علي عاطف
لا تنحصر تداعيات استخدام الطائرات المسيرة الإيرانية (الدرونز) في الأزمة الروسية الأوكرانية، كما يتحدث بشأنها مسئولون غربيون وتقارير دولية، في إمكانية إحداث تحولات عسكرية تكتيكية، أو حتى استراتيجية في أحسن الأحوال، فيما يتعلق بمسار الحرب الدائرة بين موسكو وكييف، بل تتسع نتائج هذه التطورات المحتملة لتشمل ما هو أبعد من ذلك بكثير.
حيث إن استخدام المسيرات الإيرانية في هذه الأزمة العسكرية يحمل في ثناياه أبعادًا مختلفة على مستويات متعددة عسكرية وسياسية واقتصادية، لعل أبرزها تداعيات ذلك على طبيعة العلاقات الإيرانية الغربية، ومدى التصعيد المحتمل بين إيران وإسرائيل، في ظل اختلاف المواقف إزاء الأزمة الأوكرانية، والتحول المتوقع أن يطال العلاقات الروسية الإسرائيلية أيضًا بما يعنيه هو الآخر من التأثير على قضايا وملفات معقدة ومتشابكة من أبرزها ملف المصالح الإسرائيلية في سوريا وارتباطها غير المباشر بالدور الروسي، علاوة على إمكانية أن ينعكس التوتر الروسي الإسرائيلي إيجابًا عند الحديث عن تعزيز الموقف الإيراني في الشرق الأوسط.
وفي ضوء ذلك، نتناول فيما يلي أبرز التحولات المحتملة الخاصة بالعلاقات الروسية الإسرائيلية بعد التقارير التي أفادت مؤخرًا بانخراط إيراني في الأزمة الأوكرانية عن طريق إمداد موسكو بطائرات مسيرة (درونز).
1.تحول الدعم الإسرائيلي لأوكرانيا من الإنساني إلى العسكري:
على الرغم من معارضة إسرائيل الواضحة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إلا أن المسئولين الإسرائيليين حاولوا كثيرًا تجنب التصعيد الثنائي مع روسيا عن طريق دعم كييف بالأسلحة، خاصة الثقيلة منها. فقد انتقدت إسرائيل على لسان وزير خارجيتها آنذاك (رئيس الوزراء الحالي)، يائير لابيد، العملية العسكرية الروسية بعد ساعات فقط من انطلاقها في 24 فبراير 2022. حيث صرّح لابيد آنذاك قائلًا، إن “الهجوم الروسي على أوكرانيا انتهاك خطير للنظام الدولي”، مشددًا على “إدانة” إسرائيل له.
ومع ذلك، امتنعت إسرائيل عن تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا واكتفت بالدعم الإنساني فقط، إلى جانب المساندة السياسية عبر انتقاد العملية الروسية. وقد دفعها إلى تبني هذه السياسة خشيتها من تبعات اضطراب علاقاتها مع روسيا، وتأثير ذلك على ملفات بعينها أهمها مصالحها في سوريا، وأن ينتج عن ذلك تعزيز موسكو تنسيقها مع إيران في سوريا على حساب المصالح الإسرائيلية.
وبحسب وجهة نظرها، فإن إسرائيل تعتقد أنه من الممكن تضرر ملفات أخرى أيضًا تبعًا لذلك، من بينها ملف أنشطة الوكالة اليهودية الدولية، وهو ما ترى أنه قد يمتد إلى التأثير على اليهود في روسيا.
وعلى هذا النحو، حاولت إسرائيل موازنة موقفها إزاء الأزمة الروسية الأوكرانية خلال الأشهر الماضية.
أما مع ما كشفت عنه تقاريرُ غربية وأوكرانية فيما يتعلق بتدخل إيران في هذه الأزمة من خلال المسيرات، فقد بدا أن إسرائيل قد تُغير من موقفها إزاء تطورات الصراع في أوكرانيا، في ظل عدائها الصريح وحالة الصراع المستمرة مع طهران، ومع تأكيد إسرائيل المتكرر على أن موقفها واضح في الحرب ويتمثل في “دعم الموقف الغربي”. فمثلما تتضارب المصالح الروسية الأمريكية في مثل هذه الملفات ويسعى الطرفان طبقًا لذلك إلى التدخل لعدم توسع نفوذ الطرف الآخر، قد تضطر إسرائيل إلى الانخراط بشكل أكبر في الأزمة الأوكرانية حتى لو أصبح ذلك ممكنًا عن طريق الدعم المعلوماتي الاستخباري فقط.
إننا نجد كييف قد ناشدت على الفور إسرائيل بالتدخل بعد استخدام طائرات مسيرة إيرانية في المعارك مؤخرًا، قائلة إن “تواطؤ طهران يجب أن يكون خطًا أحمر بالنسبة لإسرائيل”. ونجد أيضًا يوم 20 أكتوبر الجاري أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، قد تحدث هاتفيًا مع وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، وأطلعه الأخيرُ على “آخر تطورات الحرب في أوكرانيا”، كما أكد لابيد على أن “إسرائيل تقف إلى جانب الشعب الأوكراني”، حسب بيان صادر عن مكتبه. وأعرب رئيس وزراء إسرائيل كذلك عن “قلق عميق” بشأن العلاقات العسكرية الإيرانية مع روسيا، وهو ما يُرجّح قصده مسألة المسيرات الإيرانية.
وإذا أخذنا في الحسبان أن إسرائيل أكدت أكثر من مرة في السابق رفض طلب كييف تزويدها بالأسلحة الثقيلة، فإن تجديد كوليبا لذلك الطلب في هذا التوقيت، أي في ظل الحديث عن دور إيراني؛ لا يعني سوى أن احتمالية انخراط إسرائيل عسكريًا داخل أوكرانيا في المستقبل القريب قد باتت تلقى صدى أقوى. ولا يعني ذلك بالطبع وجود قوات إسرائيلية أو حتى تقديم الدعم العسكري بشكل علني، إذ قد تترجم إسرائيل في هذا الصدد تصريحات الممثل الخاص لأوكرانيا في الشرق الأوسط، مكسيم صبح، التي أدلى بها أواخر سبتمبر 2022 حينما طالب إسرائيل بتقديم مساعدات عسكرية “إما بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال أطراف ثالثة”.
بل إنّ إسرائيل قدّمت بالفعل خلال الأيام الأخيرة معلومات استخباراتية إلى أوكرانيا بشأن الطائرات المسيرة الإيرانية أكدتها تصريحاتُ مسئول أوكراني أوضح في أغسطس الماضي أن “الإسرائيليين قدموا لنا بعض المعلومات الاستخباراتية، لكننا بحاجة إلى أكثر من ذلك بكثير”. وقد أكد الإسرائيليون أنفسهم ذلك حينما أدلى مسئول عسكري إسرائيلي بتصريحات في هذا الشأن إلى صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في منتصف شهر أكتوبر 2022 قائلًا إن “المنظومة الأمنية الإسرائيلية زوّدت أوكرانيا بمعلومات استخباراتية أساسية عن الطائرات الإيرانية من دون طيار التي استخدمتها روسيا” في العملية العسكرية.
2.توتر نوعي غير مسبوق في العلاقات الروسية الإسرائيلية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي:
إذا ما سارت التحولات على النحو المُشار إليه آنفًا، أي توسع الدور الإسرائيلي في الأزمة الروسية الأوكرانية لصالح كييف، فإن ذلك سيعني على الفور ارتفاع حدة التوترات السياسية المباشرة بين روسيا وإسرائيل، وانعكاسها بالتالي على تشابكات المصالح الخارجية السياسية منها والعسكرية، وذلك بشكل غير مسبوق منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991.
وبعيدًا عن ملفات الشرق الأوسط المتداخلة وذات الحيوية القصوى لإسرائيل، فإن من بين القضايا الأخرى التي قد تخضع لتأثير مثل هذه الاضطرابات السياسية الثنائية بين روسيا وإسرائيل تجيء:
- إمكانية إحداث روسيا فجوة واسعة في معادلة التوازن العسكري الشامل بين إسرائيل وإيران.
- تعزيز روسيا للدفاعات العسكرية السورية بشكل يفوق توقعات الإسرائيليين عما هو قائم الآن.
- معادلات الأوضاع الأمنية في القوقاز، في ظل أهميتها مؤخرًا لإسرائيل.
- ملف أنشطة “الوكالة اليهودية للهجرة” في روسيا، حيث تعتزم وزارة العدل الروسية حلها بعدما رَفَعَتْ دعوى قضائية أمام محكمة بالعاصمة ضد المنظمة، التي تدعم هجرة اليهود إلى إسرائيل، اتهمتها فيها في شهر يوليو 2022 بـ”جمع معلومات عن أفراد في روسيا”. وكشف إعلام إسرائيلي عن أن الحكومة الروسية وجّهت رسالة إلى الوكالة طالبتها فيها بـ”إيقاف جميع عملياتها في البلاد”.
- وإلى جانب ما سبق، قد يتأثر بالتالي التعاون التجاري والعلمي والتبادل السياحي بين الطرفين.
3.تغيير جذري في معادلة الصراع الأمني والعسكري داخل سوريا:
يُعد التنسيق الروسي مع إسرائيل في سوريا أبرز ما يمكن الإشارة إليه عن الحديث عن العلاقات الروسية الإسرائيلية، كما أنه الملف الأكثر حيوية لدى إسرائيل في هذا الشأن. وهو ما لا تخفيه الأخيرة، وعلى النحو الذي وصف فيه السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة، مايكل هيرتسوج، في شهر أبريل 2022 طبيعة هذا التنسيق بأنه “عنصر حاسم في أمننا القومي”.
إذ إن هناك اتفاقًا ضمنيًا بين الطرفين يُسمح بموجبه بتنفيذ إسرائيل ضرباتٍ جوية ضد أهداف إيرانية في سوريا، ترى إسرائيل أنها تهدد أمنها. ويجري هذا في ظل تفوق جوي إسرائيلي، عند المقارنة بإيران، داخل الأراضي السورية، وهو ما أدى إلى اطمئنان إسرائيل النسبي وعدم تفاقم التهديدات الموجهة ضدها انطلاقًا من الأراضي السورية خلال السنوات الماضية.
أما مع انخراط إسرائيلي متزايد، حال وقوعه، في الأزمة الأوكرانية لصالح كييف، فإنه يُرجّح أن يُلقي ذلك بظلاله على الموقف الإسرائيلي في سوريا، من حيث قدرتها بالأساس على السيطرة على التهديدات القائمة هناك. حيث قد تقود مثل هذه التحولات إلى التوجه لتزويد إيران بعتاد دفاعي ومنظومات عسكرية لا تستطيع معها إسرائيل مواصلة تلك الضربات الجوية على النحو الذي تقوم به منذ سنوات، وعلى وجه الدقة منذ 30 يناير 2013 حينما ضُربت قافلة سورية كانت تحمل أسلحة إيرانية إلى “حزب الله” اللبناني، أو حتى مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا بوجه عام والذي يُرجّح أن يقوى خلال الفترة الجارية مع انشغال روسي بالأساس في أوكرانيا.
ويعني هذا بلا شك حدوث تحول جذري في معادلة الصراع العسكري داخل سوريا التي نشأت واستمرت على وضعها القائم حاليًا منذ السنوات الأولى التي تلت الأزمة السورية في عام 2011.
ويأتي هذا بالطبع جنبًا إلى جنب مع ما ذُكر آنفًا من إمكانية تزويد روسيا للجيش السوري بدفاعات جوية وقدرات قتالية أكثر تطورًا، كما لا يُستبعد أيضًا في هذا الشأن وقوع صدامات روسية إسرائيلية، وهو ما يمكن أن يقود الموقف إلى نتائج أكثر خطورة مما سبق.
الخيار الأكثر ترجيحًا أمام إسرائيل
إن أكثر ما يُقلق إسرائيل في الوقت الراهن، فيما يخص طبيعة علاقاتها مع روسيا وتداعيات تقديمها دعمًا عسكريًا لأوكرانيا بالأسلحة الثقيلة، يتمثل في الاحتمالية الثالثة المذكورة هنا بشأن طبيعة الموقف والتوازن العسكري على الأراضي السورية. إذ إن ذلك يتصل اتصالًا مباشرًا بأمن إسرائيل، خاصة وأن إيران لديها وكلاء آخرون في المنطقة يتمركزون في مناطق أخرى غير تلك السورية، ولكن بالقرب من إسرائيل، يمكنهم أن يُحْكِموا من الضغوط العسكرية على إسرائيل بشكل لم يسبق له مثيل إذا ما انهارت العلاقات الروسية الإسرائيلية.
وعليه، فإن التطورات الأخيرة الخاصة بحضور إيران في الأزمة الأوكرانية تضع إسرائيل في معضلة كبرى حقًا، بحيث لا تدري ماذا تفعل حيالها. ومع ذلك، فإننا نستنتج مما سبق أن إسرائيل قد تختار عدم التوسع في دعم أوكرانيا عسكريًا، خاصة وأن هناك داعمين آخرين أكثر قوة من إسرائيل يقومون بتقديم المساعدات لها على المستويات العسكرية والأمنية ومؤخرًا المادية من خلال خطط الدعم الشهري التي أعلن عنها الاتحاد الأوروبي يوم 21 أكتوبر 2022 بقيمة 1.4 مليار دولار.
لذا، قد تكتفي إسرائيل بتزويد القوات العسكرية الأوكرانية بمعلومات استخباراتية وصور من الأقمار الاصطناعية للمواقع العسكرية الروسية مع التوسع في توفير المساعدات الإنسانية لكييف.
وختامًا، إذا كانت الدول الأوروبية والولايات المتحدة منزعجين من استخدام الطائرات المسيرة الإيرانية في أوكرانيا، فإن الأولى قد تقرأ هذا التطور من زاوية أخرى وتضع له عنوانًا مناسبًا هو “وصول الطائرات الإيرانية لأول مرة إلى الأراضي الأوروبية”، وهو تحول لطالما سعت الدول الأوروبية إلى تجنبه خلال السنوات الماضية عن طريق منع إيران من امتلاك سلاح نووي أو برنامج صاروخي باليستي، لأن الأراضي الأوروبية أقرب جغرافيًا لإيران بحيث لا تفصلهما مسافة تزيد عن ألفي كيلومتر بات بمقدور بعض أنواع الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية مؤخرًا طيها، وهو ما يشير إلى احتمالية حدوث تحول في السياسة الأوروبية تجاه إيران خلال الفترة المقبلة.
.
رابط المصدر: