د. أحمد سلطان
عانى لبنان منذ أواخر عام ٢٠١٩ من أسوأ انهيار مالي له منذ عقود، مع انهيار العملة، وارتفاع التضخم إلى ثلاثة أرقام، بالإضافة إلي تعثر الحكومة وعدم سداد ديونها الدولية، وفشلت في اتخاذ الإجراءات اللازمة لكسب الدعم الدولي. ومع تضاؤل الاحتياطيات الأجنبية في البنك المركزي، تضاءلت كذلك إمدادات الطاقة، فتوفر مؤسسة كهرباء لبنان الآن بضع ساعات فقط في اليوم، مع اعتماد الأسر اللبنانية على الاشتراكات في المولدات الاحتياطية الخاصة. ووصف البنك الدولي الأزمة الاقتصادية في لبنان بأنها من أسوأ الأزمات المالية التي شهدها العالم منذ ١٥٠ عامًا، وبلغ معدل التضخم في عام ٢٠٢٠ أكثر من حوالي ٨٠٪، بالتزامن مع أزمة الطاقة الحادة.
واقع الكهرباء في لبنان
تعود مشكلة الكهرباء في الدولة اللبنانية إلى أيام الحرب الأهلية التي ألحقت أضرارًا كبيرة بهذا القطاع الحيوي. وبالرغم من تخصيص نحو ٣٠ مليار دولار خلال العقود الثلاثة الماضية لإصلاح هذا القطاع وتحديثه، بقي غير قادر على تلبية الطلب المحلي سوى بنسبة لا تتعدي ٥٠٪. ويعود السبب الرئيس في ذلك إلى الإهمال المستمر لموارد القطاع العام، غير أن الوضع تفاقم أكثر فأكثر في أغسطس من عام ٢٠٢١ عندما أعلن مصرف لبنان المركزي أنه لم يعد بإمكانه تمويل واردات الديزل والوقود والغاز اللازمة لمحطات التوليد والمولدات بأسعار الصرف المدعومة.
وتمتد أزمة نقص إمدادات الكهرباء في لبنان إلى عقود سابقة وطويلة، وتبلغ القدرة الفعلية لشبكة الكهرباء في لبنان حاليًا أقل من ثلثي ذروة الطلب، ما يُشكل فجوة تبلغ حوالي ١٬٥ جيجاوات. ومن هنا يجب الإشارة إلي أن الكهرباء المدعومة من الدولة رخيصة إلى حد كبير، لأن أسعارها لم تتغير منذ عام ١٩٩٤، لكن تكاليف تكميل الإمداد المتقطع بمولدات الديزل عالية التكاليف، وتبدد ميزانيات العديد من الشعب اللبناني، وتبلغ خسائر مؤسسة كهرباء لبنان المملوكة للدولة نحو ٤٠٪ من الدين الوطني للبنان، رغم أن المانحين الدوليين والمؤسسات المالية أولت اهتمامها، في السنوات الأخيرة، لإصلاح قطاع الكهرباء، ولكن دون جدوى.
وكرّر صندوق النقد الدولي طلبه للحكومة اللبنانية كثيرًا بأن تعمل وبصورة سريعة على تقليص الخسائر التقنية وغير التقنية؛ وذلك نظرًا إلى أن نحو ٥٧٪ فقط من الكهرباء المنتجة يجري نقلها وتحصيل فواتيرها، والعمل على زيادة تعريفة الكهرباء، وضرورة رفع قدرة التوليد عن طريق بناء محطات كهرباء جديدة.
علاج نقص الكهرباء في لبنان
الخطة التي طُرحت لأول مرة في منتصف عام ٢٠٢١ جزء من جهد تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية لمعالجة نقص الكهرباء في لبنان باستخدام الغاز الطبيعي المصري والذي يتم توريده عبر الأردن وسوريا، وكان يقف قانون قيصر عائقًا أمام تنفيذ تلك الخطة، وهو القانون الذي أصدرته الولايات المتحدة عام 2019 ويسمح لها بتجميد أصول أي شخص يتعامل مع سوريا.
وفي هذا السياق صرح آموس هوكشاين مستشار الطاقة الأمريكي والمبعوث الأمريكي لحل النزاع اللبناني الإسرائيلي، بأن الولايات المتحدة الأمريكية منحت الموافقة المسبقة على المشروع لحل أزمة الشعب اللبناني، فيما يبدأ الآن التقييم الفعلي ما إذا كان هناك انتهاك لقانون العقوبات على سوريا، وأضاف، في تصريحات سابقة، أن الخطة طرحت لأول مرة في عام ٢٠٢١، وتدعمها الولايات المتحدة الأمريكية، وبافتراض أن الاتفاق يمتثل، أعتقد أننا سنكون في وضع يمكننا فيه القول إنه لا ينتهك عقوبات قانون قيصر، وسيتدفق الغاز في نهاية المطاف.
الدعم المصري واتفاق تاريخي لتحسين الوضع اللبناني
جاءت الاتفاقية بعد جهود دولية استمرت على مدى أشهر، لمعالجة أزمة نقص الكهرباء في لبنان عن طريق استخدام الغاز المصري الذي يتم توريده من خلال الأردن وسوريا. فمفاوضات نقل الغاز المصري إلى لبنان قد انطلقت في سبتمبر الماضي، وقام الدكتور وليد فياض وزير الطاقة والمياه اللبناني بعدة زيارات إلى القاهرة، أجرى خلالها مباحثات مع وزير البترول والثروة المعدنية المهندس طارق الملا، حول تذليل عقبات نقل الغاز المصري إلى لبنان.
وجاء الاتفاق المبدئي في الاجتماع الوزاري التي استضافته الأردن في سبتمبر من العام الماضي، فاتفق وزراء البترول في الدول المشاركة في الاجتماع على إيصال الغاز الطبيعي المصري إلي لبنان عبر الأردن وسوريا، مع تقديم خطة عمل وجدول زمني لتنفيذ ذلك.
وقد أفضى التحرك المصري بعد هذا الاجتماع إلى اتفاق لبنان والأردن ومصر وسوريا على دعم تزويد لبنان بالغاز المصري لتغذية محطة توليد كهرباء دير عمار، فوقع لبنان يوم 21 يونيو 2022 مع كل من مصر وسوريا عقد شراء الغاز الطبيعي من مصر، وعقد نقل وتبادل الغاز الطبيعي الوارد من مصر عبر الجمهورية العربية السورية وصولًا إلى معمل دير عمار، وجرت مراسم التوقيع بمقر وزارة الطاقة والمياه اللبنانية في العاصمة بيروت، ويجب الإشارة إلى أن إمدادات الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان متوقفة منذ عام ٢٠١١.
تفاصيل الاتفاقية
وبموجب هذه الاتفاقية، سيتم ضخ 650 مليون متر مكعب من الغاز سنويًا من مصر إلى لبنان عبر الأراضي السورية عبر خط أنابيب إلى محطة كهرباء دير عمار في شمال لبنان، حيث يمكن أن تضيف حوالي ٤٥٠ ميجا وات إلى الشبكة، أي ما يعادل حوالي ٤ ساعات إضافية من الكهرباء يوميًا. وسيكون التصدير عبر خط أنابيب موجودًا بالفعل لتصدير الغاز الطبيعي إلى لبنان وهو خط الغاز العربي، فيما ينتظر بدء التوريد الفعلي تلبية شروط البنك الدولي وموافقة الولايات المتحدة الأمريكية على استثناء مصر من قانون العقوبات الأمريكية على سوريا.
وقال لبنان إن الغاز الطبيعي المصري، بالإضافة إلى صفقة منفصلة لاستيراد الكهرباء من الأردن، من الممكن أن يُسهم في رفع إمدادات الكهرباء في البلاد من ساعتين فقط في اليوم إلى ما يصل إلى عشر ساعات. ويسعى لبنان ضمن الخطة الجديدة إلى إيجاد شراكات مع القطاع الخاص لبناء محطات طاقة، بناءً على خطة أعدتها الشركة الفرنسية للكهرباء (IDF) والبنك الدولي، وتتضمن إضافة ٣ محطات بحلول عام ٢٠٢٦، والتي تسمح الخطة بالوصول إلى ٢٤ ساعة تغذية بالكهرباء في اليوم.
ومن المخطط أن يساعد الغاز المصري على إعادة العمل بأكبر محطتين لإنتاج الكهرباء في لبنان، وهما محطة دير عمار والزهراني، حيث سيتم تزويد المحطة الأولى بالغاز المصري بشكل مباشر عن طريق الأنابيب، في حين سيتم نقل الغاز للمحطة الأخرى عبر السفن لعدم وجود أنبوب لنقل الغاز بين المحطة الأولى والثانية، وتنتج المحطتان نحو ربع احتياجات لبنان من الكهرباء، إي نحو ٨٥٠ ميجا وات، وهو الأمر الذي سيساعد بشكل جزئي في حل أزمة لبنان.
وقال وزير الطاقة اللبناني وليد فياض في تصريحات صحفية بعد توقيع الاتفاق إن هذا الاتفاق ما كان أن يتم لولا تبني مصر للمشروع منذ اللحظة الأولى ومتابعته بتفاصيله ودعم كافة مراحله وصولًا إلى تأمين زيادة للكمية. فيما أكد المهندس طارق الملا وزير البترول والثروة المعدنية على التزام مصر ودعمها للبنان الشقيق في إطار العلاقات الأخوية الوطيدة وتأكيدات الرئيس عبد الفتاح السيسي على مساندة مصر لأشقائها اللبنانيين، وإن اتفاقية توريد الغاز تمثل إسهامًا مصريًا في حل مشكلة الطاقة بلبنان، مشيراً إلى أهمية الانتهاء من باقي الإجراءات للبدء في التوريد.
خط الغاز العربي
خط الغاز العربي هو خط غاز لتصدير الغاز الطبيعي المصري إلى دول المشرق العربي ومنها إلى القارة الأوروبية عند إتمامه، يبلغ طوله الإجمالي حوالي ١٢٠٠ كم بتكلفة قدرها حوالي ١٬٢ مليار دولار. وقد تم تنفيذ مشروع خط الغاز العربي على ٣ مراحل: الأولى من العريش إلى العقبة، والثانية من العقبة إلى منطقة رحاب شمال الأردن ثم إلى الحدود السورية، والمرحلة الثالثة كانت داخل الأراضي السورية وصولًا إلى مدينة حمص.
وتم تنفيذه على ٣ مراحل:
المرحلة الأولى من العريش إلى العقبة بطول حوالي ٢٦٥ كم وقطر ٣٦ بوصة وبطاقة استعيابية حوالي ١٠ مليارات متر مكعب في السنة، وتم البدء في توريد الغاز الطبيعي من مصر إلى الأردن بموجب هذه المرحلة في يوليو من عام ٢٠٠٣.
المرحلة الثانية امتدت من العقبة إلى منطقة رحاب في شمال الأردن وبطول حوالي ٣٩٣ كم، وتم البدء بتزويد الغاز لمحطات توليد الكهرباء في شمال المملكة الأردنية في فبراير من عام ٢٠٠٦، في حين تم استكمال المرحلة الثانية لخط الغاز العربي من رحاب وحتى الحدود الأردنية السورية بطول حوالي ٣٠ كم وقطر ٣٦ بوصة في شهر مارس من عام ٢٠٠٨.
المرحلة الثالثة هي الانتهاء من تنفيذ الجزء الجنوبي من المرحلة الثالثة لخط الغاز العربي داخل الأراضي السورية والممتدة من الحدود الأردنية السورية إلى مدينة حمص بطول حوالي ٣٢٠ كم وقطر ٣٦ بوصة، وتشغيلها في شهر يوليو من عام ٢٠٠٨، وتم البدء في تصدير الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان من خلال الأردن في نوفمبر من عام ٢٠٠٩، إلى أن توقف في مارس من عام ٢٠١٢.
وبدأ تصدير الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان عبر الأردن في شهر ديسمبر من عام ٢٠٠٩، وفي مارس ٢٠١٢، توقفت إمدادات الغاز المصري لإسرائيل وللأردن بسبب أكثر من ١٣ تفجيرًا منفصلًا للأنبوب المغذي التابع لشركة جاسكو إلى مدينة العريش منذ أحداث يناير من عام ٢٠١١، وبحلول عام ٢٠١٣ استأنف خط الأنابيب ضخ الغاز، إلا أنه بسبب النضوب المفاجئ لحقول الغاز المصرية في ذلك الوقت والعجز الذي شهده قطاع الطاقة المصري، فقد تم تعليق إمدادات الغاز المصري إلى إسرائيل بينما استمرت الإمدادات للأردن بمعدل أقل كثيرًا من المعدلات المتعاقد عليها.
مجمل القول، وضعت الدولة المصرية نقاطًا واضحة وأسسًا صحيحة وهي أن السياسة الصحيحة تنطلق من أسس التعاون وتقاسم المنافع، بعيدًا عن النزاع والخلافات واختلاق ما يمكن تفاديه. ويُشكل تصدير الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان فرصة كبيرة لتعزيز التكامل العربي، وخاصة مع وجود العديد من العوامل التي من شأنها إنجاح هذا التعاون.
.
رابط المصدر: