية.
بشكل عام، توفر هذه الاستراتيجية نقطة انطلاق مهمة لإحياء العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي. وهي ترقى إلى مستوى اعتراف الاتحاد الأوروبي بالأهمية الاستراتيجية الخليجية المتزايدة، وتقدم عددًا من الأفكار الجديدة التي قد تساعد في تخفيف التوترات المستمرة بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي، مع إعادة التركيز على الاهتمامات المشتركة.
.
رابط المصدر: