- يمثل قرار واشنطن بفرض عقوبات على حكومة بورتسودان بتهمة استخدام الأسلحة الكيميائية، تحولاً لافتاً في موقف واشنطن تجاه الجيش السوداني، وربما ينبع القرار من تقدير واشنطن أنها بحاجة إلى استجابة أكثر حزماً إزاء جيش البرهان بوصفه الطرف المعرقل لجهود التسوية السياسية، بما يدفعه إلى مراجعة حساباته والقبول باستئناف المسار التفاوضي، بما قد يفضي إلى إنهاء الحرب وحل سياسي سلمي للأزمة.
- يضع التوجه الأمريكي العقابي الجيشَ السوداني وداعميه الإقليميين أمام تحدٍ جديد، يفرض عليهم التعاطي بحكمة لتفادي تبعاته المحتملة، حتى لا ينجذب السودان إلى مصير جيوسياسي مماثل للعراق في تسعينيات القرن الماضي.
- يُتوقَّع من واشنطن ضمان تخفيف وطأة عقوباتها على المدنيين، وبخاصة في ظل المعاناة الإنسانية الكبيرة من جراء الحرب الأهلية التي دخلت عامها الثالث.
في تحوُّل لافت في الموقف الأمريكي إزاء الصراع السوداني وطرفَيه، قرَّرت واشنطن في 22 مايو 2025 فرض عقوبات على حكومة بورتسودان، بناءً على ما خلُصَت إليه من أدلة على استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية في العام الماضي، خلال الحرب الأهلية الجارية في البلاد. ويُثير هذا القرار المقرر دخوله حيز التنفيذ في 6 يونيو المقبل، تساؤلات عدة بشأن دوافعه وانعكاساته أو تبعاته المحتملة على الجيش السوداني والأزمة السودانية بشكل عام، وعلى الديناميكيات المحلية والرهانات الإقليمية والدولية في هذا البلد، وهو ما تُحاول هذه الورقة تسليط الضوء عليه.
تطوُّر الموقف الأمريكي إزاء السودان وسياقاته
يُمثِّل هذا التوجه خروجاً عن سياسة الإدارة الأمريكية السابقة، التي حرصت إلى حد كبير على اتباع نهجٍ أكثر تحوطاً إزاء الصراع السوداني، والضغط باتجاه إنهاء الحرب وعودة الحكم المدني في البلاد، بما في ذلك عبر دعم جهود الوساطة المتعثرة (من منبر جدة إلى جنيف)، وفرض عقوبات متدرجة طاولت قائدَي الجيش والدعم السريع نفسيهما (عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي) في يناير الماضي، وقبل ذلك الشركات والأفراد المرتبطة بكليهما، مُعتبرةً إياهما مسؤولَين عن السلوك “الإجرامي” لقواتهما في أثناء الصراع.
ويأتي القرار الأمريكي وسط استمرار تزايُد انسداد أفق الحل السياسي للصراع السوداني الذي دخل عامه الثالث، نتيجة تصلُّب مواقف الجيش الرافضة للانخراط في المفاوضات، وإصراره على مواصلة الضغط العسكري، بدَفع من حلفائه الذين لديهم مصلحة في عرقلة مسار التسوية خشية المساءلة وإقصائهم من ترتيبات مستقبل البلاد، لاسيما المجموعات الإسلامية التي تتمتع بنفوذ قوي -تتوخى تعزيزه- داخل المؤسسة العسكرية ومفاصل الدولة، على نحوٍ يعيق جهود استئناف عملية السلام.
وعلى الأرجح، فقد جاء تلويح البيت الأبيض بهذا النوع من العقوبات غير المسبوقة التي خصَّ بها الجيش السوداني، نتيجة انتهاكه قانون مراقبة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والقضاء عليها لعام 1991، مُفاجِئاً لحكومة البرهان لسببين: الأول، ركونها المتزايد إلى علاقاتها القوية بالحلفاء الإقليميين، وعلى رأسهم مصر، وتعويلها على دورهم للتأثير في التوجهات الأمريكية لصالحها؛ والثاني، اعتقادها أن اهتمام الرئيس دونالد ترمب بمواصلة مسار التطبيع الذي بدأه خلال عهدته الأولى، ونجح من طريقه في إقناع الخرطوم بالانضمام إلى “الاتفاقات الإبراهيمية” في أكتوبر 2020، قد يبقى أحد أهم محددات سياسة ترمب إزاء الملف السوداني، ممَّا يجعله مَعنياً بكسب سلطة البرهان وليس معاقبتها على هذا النحو.
فضلاً عن ذلك، ربما كانت سلطة بورتسودان تنشد بعض الثناء الأمريكي، في وقتٍ يستثمر الجيش السوداني مكاسبه الميدانية الناجزة مؤخراً، والمتمثلة تحديداً في تأمين السيطرة على العاصمة الخرطوم ومعظم مناطق وسط البلاد، لتهيئة الشارع السوداني والمجتمع الدولي لنقاش اليوم التالي للحرب، وتمرير تصوراته للمرحلة الانتقالية، استناداً إلى “خريطة الطريق” التي أعلنها البرهان في 8 فبراير الماضي، والتي تضمّنت تشكيل “حكومة تكنوقراط” مفترضة، وإدخال تعديلات على الوثيقة الدستورية. وهو المنحى الذي مضى فيه البرهان بالفعل، بما في ذلك من طريق تعيينه السياسي المعروف كامل الطيب إدريس رئيساً للوزراء في 20 مايو، في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، إذ يجري تصويرها باعتبارها تصب في اتجاه التحوُّل المدني، في حين يعدُّها مناهضو تحالف البرهان مناورةً لتأمين الشرعية وتكريس بقاء النخبة العسكرية بقيادته في الحكم، على نحوٍ يُعيد إنتاج الأزمة وإطالة أمدها.
ماهية العقوبات الأمريكية المتوقعة وتداعياتها المحتملة
وفقاً لبيان الخارجية الأمريكية الصادر في 22 مايو، ستشمل العقوبات المرتقبة “قيوداً على الصادرات الأمريكية إلى السودان، وعلى الوصول إلى خطوط الائتمان الحكومية الأمريكية”، وهو ما سيعني حرمان السودان من الصادرات والمساعدات والمنح الأمريكية، وتقييد قدرته على الحصول على قروض أو تمويل، بما في ذلك من المنظمات الدولية.
ويَتوقَّع مراقبون أن يكون أثر هذه العقوبات محدوداً، لكنها ستُضر بالمدنيين أكثر من الجيش، لاسيما بالنظر إلى تواضُع التبادل التجاري بين البلدين، وقرار إدارة ترمب خفض الإنفاق على المساعدات الخارجية للسودان في وقت سابق من هذا العام، وقدرة الجيش على التكيف مع العقوبات، وإيجاد بدائل وتنويع مصادره، بما في ذلك عبر التوجه شرقاً. غير أنَّ هناك من يرى أن هذه التدابير قد تكون مجرد الدفعة الأولى من حزمة عقوبات أوسع وربما أشد وطأة من تلك التي فرضتها واشنطن على السودان بين عامي 1997 و2020، بحيث قد تدفع واشنطن باتجاه تجريم الجيش السوداني وإدانته، إقليمياً وقارياً ودولياً، بما في ذلك من طريق إجراء تحقيق دولي تقُوده منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وإعادة السودان إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب، وصولاً إلى الضغط داخل مجلس الأمن لإدراجه تحت البند السابع، مع ما يعنيه تطبيق استراتيجية متعددة الأوجه كهذه من توجيه ضغوط متسقة ومتظافرة من قِبَل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين وحتى الإقليميين على السودان، بما ستنطوي عليه من تبعات خطرة تطاول مختلف مناحي الحياة في هذا البلد، وبخاصة ما يأتي:
- على المستوى السياسي والدبلوماسي، قد تتسبب هذه الإجراءات حال تنفيذها في تعميق عزلة سلطة بورتسودان، وإضعاف القدرات التشغيلية والشرعية والمكانة السياسية للجيش السوداني، وبالتالي تغيير ميزان القوى وإعادة تشكيل النظام السياسي في البلاد.
- خنق الاقتصاد السوداني، من طريق تقييد التحويلات المالية والمعاملات المصرفية العالمية والإقليمية مع السودان، وتعطيل بعض القطاعات الاقتصادية الصناعية والخدمية، وإضعاف تدفقات التجارة الخارجية والاستثمارات، الأمر الذي سينسحب بالسلب على القطاع الخاص، ويمس حياة المواطن السوداني، ويعمق حدة الأزمة الإنسانية.
ومع ذلك، من غير المرجَّح وجود رغبة أمريكية في تصعيد تكتيكاتها الضاغطة على سلطة بورتسودان، بقدر وجود أغراض سياسية لواشنطن، بما فيها التأثير في توجهات حكومة البرهان المتعلقة بإدارة الصراع والسياسة الخارجية. وعليه، يُمكن القول إنّ الطريقة التي ستتجاوب فيها بورتسودان مع التوجه الأمريكي الآخذ في التشكُّل، ستكون حاسمة على الأرجح في احتواء أو تعميق الإحباط الأمريكي المتزايد من بورتسودان، ورسم ملامح المرحلة المقبلة من العلاقات الأمريكية-السودانية.
ويُشار إلى ظهور بوادر تراجُع نسبي في حدة ردود فعل حكومة البرهان، فقد أعلنت في 29 مايو تشكيل لجنة وطنية تضم وزارتي الخارجية والدفاع وجهاز الاستخبارات للتحقيق في الاتهامات الأمريكية، التي رفضها في وقت سابق وزير الإعلام والمتحدث باسم حكومة بورتسودان خالد الإعيسر، واصفاً إياها بأنها “ابتزاز سياسي”. في حين أنّ هناك من يُعوّل على رئيس الوزراء المعيَّن حديثاً، كامل إدريس، لإدارة الحوار والتواصل مع المجتمع الدولي.
دوافع واشنطن ورهاناتها
تُفصح السردية الجديدة للبيت الأبيض بشأن إثارة موضوع استخدام الجيش السوداني السلاح الكيماوي، عن أهداف أمريكية عِدَّة، يتمثَّل أبرزها في الآتي:
- إحداث اختراق في جدار الأزمة السودانية: تُقدِّر واشنطن أنها بحاجة لاستجابة أكثر حزماً إزاء الطرف المعرقل لجهود التسوية السياسية، والمتمثل في هذه الحالة في الجيش السوداني وحلفائه، والذين يراهنون على عنصر التوقيت والانشغال الدولي، لبرهنة تفوقهم في القضاء على قوات الدم السريع أو تحجيمها وحصرها في أجزاء من غرب البلاد وجنوبها. وبالتالي، تتوخى الإدارة الأمريكية أن تسهم العقوبات المرتقبة في تضييق خيارات الجيش السوداني وخفض رهاناته المتعلقة بمواصلة الحرب التي تبدو لانهائية لحسم المعركة من طريق القوة، بما يدفعه إلى مراجعة حساباته والنزول عند رغبة مناوئيه المحليين وذوي المصلحة الإقليميين في استئناف المسار التفاوضي، لصوغ خريطة طريق تنهي الحرب، وتُمهد لإطلاق عملية سياسية شاملة تُفضي إلى حل سياسي مستدام للأزمة.
- ضمان دور حاسم في هندسة اليوم التالي للحرب السودانية: قد ترغب إدارة ترمب في الإلقاء بثقلها لوضع السودان في مسار أكثر مواءمة للشواغل الأمريكية والإقليمية، بما في ذلك عبر الإسهام في إعادة تشكيل التوازنات والتحالفات السودانية ورسم الملامح المستقبلية للبلاد. فمن المرجح أن التغير الحاصل في خريطة النفوذ والسيطرة لا ينسجم مع تفضيلات واشنطن وبعض شركائها في المنطقة، ليس فقط لكونه يدفع باتجاه تصاعُد موجة الاقتتال وتزايد تحوُّل مسرح الحرب غرباً، ويرفع المخاوف من زيادة تأزم المشهد السوداني وتقريبه من مسارات التشرذم والتقسيم، ولكن أيضاً لما ينطوي عليه من تحوُّل محتمل مثير للقلق، لجهة تشديد قبضة العسكر وتفرّدهم بالحكم، وتهميش الجبهة المدنية العريضة، وعودة “لإسلام السياسي” للهيمنة على الدولة والفضاء العام.
- ضبط الإيقاع الإقليمي: تنظر الولايات المتحدة إلى تزايد تقارب سلطة بورتسودان مع المحور الإيراني والتركي –عبر دبلوماسية الطائرات المسيرة التي رجّحت الموازين العسكرية لصالح الجيش مؤخراً- بعدم ارتياح، وبخاصة أن النفوذ المتنامي لطهران وأنقرة في السودان قد يؤدي إلى تقوية شوكة الإسلاميين.
- متطلبات الديناميكية التنافسية مع الصين وروسيا: تتجاوز المقاربات الأمريكية إزاء السودان أزمات وتفاعلات المشهدين السوداني والإقليمي إلى ما هو أبعد؛ إذ بطبيعة الحال، تقع منطقتا الشرق الأوسط والقرن الأفريقي في صلب الحسابات الأمريكية لمحاصرة النفوذ الصيني والروسي في هذا الجزء الحيوي من العالم. وعلى سبيل المثال، مضى مجلس السيادة السوداني في توثيق العلاقات بموسكو وبيجين إلى حد أثار قلق واشنطن والقوى الغربية، بما في ذلك من طريق إحياء الخطط الروسية الرامية لإنجاز اتفاق في فبراير 2025 يسمح لبحريتها بالتمركز طويل الأمد في سواحل بورتسودان، مُتجاهلاً تحذيرات أمريكية سابقة من عواقب مثل هذه الخطوة، لكونها ستُضر بمصالح السودان وتُعمّق عزلته.
استنتاجات
يضع التوجُّه الأمريكي العقابي الأخير المبني على معلومات استخبارية الجيشَ السوداني وداعميه الإقليميين أمام تحدٍّ جديد وربما غير مسبوق، وسيكون عليهم إعادة النظر في نهجهم الحالي لتفادي تبعاته المحتملة، حتى لا ينجذب السودان إلى مصير جيوسياسي مماثل للعراق في تسعينيات القرن الماضي. ويُتوقَّع من واشنطن، في هذا الإطارـ ضمان استيفاء الشروط الموضوعية اللازمة للتحقُّق المستقل من عدم امتثال الحكومة السودانية لمعاهدة حظر الأسلحة الكيميائية، وتخفيف وطأة العقوبات الأمريكية المرتقبة على المدنيين.
وفي المقابل، يظل الجيش السوداني تحت قيادة البرهان مطالباً أكثر من أيّ وقتٍ مضى بالتخفُّف من سياسات التعالي الرامية للهيمنة على الدولة وتجاهل قضايا الهامش، وبخاصة في مناطق كردفان ودارفور، وذلك بالنظر إلى حقيقية أن الحرب الدائرة ليست مجرد صراع على السلطة بين جنرالَين، وإنما هي امتداد للصراع العرقي والإثني والمناطقي بين نخب المركز والأطراف.