د. رغدة البهي
اتجهت أنظار العالم أجمع إلى محطة زابوريجيا النووية على خلفية زيارة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية لها في الأول من سبتمبر الجاري، وهي الزيارة التي تأتي على خلفية القصف المستمر لمحيط المحطة النووية، والاتهامات المتبادلة بين موسكو وكييف، وتصاعد الحديث عن الإرهاب النووي، وفشل الجهود الدولية في احتواء التوترات بقيادة الأمم المتحدة، وسط مخاوف من حدوث انفجار نووي أو هيدروجيني أو تسرب نووي وإطلاق إشعاعات نووية تتجاوز تداعياتها الحدود الأوكرانية، ولا سيما أن محطة زابوريجيا تعد هي أكبر محطة نووية في أوروبا بالنظر إلى عدد مفاعلاتها الستة، وقدرتها على إنتاج ما يقرب من خُمس الكهرباء الأوكرانية قبل اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية.
أولًا- الأبعاد والمخرجات:
يمكن الوقوف على أبرز أبعاد وأهداف ومخرجات زيارة بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى محطة زابوريجيا النووية من خلال النقاط التالية:
1- هدف الزيارة: هدفت بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى رصد الوضع الراهن للمحطة النوية على خلفية عمليات القصف التي تعرضت لها، وبحث بعض المستندات التقنية المتعلقة بعمل المحطة والتي قدمتها وزارة الطاقة الأوكرانية، بجانب التأكد من وجود معدات عسكرية تابعة للقوات الروسية في محيط المنطقة. وهو ما يُسهم -في مجمله- في احتواء المخاوف من احتمال وقوع حادث نووي أو تسرب إشعاعي، وهي المخاوف التي أضحت عالمية في طبيعتها، وإن استعدت أوكرانيا لها من خلال بعض التدريبات الافتراضية، بجانب دعوتها المتجددة لموسكو للكفّ عن قصفها للطرق المؤدية إلى المحطة النووية.
2- دور البعثة المُرسلة: استغرقت بعثة الوكالة النووية للطاقة الذرية، التي ضمت 14 مفتشًا، نحو 5 ساعات في المحطة النووية. وعلى خلفية ذلك، أكد المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية “رافاييل غروسي” أنه تمكن من زيارة الموقع بأكمله، ولا سيما المفاعلات النووية ونظام الطوارئ وغرف التحكم، ومراقبة مستوى الإشعاعات، وتقييم طبيعة الأضرار المتكبدة طيلة الأسابيع الماضية، وغير ذلك. وعليه، أشاد “غروسي” بتفاني الموظفين الأوكرانيين الذين واصلوا العمل في المحطة بعد سقوطها في أيدي القوات الروسية منذ شهر مارس الماضي، واصفًا أداءهم بمنتهى المهنية.
3- الصعوبات اللوجستية: واجهت بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحديات عدة تسببت في تأخر وصولها إلى المحطة بسبب قصف الممر الذي كان من المقرر أن تسلكه من أجل الوصول إليها. حيث كتب “دميترو أورلوف” (رئيس بلدية مدينة “إنرغودار”) على تطبيق تليجرام أن “الروس يشنون قصفًا مدفعيًا على الطريق الذي يُفترض أن تسلكه بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية نحو محطة زابوريجيا”. وهو ما وصفه “غروسي” بالقول “إن ثمة نشاطًا عسكريًا متزايدًا حتى وقت قريب للغاية قبل التفتيش”، بيد أنه اطلّع من جانب القائد العسكري الإقليمي على طبيعة المخاطر المحتملة للزيارة، ولا سيما في المنطقة الرمادية (أي المسافة الفاصلة بين القوات الأوكرانية والروسية) والتي على الرغم من تعددها، فإنها لم تُثبط عزم البعثة، ولم تضاهِ المكاسب المتوقعة من الزيارة.
4- مُخرجات الزيارة: أكد “غروسي” في أعقاب زيارته للمحطة النووية أن المحطة وسلامتها المادية انتُهكت مرات عدة نتيجة تعرضها لقصف متكرر، وأنه لا يملك العناصر اللازمة لتقييم هذا الأمر الذي لا يمكن له أن يستمر. وهو ما يعني أن كثيرًا من النقاط الفنية لا تزال قيد البحث والدراسة، وأن الجزم بطبيعة الأضرار المتكبدة يستلزم مزيدًا من الخبراء والوقت والأدوات الفنية، وأن عملية الفحص الفني لا بد أن تحدث في سياق مضطرب عسكريًا.
5- المسعى المرتقب: تهدف بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى تحقيق هدف مُعلن مفاده فرض الرقابة الدائمة على المنشاة النووية الأوكرانية، وهو الهدف الذي ورد على لسان “غروسي” الذي قال: “أطمح أن تتواجد بعثتي بصفة دائمة”. وبالتوازي لذلك، سيبقي بالفعل قسم من فريق خبراء الوكالة في المنشأة النووية عدة أيام حتى الأحد أو الاثنين (4 أو 5 سبتمبر الجاري) لمواصلة تقييم الوضع في المحطة دون أن يتضح عددهم بعد، وما يؤكد ذلك أن بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية وصلت إلى مقر المحطة النووية على متن تسع مركبات؛ غادر منها أربعة فقط عند انتهاء الزيارة، على أن يبقي اثنان من الخبراء حتى توقف الأعمال العدائية.
ثانيًا- أبرز الدلالات:
تُثير زيارة بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى محطة زابوريجيا النووية جملة من الدلالات التي يمكن الوقوف عليها من خلال النقاط التالية:
1- زيارة متأخرة: في سابقة هي الأولى من نوعها عالميًا، نشب قتال عسكري محتدم حول محطة طاقة نووية نشطة، ما دفع آلاف من العمال الأوكرانيين لتشغيلها في ظل ظروف مضطربة وسط مخاوف من خروجها عن السيطرة، ونزوح السكان في المناطق القريبة منها نزوحًا جماعيًا. وعلى الرغم من خطورة الأوضاع، أتت زيارة بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية عقب جهود استمرت عدة أشهر وسط خلافات حادة بين الجانبين الروسي والأوكراني حول الطريق الذي يجب أن يسلكه مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية خلال زيارتهم؛ في ظل رفض أوكرانيا القيام بأي مهمة عبر الأراضي التي تحتلها روسيا، وعدم قدرة روسيا -في المقابل- على ضمان سلامة مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية حال انتقالهم من الأراضي التي تسيطر عليها أوكرانيا.
2- تهديد الأمن النووي: علّقت المنشآت النووية الأوكرانية في خضم الحرب التقليدية لأول مرة في التاريخ على نحو يهدد قواعد الأمن النووي؛ فقد وظفت روسيا المحطة النووية كقاعدة عسكرية لما يتمتع به محيطها من حماية تكفلها الجدران والرقابة الدائمة. وعليه، نادى كثيرون بضرورة مناقشة العلاقة بين الحرب العسكرية والأمن النووي بعد أن انصب التركيز سلفًا على سيناريوهات الإرهاب النووي والأخطاء البشرية. ولحماية أمنها النووي، دعت أوكرانيا على مدار الأشهر الثلاثة الماضية -دون أن تحقق أي نجاح بعد على هذا الصعيد- الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى إلزام أعضائها باحترام محيط يبلغ طوله خمس كيلومترات حول المنشآت النووية، وهو المحيط الذي لا يسمح للقوات العسكرية باختراقه.
3- توقيت حرج: تأتي زيارة بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية في أعقاب إعلان “إنرغوأتوم” (الشركة الحكومية الأوكرانية المشغلة لمحطة زابوريجيا) عن فصل الأخيرة بالكامل عن شبكة الكهرباء الأوكرانية بعد انقطاع الخطوط التي تصلها بشبكة الطاقة الوطنية للمرة الأولى في تاريخها على خلفية تعرضها لقذيفة هاون أعقبها تشغيل نظام الطوارئ وتوقف العمل في 5 مفاعلات نووية. وعليه، طالب الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” برد فعل سريع من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
4- مدى فاعليّة الزيارة: وإن حققت بالفعل أحد أهدافها المتمثل في بقاء عدد من خبرائها هناك، قد يكون من المبكر تقييم فاعلية زيارة بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لأن الهدف الأسمى الذي دعت إليه الأمم المتحدة والمتمثل في وقف أي نشاط عسكري في محيطة محطة زابوريجيا وإنشاء منطقة منزوعة السلاح حولها لضمان أمن الموقع لا يزال بعيد المنال. كما يمكن القول إن تقييم “زيلينسكي” الأوّلي لتلك الزيارة يُدلل على تراجع فاعليتها. ففي رسالته المسائية اليومية، قال إنه كان ينبغي للوكالة الدولية للطاقة الذرية أن تذهب أبعد من ذلك، وتُصرّ على الحاجة إلى نزع السلاح من تلك المنطقة النووية. كما أعرب عن أسفه لقيام القوات الروسية بمنع الصحفيين الدوليين من الانضمام إلى البعثة، وحمّلها مسئولية الفشل في حماية ممثلي وسائل الإعلام المستقلة.
5- عراقيل محتملة: تملك روسيا خبرة تقنية وتشغيلية كبيرة في مجال الطاقة النووية، حيث تشغل 38 محطة نووية في مختلف أنحاء البلاد. وبالنظر لخبرتها تلك، يمكن الدفع باستمرار القوات الروسية في السيطرة على محطة زابوريجيا رغم تزايد المخاطر المحتملة بالتوازي مع تصاعد حدة القتال. كما لا يمكن إنكار خطورة عدم دراية السلطات الأوكرانية بشكل كامل بالوضع داخل المحطة النووية في الوقت الحالي على الرغم من وجود بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مما يعني حاجتها لمزيد من الدعم الدولي.
6- ساحة جديدة لتبادل الاتهامات: تزعم أوكرانيا أن روسيا تستخدم المحطة النووية كدرع ومخزن عسكري لإطلاق الهجمات من محيطها، بينما تتهم روسيا أوكرانيا بإطلاق النار بشكل متهور على تلك المحطة. ومن جديد، اتهم الرئيس الأوكراني روسيا بشن ضربات مدفعية على مدينة “إنرغودار “حيث تقع محطة زابوريجيا، كما أفادت هيئة الأركان العامة الأوكرانية بوجود قصف مكثف استهدف كلًا من محيط خاركيف وزابوريجيا إلى جانب مناطق أخرى. فيما أكد وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” أن روسيا تبذل قصارى جهدها لضمان تشغيل محطة زابوريجيا النووية الأوكرانية بأمان، وإن اتهمت وزارة الدفاع الروسية الجيش الأوكراني بشن ضربات مدفعية على نقطة لقاء بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على مقربة من المحطة النووية، وأكدت إحباط عملية استفزازية خططت لها قوات كييف في المحطة النووية يوم وصول بعثة الوكالة الدولية للطاقة الذرية لاستخدامهم كدروع بشرية.
ختامًا، تتزايد أهمية التقرير النهائي الذي ستصدره الوكالة الدولية للطاقة الذرية أوائل الأسبوع المقبل، كما تتزايد بالتبعية أهمية اتخاذ تدابير ملموسة لحماية تلك المحطة النووية من العمليات العسكرية كافة. إذ تتزايد خطورة فصل المحطة عن شبكة الكهرباء الأوكرانية لأنه قد يعني إمكانية حدوث كارثة محققة على شاكلة حادث تشرنوبل في عام 1986 (لا سيما أنها تقع على بعد 500 كم فقط منها). ولذا، فإن مسألة منع وقوع كارثة نووية جديدة أضحى هدفًا عالميًا على نحو يستلزم تفعيل جهود مختلف الدول والمنظمات الدولية، بل وحث مختلف الدول على تشديد أمن منشآتها النووية.