محمد حسن
أضافت القوة الناعمة كثيرًا للقوة الصلبة التركية وتحديدًا منذ عام 2013، حيث وقفت تركيا على أعتاب المنطقة العربية وجناحيها الشرقي والشمالي لتشاهد بزوغ فرصة تاريخية تتمثل في ملء الفراغ الاستراتيجي في عدة نقاط حرجة بجسد المنطقة العربية، جراء تهدُّم ما تبقّى من القوة العسكرية والسياسية السورية والعراقية، وانفراط عقد الاقتتال الداخلي في ليبيا والصومال واليمن، وتهديد الخاصرة الجنوبية للمنطقة العربية وخاصة في إفريقيا بظاهرة الإرهاب العابر للحدود، وتباعًا الوقوف أمام محصلة نهائية تُقر بانهيار موازين القوى لصالح القوى غير العربية في منطقة الشرق الأوسط وعلى رأسها تركيا. وهو ما وضع الاستجابة العسكرية لأنقرة لهذا الوضع الجيوسياسي الجديد أمام أدوار مختلفة. وبدأت في عام 2013 بتصدير قدراتها الصلبة العسكرية النظامية/ واللا متماثلة، كأدوات رئيسية لتثبيت نفوذها وتوسيع فضاءات تحركاتها على اتجاهاتها الرئيسية الثلاثة (الاتجاه الآسيوي + الاتجاه العربي + الاتجاه الإفريقي)، مع الأخذ في الاعتبار أن الاتجاه الآسيوي المعني بمنطقة آسيا الوسطى وتخومها الشمالية ما زال ضمن أولويات صناع القرار في أنقرة، ويخضع لأبعاد الامتداد العرقية وطموح القومية الطورانية.
علاوة على أن الاتجاهات الثلاثة السالف ذكرها كانت الأنشط لتحركات أنقرة خلال عقد “الأدوات الصلبة”، وهو ما تحاول هذه الورقة تحليله واستشراف مستقبل الاتجاهات الثلاثة، وما حققته الأدوات الصلبة العسكرية (اتفاقيات التعاون الدفاعي والدفاع المشترك + التدريبات المشتركة + مبيعات الأسلحة النوعية + الدعم والتدخل العسكري المباشر) من تعزيز للنفوذ التركي فيها، من خلال معالجة كل اتجاه على حدة؛ على النحو التالي:
- الاتجاه الآسيوي:
يقع هذا الاتجاه على رأس أولويات صناع القرار في أنقرة، نظرًا لكونه مجالا مهيّأ للمشروع التوسعي التركي جراء التركيبة العرقية والثقافية لدوله الناطقة بالتركية الخمس (أذربيجان، تركمانستان، كازخستان، أوزبكستان، قيرغيزستان). فهو الاتجاه الوحيد ضمن الثلاثة السالف ذكرهم الذي يتبلور على أساس الاعتبارات القومية والعرقية (تركستان الكبرى) قبل الحديث عن خطوط المواصلات ونقل الطاقة.
ووضعت أنقرة لهذا الاتجاه آليات سياسية لتحقيق عنصر التكامل في السياسات العامة للدول الناطقة بالتركية وتوظيف مواقفها لصالح المشروع التركي، حيث حوّلت تركيا منظمة “المجلس التركي” الذي يضم الدول الخمس الناطقة بالتركية إلى “منظمة الدول التركية” منتصف نوفمبر 2021، كما اختُتمت أعمال القمة الثامنة لزعماء الدول الناطقة بالتركية في هذا التاريخ، بإعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحويل “المجلس التركي” الذي يضم هذه الدول، إلى “منظمة الدول التركية”، في خطوة يمكن اعتبارها نتاجًا لاستخدام الأدوات العسكرية التركية، من خلال أنماط:
1.الدعم والتدخل العسكري المباشر:
حيث تدخلت أنقرة عسكريًا في هذا الاتجاه من جزئه الجنوبي “جنوب القوقاز”، في حرب الأسابيع الستة بين أرمينيا وأذربيجان. حيث وفرت أنقرة الدعم العسكري للأخيرة من خلال إرسال درونز “البيراقدار”، والمركبات المدرعة وقطع المدفعية، بل تدخلت أنقرة بصورة مباشرة ونفذت عمليات الإسناد الجوي بمقاتلات إف 16، والتي كشفت صور الأقمار الصناعية عن تمركز عدد منها بمطار “كنجة” داخل أذربيجان في أكتوبر 2020. علاوةً على إرسال دفعات من المرتزقة السوريين للقتال لصالح القوات الأذرية في الخطوط الأمامية. وأسفر الدعم العسكري التركي السخي لأذربيجان عن انتصار الأخيرة على أرمينيا وفتح ممرين استراتيجيين، الأول ممر لاتشن، والثاني ممر زانجيزور.
ويضمن الممر الثاني ربطًا مباشرًا بين تركيا وأذربيجان على صعيد خطوط المواصلات والتجارة والطاقة، مما يعني ضمنيًا وصول تركيا إلى بحر قزوين، وإمكانية حدوث الربط الطاقوي بين تركيا ودول آسيا الوسطى من دون الحاجة للمرور عبر جورجيا كما الحال في خط النفط “باكو – تلبيسي – جيهان”، وخط الغاز خط الغاز “باكو-تبليسي-أرضروم”.
2. أبرز اتفاقيات التعاون الدفاعي:
- تركيا وأذربيجان:
أبرمت تركيا وأذربيجان اتفاقًا للتعاون الدفاعي والدفاع المشترك في يونيو 2021. وجاء توقيع الاتفاق ضمن “إعلان شوشة” الذي أسس لتحالف استراتيجي بين أنقرة وباكو. وقد تم التعبير عن ذلك في “إعلان شوشة” في البنود التالية:
- في حالة مواجهة أي من الطرفين اعتداء أو تهديدًا من دولة/دول أخرى يمس جوانب الاستقلال أو السيادة أو وحدة الأراضي أو تهديد الأمن والحدود المعترف بها دوليًا، يعقد الطرفان مشاورات ويتخذان الخطوات اللازمة لمنع هذا الاعتداء أو التهديد بما يتوافق مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة مع تقديم المساعدة اللازمة لبعضهما.
- يتم تحديد حجم ونوعية المساعدة والدعم عن طريق اللقاءات العاجلة بين الطرفين وتلبية الاحتياجات العسكرية لاتخاذ تدابير دفاعية مشتركة. ويتم ضمان التنسيق بين القوات والوحدات الإدارية بالقوات المسلحة للطرفين.
- الاتجاه العربي:
يعتبر الاتجاه العربي الأكثر تعرضًا للأداة العسكرية التركية، نظرًا لمعامل القرب الجغرافي وانهيار الدول العربية المجاورة للحدود التركية وتفشي ظاهرة الإرهاب العابر للحدود، وانتهاء احتكار الدول للقوة الإكراهية نتيجة نشاط الجماعات الإرهابية والمسلحة. ويمثل الاتجاه العربي مجالًا مقاومًا للمشروع التوسعي التركي حتى بالرغم من تطويع أنقرة لأدوات الإسلام السياسي وتصديرها لخطاب الأممية الإسلامية عوضًا عن القومية الطورانية حينما تُولي وجهها شطر الاتجاه العربي.
وعليه جاءت الأدوات العسكرية التركية في هذا الاتجاه، كالآتي:
1. التدخل العسكري المباشر:
حيث شنت تركيا أربع حملات عسكرية بطول الشريط الحدودي مع سوريا منذ عام 2016 (عملية درع الفرات – عملية غصن الزيتون – عملية نبع السلام – عملية درع الربيع). وجراء هذه العمليات توغلت تركيا في شمال سوريا بعمق تراوح بين 30 و50 كم، وعلى طول جبهة وصلت إلى 400 كم.
وشهدت معارك هذه العمليات تكاملًا في الأدوار بين الجماعات المسلحة السورية والقوات النظامية التركية، بحيث تمهد الأولى الميدان للثانية، فيما أظهرت المعارك الارتباط الوثيق بين القوات النظامية التركية ومجموعات إرهابية منضوية تحت لواء تنظيم القاعدة كهيئة تحرير الشام.
وفي شمال العراق، شنّت تركيا عمليات مخلب النسر 1-2، ومخلب النمر، منذ مايو 2019. وتوغلت بعمق 30 كم بداخل الحدود العراقية، وثبتت نقاط مراقبة عسكرية ومحطات استخبارات وصلت إلى 30 نقطة وقاعدة ومعسكر تعمل على توجيه ضربات المدفعية وسلاح الجو ضد أهداف حزب العمال الكردستاني.
وفي ليبيا، تدخلت تركيا عسكريًا منذ أواخر 2019، سواء بعناصر الاستخبارات والمستشارين العسكريين وإرسال الأسلحة النوعية لصالح حكومة فائز السراج. وسعت تركيا هناك لتثبيت نقاط دعم لوجيستي لقطعها البحرية، والسيطرة على قاعدة الوطية الجوية، فيما بدأت في إرسال دفعات من المرتزقة السوريين منذ مطلع عام 2020؛ إلا أن مجهودها العسكري قد وقف أمام إعلان القاهرة وخطه الأحمر “سرت – الجفرة”. لكنها ثبتت نقاطًا للدعم اللوجيستي في ثماني نقاط بالغرب الليبي، منها الساحل الليبي “موانئ الخمس طرابلس مصراته”، وقاعدة الوطية الجوية.
2. تدشين القواعد العسكرية:
يُعتبر المسرح العربي هو المنطقة الأكثر احتواءً للقواعد العسكرية التركية، إذ دشنت تركيا قاعدتين عسكريتين في كل من قطر والصومال، بدأت أعمال التدشين الفعلي لهما من عام 2014. وتتواجد تركيا عسكريًا ممثلة بقوات برية وبحرية وجوية بموجب اتفاقات وقعتها أنقرة مع حكومتي قطر والصومال. وتستهدف هذه القواعد وضع تركيا أمام الممرات البحرية من مضيق هرمز لباب المندب، ومياه الخليج العربي والبحر الأحمر.
3. اتفاقيات التعاون الدفاعي (قطر – الكويت) نموذجًا:
وقّعت تركيا وقطر اتفاقًا لتأسيس شركة للصناعات الدفاعية المشتركة بينهما في عام 2018، وذكرت شركة “أسيلسان” للصناعات الدفاعية التركية أن الشركة الجديدة المشتركة تم إطلاق اسم “برق” عليها وتتخذ من قطر مقرًا لها. وجاء تأسيس هذه الشركة بالتعاون مع شركة “برزان القابضة” التابعة لوزارة الدفاع القطرية، وشركة (SSTEC) التركية لتقنيات الصناعات الدفاعية.
كما شاركت قطر في تمويل مصنع للمدرعات والدبابات، بنسبة 49%، في ولاية صكاريا شمال غربي تركيا. وأبرمت شركتا “أريس” و”يونجا- أونوك” التركيتان صفقات توريد قطع بحرية، حيث ستقوم شركة “أريس” بتصنيع 9 زوارق لخفر السواحل القطري، في حين تقوم شكرة “يونجا- أونوك” بتصنيع 8 زوارق حربية للقوات القطرية.
كما سلمت تركيا لقطر 6 مسيرات قتالية طراز بيراقدار تي بي 2، بموجب عقد تم توقيعه بين الحكومة القطرية وشركة بايكار في معرض “ديمدكس” في الدوحة عام 2018. وتم التعاقد مع ثلاثة أنظمة ومحطات تحكم أرضية، علاوة على تدريب 55 متدربًا قطريًا لتشغيل هذه الطائرات، وتم التسليم في غضون عام من توقيع العقد.
وفي عام 2018 وقّعت الكويت وتركيا اتفاقًا للتعاون الدفاعي يتضمن خطة عمل للتعاون الدفاعي العسكري بين الطرفين حتى عام 2019. وعقدت هذه الاتفاقية في ختام الاجتماع الخامس للجنة التعاون العسكري المشتركة بين البلدين. وتهدف الاتفاقية إلى تحقيق منظومة عمل موحدة وتبادل الخبرات وتوحيد المفاهيم لتحقيق التنسيق بين القوات المسلحة لدي البلدين. وفي يونيو 2021، توجهت قوة عسكرية كويتية إلى تركيا للمشاركة في تمرين عسكري مع الجيش التركي. وتحتفظ الكويت بعلاقات جيدة مع الجانب التركي بالرغم من التوترات الإقليمية الناجمة عن موقف الرباعي العربي من قطر في يونيو 2017، حيث كانت الكويت بمثابة النافذة التي تعبر من خلالها الوساطات الدولية الرامية لحلحلة الأزمة.
- الاتجاه الإفريقي:
يمثل الاتجاه الإفريقي الفضاء الأوسع لتحركات تركيا. فإفريقيا تقع بعيدة نوعًا ما عن سياسة المحاور التي أدارت طاحون الحرب في الشرق الأوسط خلال العقد الماضي، كما أن مجال المقاومة للتحركات التركية هناك يعتبر الأضعف في الاتجاهين السابقين.
ويأتي التحرك التركي في إفريقيا بصورة نظامية تراعي حسابات الجغرافيا السياسية وتعقد الامتدادات العرقية والإثنية، وأيضًا تواكب المزاج الديني للكتلة المسلمة. ولهذا نرى تركيز أنقرة على منطقتي شرق وغرب إفريقيا وما بينهما من دول تشكل ما يشبه الحزام الأمني حول الخاصرة الجنوبية للمنطقة العربية ودول شمال إفريقيا.
ففي شرق إفريقيا، اتجهت أنقرة لتثبيت نقطة ارتكاز عسكرية لها في جزيرة سواكن في عام 2017، إلا أن سقوط نظام البشير في عام 2019 قد أنهى هذا الخطط. وباتت أنقرة تنظر جنوبًا باتجاه الساحل الصومالي فما زالت تتمركز هناك في أكبر قاعدة عسكرية لها في الخارج. وبدأت أنقرة في تعزيز علاقاتها العسكرية مع دول شرق إفريقيا بالتوازي مع تصاعد انخراطها الاستخباراتي والعسكري في غرب إفريقيا (ساحل غينيا + دول الساحل والصحراء)، من خلال الأدوات العسكرية التالية:
- توفير التقنية العسكرية اللازمة لمكافحة الإرهاب:
تعاني غالبية دول شرق وغرب إفريقيا من الافتقار للتقنية العسكرية اللازمة لمواجهة النشاط الإرهابي من الشبكة الإقليمية لتنظيمي داعش والقاعدة، ولا سيما بعدما بدأ التنظيمان في تنفيذ عملية إعادة تموضع وانتشار من غرب آسيا باتجاه شرق ووسط وغرب إفريقيا منذ هزيمة تنظيم داعش في مطلع عام 2019.
وتحتاج هذه الدول إلى تقنية الطائرات المسيرة القتالية، التي تحقق مبدأين، أولًا: التكلفة التشغيلية المنخفضة. ثانيًا: الفعالية مع نمط حروب العصابات.
وعليه، نجحت شركة بيكار والشركة التركية لصناعات الفضاء في التسويق لنموذج طائرات البيراقدار المسيرة لكل من النيجر والمغرب ونيجيريا وأنجولا ورواندا. فيما اشترت بالفعل المغرب والنيجر وحدات من طائرات البيراقدار، واشترت تونس وحدات من طائرات “أنكا- إس” حيث تعتبر الزبون الأجنبي الوحيد لها حتى الآن.
واستبقت موجة الشراء الأخيرة، جولة الرئيس التركي في أكتوبر الماضي، لأنجولا ونيجيريا وجمهورية توغو. حيث كانت الجولة بمثابة تسويق للصناعات الدفاعية التركية بالمقام الأول، حيث جرى التوقيع على عدة اتفاقيات دفاعية وتجارية وسياحية وثقافية مع هذه الدول.
كما أعلنت النيجر (4 ديسمبر) أنها اشترت طائرات مسيرة طراز بيراقدار، وطائرات (Hurkus) للتدريب المتقدم. ومن المقرر تسليم أول طائرة في غضون ستة أشهر.
يأتي هذا بالتزامن مع تسلم المغرب الدفعة الأولى من المسيرات القتالية بيراقدار، منتصف سبتمبر الماضي. وكانت المغرب قد طلبت شراء 13 طائرة مسيرة في أبريل الماضي.
الخلاصة
- تراوح تركيا استخدامها للأداة العسكرية من التدخل العسكري المباشر لتأسيس الشراكات الدفاعية وعقد صفقات التسلح؛ بناءً على بنك أهداف مشروعها التوسعي، وظروف التنافس الإقليمي الحاد مع مصر وإيران وإسرائيل.
- تواجه القوة الناعمة لتركيا تحديًا كبيرًا مع استمرار ترميم منظومة الأمن الإقليمي العربي، وتباعًا تزداد احتمالات لجوء تركيا للأدوات العسكرية.
- أثبتت تركيا أن الأدوات العسكرية ساعدت في ترسيخ وتدعيم نفوذها بصورة أسرع من أدوات القوة الناعمة والسياسة الإيجابية النشطة.
- وصل حجم صادرات الصناعات الدفاعية التركية في 11 شهرًا من عام 2021 إلى 2 مليار و793 مليونًا و974 ألف دولار، محققة زيادة بنسبة 39.7% عن الفترة ذاتها من العام الماضي، لتسجل رقمًا قياسيًا لصادرات المنتجات الدفاعية والجوية. ومثلت الاتجاهات الثلاثة السالف ذكرها غالبيتها.
- تحجيم الانخراط العسكري الأمريكي وتفكيك التواجد العسكري الفرنسي في الساحل والصحراء، قد وفّر فرصة كبيرة للصناعات الدفاعية التركية بسد احتياجات دول المنطقة من التقنية العسكرية تحديدًا، مما يعزز من دور الأدوات العسكرية في تثبيت نفوذ أنقرة، فيما يبرز تحدٍّ آخر لما ستقدمه آليات التكامل الأمني لمكافحة الإرهاب في تحجيم هذا النفوذ وتفكيك ارتباطاته المشبوهة مع الجماعات والمسلحة والظاهرة الإرهابية العابرة للحدود.
- هذه الدوائر التي تنتشر فيها تركيا تمس بصورة مباشرة عناصر الأمن القومي العربي والمصري بصورة كبيرة.
.
رابط المصدر: