نزع اتفاق اللحظات الأخيرة بين الجمهوريين والديمقراطيين فى الكونجرس حول رفع سقف الدين، فتيل أزمة كانت ستعصف بالاقتصاد وسمعة أمريكا عالميا إذا ما عجزت عن تسديد ديونها والتزاماتها المالية داخليا وخارجيا، بسبب عدم رفع سقف الدين المقرر بـ31٫4 تريليون دولار. الاتفاق الذى توصل إليه الرئيس بايدن ورئيس مجلس النواب كيفين مكارثى جاء كصيغة توفيقية وسط بين المطالب المتشددة للجانبين حيث طالب الجهوريون، خاصة الجناح اليمينى المتشدد، بخفض النفقات الحكومية الفيدرالية، مع خفض الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى، بينما رفض الديمقراطيون تلك المطالب باعتبار أن هذه التزامات ضرورية للحكومة الفيدرالية خاصة نفقات الضمان الاجتماعى وكذلك رواتب وميزانية القوات المسلحة والمتقاعدين، كما أن فرض الضرائب على الأغنياء والشركات يمثل مصدرا مهما للإيرادات. وتضمن الاتفاق خفضا لبعض النفقات فى الميزانية الجديدة خاصة البرامج التقديرية غير الدفاعية والتى تمثل إنفاذ القانون المحلى وإدارة الغابات والبحث العلمى، كذلك تخفيض مبلغ 10 مليارات دولار من الأموال المخصصة لمكافحة كورونا، وفى ذات الوقت الإبقاء على الانفاق الدفاعى 886 ملياردولار فى العام الجديد.
الاتقاق تم التوصل إليه بسبب خشية الحزبين الديمقراطى والجمهورى من تحمل مسئولية التسبب فى أزمة الدين ومن ثم ستكلفهما كثيرا فى الانتخابات الرئاسية القادمة فى عام 2024. ورغم أن الاتفاق تجنب حدوث تداعيات كارثية مثل عجز أمريكا عن سداد ديونها وتخفيض تصنيفها الائتمانى، وما يترتب عليه من حالة عدم يقين فى الاقتصاد، وتراجع الاستثمارات الخارجية والداخلية واهتزاز وضع الدولار كعملة عالمية، كذلك تجنب فقدان 3 ملايين وظيفة وعدم حصول أصحاب المعاشات والمحاربين القدامى على مستحقاتهم ، إلا أن أزمة الدين لها العديد من التوابع والتداعيات السياسية والاقتصادية.
أولا: رغم أن أزمة رفع سقف الدين تكررت عدة مرات فى السابق خاصة فى عهد الرئيس الأسبق أوباما فى عام 2011 وترتب عليها تخفيض التصنيف الائتمانى الأمريكى، وكذلك فى عهد الرئيس ترامب، إلا أنها المرة الأولى التى يختلط فيها الاقتصادى بالسياسى، فقد خضعت تلك الأزمة للمساومات والمناورات السياسية من الحزبين، فى ظل حالة الاستقطاب السياسى الشديدة بينهما والانقسام داخل المجتمع الأمريكى، حيث حمل الجمهوريون إدرة بايدن مسئولية أزمة الدين بسبب التوسع المفرط فى الإنفاق، خاصة فى مجال الإنفاق الاجتماعى وقانون مواجهة التغيرات المناخية، بينما اتهم الديمقراطيون الجمهوريين فى الكونجرس بمحاولة عرقلة الرئيس بايدن وجعله كالبطة العرجاء لاعتبارات سياسية بالأساس.
ثانيا: كشفت أزمة رفع سقف الدين ثغرات وعورات الاقتصاد الأمريكى والتحديات الكبيرة التى يمر بها خاصة فى ظل ارتفاع حجم الدين بشكل كبير فى أقل من عقد ونصف من 10 تريليونات دولار فى بداية عهد أوباما 2009 إلى 31٫4 تريليون دولار فى عهد بايدن وتزايد العجز بسبب الفجوة الكبيرة بين النفقات والإيرادات، وهو ما يعكس أزمة هيكلية يواجهها الاقتصاد الأمريكى بسبب السياسات الاقتصادية الداخلية لإدارة بايدن، والتى تقوم على الإنفاق الاجتماعى وتمويله بالأساس من خلال زيادة الضرائب مما يقلل فرص الاستثمار، كذلك رفع معدلات الفائدة أكثر من 5% خلال العامين الأخيرين. وقد فاقمت جائحة كورونا والأزمات الاقتصادية العالمية والحرب الروسية الأوكرانية من التحديات الاقتصادية، وتزايد معدلات التضخم وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة بشكل غير مسبوق، مما أرهق كاهل المواطن الأمريكى وزاد من تكلفة مستوى معيشته وهو ما سيكون له تداعيات سلبية على الحزب الديمقراطى فى الانتخابات الرئاسية القادمة ويزيد من حظوظ الجمهوريين فيها، حيث إن الاقتصاد هو المحدد الأساسى لاختيارات الناخبين، كما أن تقليل الإنفاق الاجتماعى سيؤثر سلبا على فرص بايدن فى الفوز فى تلك الانتخابات.
ثالثا: أزمة الدين الأمريكى كاشفة أيضا لتراجع الاقتصاد الأمريكى فى مواجهة الصعود الاقتصادى للصين، كما عكست أيضا تراجع مكانة الدولار عالميا مقابل صعود العملات الأخرى مثل اليوان الصينى والروبل الروسى والروبية الهندية وغيرها، واتجاه هذه الدول إلى الاستغناء عن الدولار والتعامل فيما بينها بعملاتها المحلية، وهو ما يؤثر سلبا على مكانة أمريكا فى النظام الاقتصادى العالمى ومن ثم سيسهم فى تسريع التحول الحالى فى النظام السياسى الدولى من أحادى القطبية إلى التعددية القطبية، كذلك التحول فى النظام الاقتصادى الدولى السائد منذ الحرب العالمية الثانية والقائم على مؤسسات بريتون وودز (صندوق النقد الدولى والبنك الدولى ومنظمة التجارة العالمية)، إلى نظام متعدد يشمل مؤسسات مالية واقتصادية عالمية أخرى تقودها الصين.
رابعا: من توابع أزمة الدين الأمريكى تأثر السياسة الخارجية الأمريكية والدعم العسكرى الأمريكى الخارجى خاصة لأوكرانيا، حيث يتهم الجمهوريون وقطاع كبير من الشعب الأمريكى إدارة بايدن بعسكرة العلاقات الدولية وإشعال الأزمة الأوكرانية وتقديم الدعم العسكرى اللامحدود لأوكرانيا، وهو ما أثر سلبا على الاقتصاد الأمريكى، لذلك من المتوقع انخفاض الدعم العسكرى الأمريكى لأوكرانيا خلال الفترة المقبلة، خاصة إذا فاز مرشح الحزب الجمهورى فى الانتخابات.
انتهت أزمة رفع سقف الدين مؤقتا حتى بداية عام 2025 لكن توابعها والتداعيات السياسية والاقتصادية ستلقى بظلالها على المشهد السياسى الأمريكى الداخلى والانتخابات المقبلة، كذلك على وضع أمريكا الاقتصادى فى العالم وصراعها الاقتصادى مع الصين.
نقلا عن الأهرام
.
رابط المصدر: