محمد علي جواد تقي
“من تواضع لله رفعه”.
رسول الله، صلى الله عليه وآله
وهو في أوج قوته السياسية والدينية، لم يفارق التواضع سلوكه مع أصحابه المقربين، ومع القادمين من البادية، ومع الزائرين من البلاد البعيدة، بل وحتى مع أعدائه، لم يشوبه الكبر والتعالي طرفة عين، وهو في ظروف وأحوال لو كان القليل منها لأي شخص آخر ربما يعلن نفسه الوصي والقيّم على لقمة عيش الناس وحرية حركتهم، بل ومصيرهم في الحياة!
معادلة “التعالي تساوي القوة” توقفت أمام رسول الله، صلى الله عليه وآله، وهي ذليلة متواضعة! فقد بقي ذلك النبي والقائد القوي والعزيز ذو الشخصية الأخاذة لدى القاصي والداني بتواضعه الجمّ، وانسيابه مع الجميع؛ صغاراً وكباراً، الرجل منهم والمرأة.
وبما أن التواضع في اللغة يعطي معنى الانخفاض، أو أن نضع شيء ما على الارض، فقد رأى بعض الفلاسفة والمفكرين في هذه الصفة الاخلاقية ما يتناقض مع النجاح في الحكم، وفي “سياسة” الناس بما يحقق للحاكم الطاعة والولاء، ومن ثمّ الارتياح والاطئمنان على كرسي الحكم لفترات طويلة.
فمن عهد اليونان القديمة نقرأ من “جمهورية أفلاطون” أن الحكم مقتصر على الحكماء والفلاسفة، وليس لأي شخص آخر، وهيكلية الدولة في رؤية هذا الفيلسوف المثالي شأنها شأن جسم الانسان، فالحكم يحتل مرتبة الرأس المدبر والمفكر والموجه لسائر أعضاء الجسم الذين ليس لهم سوى الطاعة المطلقة في كل الاحوال.
ومن القرن السادس عشر الميلادي، ومن ايطاليا نقرأ في كتاب “الأمير” للفيلسوف والمفكر السياسي، نيقولا ميكافيلي، أن “على الحاكم أن لا يأمن جانب الناس مطلقاً”، وان يكون على حذر دائم منهم، ربما يكون الحاكم –في رؤية ميكافيلي- مثل نسر يقطن الأعالي ويحلق في الفضاء ويراقب ما تحته من تحركات في الارض!
وهذا ما جعل الكثير في عالم اليوم، لاسيما في الدول المبتلية بالدكتياتورية، يؤمنون –بما يصعب عليهم التشكيك فيه- بأن مصدر القوة والمنعة في الحكم تأتي من التعالي والحفاظ على مسافة لا بأس بها مع افراد المجتمع، في المسكن، وفي الحركة بالشارع، وفي أي لقاءات او تجمعات معينة، أما التواضع فانه مدعاة للهشاشة والضعف بما يثير طمع الناس بالتطاول والمعارضة والنيل من الزعيم الأوحد.
يهودي يحبس النبي في المسجد!
كتب السيرة تنقل لنا شواهد كثيرة عن تواضع النبي الأكرم مع الجميع، واهتمامه الأكبر بمشاعر الناس وكرامتهم، وليس بموقعه ومكانته التي لا يدانيها أحد من العالمين، بيد أن حادثة اليهودي في المسجد تعكس الوجه المشرق للقيادة الحكيمة، والقوة الحديدية لدولة الرسول وهي في أيامها الاولى وسط تحديات ماحقة.
ورد عن أمير المؤمنين، عليه السلام، أن يهودياً كان له على رسول الله، بضعة دنانير فتقاضاه منه، فقال النبي لليهودي: ما عندي ما أعطيك، عندها قال اليهودي: فاني لا أفراقك يا محمد حتى تقضيني! فقال: إذاً؛ أجلس معك، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع، الظهر والعصر، والمغرب والعشاء والغداة، وكان اصحاب رسول الله، يتوعدونه ويهددونه، فنظر اليهم، صلى الله عليه وآله، وقال: ما الذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول الله، يهودي يحبسك؟! قال: لم يبعثني ربي –عزّوجلّ- بأن أظلم معاهداً ولا غيره، فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله.
كان النبي الأكرم يبحث عن القوة والعزّة في الدولة الاسلامية، ليس فقط في شخصه الكريم، وهو كامل الصفات الحميدة والكريمة، وإنما في افراد الامة، بل وحتى الساكنين بين ظهراني المسلمين، من اليهود او النصارى، فهؤلاء لهم دورهم الحساس في تعزيز قوة الدولة ومنعتها عندما يجدوا أنهم محترمون في ظلم منظومة اخلاقية وقيمية سامية، فلن يكونوا ظهيراً لأعداء الاسلام، مهما كانت المغريات.
ومن أجل ذلك يتطلب الأمر بذل مجهود نفسي من نوع خاص، فالقضية ليست سهلة بالمرة، إنما تحتاج اجتياز عقبة الذات العالية جداً للوصول الى “تواضع قيادي” لأن “تواضع الصغير أمر طبيعي، أما اذا كان الانسان كبيراً فان قيمة التواضع تكون أعلى وأرفع”، (عالم الغد، المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي)، وفي هذا الكتاب وصف سماحة الامام الشيرازي قيادة النبي الأكرم، بـ “القيادة الرشيدة المتواضعة”، وهي القيادة التي تعطي القيمة للجماهير أولاً، وتحترم الصغير والكبير، ومن نوادر التواضع لدى رسول الله في هذا المجال تحديداً؛ أنه “كان اذا خرج مشى أصحابه أمامه وتركوا ظهره للملائكة”، (عن جابر بن عبد الله الانصاري)، وعن أنس بن مالك قال: “كنا اذا أتينا النبي، جلسنا حلقة”، حتى اذا جاء شخص من بعيد لا يميز من هو النبي والقائد بين الجالسين، وهي الحلقة التي أوصى النبي الأكرم بنفسه تشكيلها وأن تكون طريقة جلوس المسلمين معه، وعن أمير المؤمنين، عليه السلام: “ما انتصر نفسه من مظلمة حتى تنتهك محارم الاسلام فيكون حينئذ غضبه لله تبارك وتعالى”.
إن تأطير القوة والمنعة والهيبة في هوية الشخص القائد تكون وبالاً على صاحبها، فلن يلبث أن يتنحى عن الزعامة بانقلاب عسكري، او تحول ديمقراطي، او موت، فان تلك القوة والمنعة ستذهب مع صاحبها حيث ذهب، ولن تستذكر الجماهير منه سوى حب الذات والاهتمام بالمصالح الخاصة، وأن القوة إنما ارادها لشخصه وجماعته.
هل من علاقة بين التواضع والرؤية الاستراتيجية؟!
طالما أكد وذكّر النبي الأكرم، أصحابه في ساعات الحرب بألا يغفلون عن انفسهم عندما تشتبك السيوف والرماح ويكون جلّ التفكير في الغلبة وتحقيق الانتصار على العدو، علماً أن المسلمين في تلك الفترة كانوا أحوّج ما يكونوا للانتصار مع وجود القبائل العصية على رسالة السماء، وفلول المشركين من مكة، الى جانب اليهود، كل هؤلاء كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، وبالنبي للقضاء عليهم، ولكن النبي لم يكن يريد الإسلام لتلك الفترة العابرة من الزمن، وإنما لليوم الذي نحن فيه، والى يوم القيامة.
وكما يتغلغل الكبر في نفوس معظم القادة والساسة، فانه يفعل الشيء نفسه في نفوس الجماعات؛ في قالب احزاب سياسية، او مؤسسات أمنية وعسكرية، وايضاً الجيوش التي ترى في نفسها القوة الضاربة والمتفوقة على الآخر، “فالمحارب اذا رأى كثرة عدده تملكه الغرور والكبر، لكن حتى هذا الاحساس الباطني ممنوع في الاسلام”. (عالم الغد، الامام الشيرازي)،وقد ذمّ القرآن الكريم المسلمين في يوم حنين لعُجبهم بكثرتهم، وجاء في سياق الآيات من سورة التوبة حول ظروف معركة الاحزاب، وكيف أن المسلمين “أعجبتهم كثرتهم”، جاءت الإشارة الى المنافقين {وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ } وفي التفاسير؛ {أُذن} بمعنى أنه وضع نفسه موضع السماع لكل يقوله الآخرون، فجاء الخطاب الإلهي المُفحم بأن سماع النبي لما هو خير للمسلمين.
هذه هي حدود تفكير المنافقين والانتهازيين في المدينة –آنذاك- الذين كانوا يشكلون الطابور الخامس في الدولة الاسلامية، فقد كانوا يرون في تواضع النبي لاصحابه وافراد جيشه، واستشارته إياهم في معظم الامور، لاسيما في الخطط العسكرية، كما حصل في معركة الخندق و الاخذ بمشورة سلمان المحمدي بحفر الخندق، بأنه نوع من “الضِعة” والضعف، وهم به أجدر.
فقد كانت رؤية النبي استراتيجية على طول الخط، وكان يفكر كيف يضمن الحياة للاسلام والسلامة للمسلمين على مدى الدهور. وهذا ما يتجسّد في موقفه المميز والحضاري مع اليهود كما يشرحه لنا الامام الشيرازي في كتابه عالم الغد، “بأن النبي الاكرم، وبعد غزوة الخندق، اتجه لاستئصال اليهود من المدينة بعد ما تبين أنهم يتحينون الفرص للانقضاض عليها، وبعدما نقضوا عهد الأمان وأعلنوا الحرب، كالتي قادها حي بن أخطب، زعيم اليهود وقائدهم وصاحب الجهد الاكبر في تشكيل الحزب بين كل أعداء الدين الجديد ومحاصرة المدينة، وفي تلك المرة هزم المسلمون اليهود، وكانت هزيمة ساحقة وعقوبتهم صارمة، واذا كان قدر الانسان هو الحرب، فان خير الحضارات هي التي لا تجعل الحرب نتيجة أحقاد موروثة، ولا ترتب على الحرب توارث الاحقاد والتفرقة، وهناك تألقت واحدة من إشراقات حضارة الاسلام، لفتة نبوية تستأصل كل إمكانية ظهور تيار معاد لليهود كونهم يهوداً، أو نمو حالة احتقار لجنس اليهود، فاتخذ النبي الأكرم قراراً بإعلانه الزواج من صفية، ابنة قائد اليهود (حي أبن أخطب)، وفي نفس ليلة المعركة، وحتى لا يبيت الجيش المنتصر إلا وهو يسلّم على ابنة اليهودي بـ “السلام عليك يا أم المؤمنين”!!
ولو قلبنا صفحات التاريخ من بعد حياة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، لوجدنا الصمت المطبق والهدوء التام من جانب اليهود داخل الدولة الاسلامية، فلا مشاعر خوف، او عداء، أو تحسس من شيء طيلة العقود والقرون اللاحقة، بما يؤكد غياب أية مشكلة لليهود في المجتمع الاسلامي.
ولعل هذه النقطة المضيئة تكون الأبرز بين النقاط المضيئة الاخرى في تواضع النبي وآثارها الحضارية في مستقبل الأمة، صحيح أنه تركها آسفاً على ضحالة ايمانها وتدني وعيها ومعرفتها به وبأهل بيته، ولكن يبقى تواضعه وسائر خصاله الأخلاقية العالية حجة دامغة على كل من تقمّص “الخلافة” من بعده.
ومن نافلة القول في الختام، ونحن نستذكر هذه الأيام فاجعة الرحيل، أن نستذكر الحادثة التي شهدها جموع المسلمين في الساعات الاخيرة من حياته، صلى الله عليه وآله، عندما أعلن للمسلمين بأن من له حقٌ عليه، أن يطلبه الآن، فضجّ الحاضرون بالبكاء، وبينا هم كذلك، وإذا بأحدهم يقوم من مكانه متوجهاً الى حيث يجلس النبي الأكرم وهو في مرضه، وقال أمام الجمع: أنا لي حقٌ عليك يا رسول الله!! فعقلت الدهشة أفواه الجميع، وساد صمت رهيب مصحوب بالاستغراب، فما كان من النبي إلا أن أدناه وقال له: ادنو منّي، فقال له الرجل: ذات مرة، وأنت على راحلتك، أصاب قضيبك بطني، فأريد أن اقتص منك! فكشف النبي الأكرم له بطنه وقال: اقتص كما تريد! فجاء الرجل وقبّل بطن النبي الأكرم ليحظ بهذه الفرصة التاريخية والاستثنائية، وهو يقول: ومن أنا حتى اقتص من النبي؟! –مضمون الرواية-.
رابط المصدر: