في السادس عشر من يناير/كانون الثاني 2021، أعلن رئيس الحكومة التونسية، هشام المشيشي، عن تعديل في تركيبة فريقه الحكومي شمل إحدى عشرة حقيبة وزارية. وكانت حكومته قد حازت، في مطلع سبتمبر/أيلول 2020، على ثقة البرلمان، خلفًا لحكومة إلياس الفخفاخ الذي استقال تحت ضغوط واتهامات بالفساد وتضارب المصالح. كان يمكن لهذا التعديل أن يمر بشكل طبيعي، فيباشر الوزراء الجدد مهامهم فور نيلهم ثقة البرلمان وأداء اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية. ولكن، في ظل التجاذبات التي تشهدها الساحة السياسة، والتوتر الذي يهيمن على العلاقة بين مؤسسات الحكم، تعطل هذا التحوير ليفتح فصلًا جديدًا من فصول أزمة سياسية متسلسلة بدأت بُعيْد صدور نتائج انتخابات 2019 التشريعية والرئاسية. فكيف، وأين تعطل هذا التحوير الوزاري؟ وما أسبابه؟ كيف نفهم الجدل الدستوري والسياسي الذي يكتنف هذه الأزمة؟ وما احتمالات تطورها، سواء باتجاه الحل أم باتجاه المزيد من التعقيد؟
التحوير سبب أم نتيجة؟
لم يمر على تشكيل حكومة المشيشي سوى خمسة أشهر حتى أقدم على تعديل وزاري موسع؛ إذ شمل ما يقرب من نصف الحكومة. ليس هذا التغيير في وقت وجيز إلا أحد نتائج حالة الاستقطاب التي عرفتها حكومة المشيشي منذ تشكلها. فقد نالت حكومته ثقة البرلمان في الثاني من سبتمبر/أيلول الماضي وتكونت من 25 وزيرًا. ورغم نيلها الثقة بأغلية مريحة (134 صوتًا)، فقد اصطدم مسار تشكيل تلك الحكومة منذ بدايته بعدة عقبات، وتعرضت تركيبتها إلى انتقادات حتى من قبل الأحزاب والكتل البرلمانية التي صوَّتت لفائدتها. فالمسار تحكم فيه رئيس الدولة، قيس سعيد، بالكامل ولم يأخذ بعين الاعتبار الأسماء التي رشحتها الأحزاب السياسية، فجاء تكليف المشيشي من خارجها وانتهى الأمر بتشكيل حكومة كفاءات غير حزبية. لم تكن التركيبة الحكومية متجانسة، حيث ضمت فريقًا متنافرًا بين وزراء عيَّنهم رئيس الجمهورية معروفين بولائهم له وقربهم من بعض دوائره، وآخرين اختارهم رئيس الحكومة على أسس متباينة. وقد تجلى هذا التنافر وعدم الانسجام في خلافات حول بعض الأسماء ظهرت للعلن في وقت مبكر، فأُعفي بعضُها قبل الذهاب للبرلمان (وزير الثقافة)، وأقيل بعضها الآخر في وقت لاحق (وزير الداخلية ووزير البيئة).
لم يكن الخلاف الظاهر حول أسماء بعض الوزراء مجرد اختلاف بسيط في الحسابات بين رأسيْ السلطة التنفيذية، بل كان أعقد من ذلك. فقد عكس تباينات جوهرية في التوجهات بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة: تباينًا حول وظيفة رئيس الحكومة وحدود صلاحياته الدستورية، وتباينًا حول طريقة تسيير الحكومة وحدود تدخل رئيس الدولة، وتباينًا حول العلاقة بالبرلمان ودور الحزام السياسي. هذه الخلافات مجتمعة، والتي تفاقمت مؤخرًا ووصلت إلى ما يشبه القطيعة بين الرجلين، هي ما دفع المشيشي، بتنسيق مع الأحزاب والكتل البرلمانية الداعمة لحكومته، إلى إجراء تحوير وزاري واسع تخلص فيه من جميع الوزراء المحسوبين على الرئيس. وبذلك انتهت عمليًّا “حكومة الرئيس” الثانية، بعد سقوط حكومة الفخفاخ، التي كانت “حكومة الرئيس” الأولى. مقابل ذلك، توثقت أكثر علاقة المشيشي بالبرلمان وبحزامه السياسي المتمثل أساسًا في حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة. فالتحوير الوزاري الذي رأى فيه البعض سببًا في الأزمة الأخيرة، هو في حقيقة الأمر نتيجة لحلقات سابقة من هذه الأزمة المتسلسلة وليس سببًا لها.
أصل الأزمة الراهنة يعود إلى نتائج انتخابات 2019 التي أفرزت مشهدًا برلمانيًّا متشظيًا لا يمكن فيه لأي حزب أن يشكِّل حكومة بمفرده أو بتحالف ثنائي أو حتى ثلاثي. لم تفرز الانتخابات أغلبية واضحة لأي حزب أو ائتلاف سياسي يمكنه أن يقود حكومة مستقرة تنفذ برنامجها ثم تُحاسَب عليه. جدير بالذكر أن المشهد البرلماني الحالي لا يختلف كثيرًا عن المشهد البرلماني السابق الذي أفرزته انتخابات 2014 المحكومة بنفس القانون الانتخابي. فالقانون الانتخابي الحالي، الذي يعتمد الاقتراع النسبي مع احتساب أكبر البقايا، صُمِّم في سياق مختلف وجاء بالأساس لهندسة انتخابات المجلس التأسيسي في 2011 حتى تنتج مؤسسة أوسع تمثيلًا لمختلف المجموعات السياسية بغضِّ النظر عن حجمها، سيما أن أولوية المجلس كانت سَنَّ دستور يمثِّل جميع التونسيين. جاء ذلك القانون في أجواء سياسية انتقالية هيمنت عليها الخشية من عودة الحزب الواحد، فأفسحت المجال للتعددية الحزبية في مداها الأقصى. أما في السياق الراهن، فقد بات هذا القانون، الذي يعزز دور الأقليات ويقيد الأغلبيات، عائقًا أمام الاستقرار السياسي والتقدم على مسار ترسيخ ديمقراطية تمثيلية حقيقية.
ففي غضون سنة واحدة، وقبل إجراء التحوير الوزاري الأخير، تعاقبت على السلطة ثلاث حكومات لم تعمر طويلًا. فقد سقطت الحكومة الأولى في البرلمان بسبب فشلها في نيل الثقة، وسقطت الثانية باستقالة رئيسها في ضوء تهم بالفساد وتضارب المصالح، أما الثالثة فتعطلت بسبب غياب الانسجام وتنازع الصلاحيات بين رأسيْ السلطة التنفيذية. وكان يمكن للتحوير الوزاري أن يتجاوز هذه الصعوبات ويضفي شيئًا من الانسجام على الفريق الحكومي، لكنه اصطدم برفض رئيس الدولة دعوة الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية متهمًا بعضهم بالفساد. وبدلًا من أن يكون خطوة نحو الحل، تحول التحوير ذاته إلى مشكل، فأضاف إلى فصول الأزمة فصلًا جديدًا في ظل جدل دستوري وسياسي لا يبدو أنه سينتهي قريبًا.
السياق الدستوري وجدل التأويلات
رغم أن الأزمة في فصلها الراهن تبدو أزمة دستورية محصورة بين ضلعي السلطة التنفيذية (رئيس الدولة ورئيس الحكومة)، إلا أنها في الأصل أزمة سياسية ثلاثية الأبعاد. ففي خلفية هذا التوتر الثنائي تكمن أزمة صامتة بين باردو (البرلمان) وقرطاج (رئاسة الجمهورية) تتوسطهما القصبة (رئاسة الحكومة). ثمة غياب ثقة متبادل بين الأطراف الثلاثة عكسته تصريحات متبادلة صدرت عنها في الفترة الأخيرة. وثمة اختلاف في النظر إلى مرجعية الحكومة بين البرلمان والرئاسة تجلى في استقطابات وانقسامات بما في ذلك داخل البرلمان. وثمة تنازع على الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث في ما يتعلق بتأويل الدستور، وهو ما جعل الأزمة تكتسي طابعًا دستوريًّا وتُخاض بأدوات دستورية.
إن استخدام الأدوات الدستورية في الصراع السياسي على الحكومة تجلى بوضوح أكبر في الطريقة التي أُسقطت بها حكومة الفخفاخ التي سبقت حكومة المشيشي. ففي ذات اليوم الذي تقدمت مجموعة من الكتل البرلمانية بلائحة لسحب الثقة، أعلن رئيس الدولة أن الفخفاخ تقدم إليه باستقالته وأنه قَبِلَها. فاستباق رئيس الدولة خطوةَ سحب الثقة عن طريق البرلمان بإعلانه قبول الاستقالة أعاد إليه، دستوريًّا، مبادرة تكليف رئيس جديد لتشكيل الحكومة وسَحَبَها من الحزب الأغلبي أو الكتلة البرلمانية الأولى. وبدلًا من الاتفاق على حل سياسي لأزمة هي في جوهرها سياسية، لجأت مختلف الأطراف إلى استخدام الأدوات الدستورية في إطار تنازع للصلاحيات والتأويلات. في سياق هذا الجدل وهذا التنازع جاء تكليف هشام المشيشي، فورثت حكومته ذات المشكلات التي كانت تعاني منها الحكومة السابقة، بما في ذلك طريقة التكليف وحدود الصلاحيات ومرجعية النظر بين البرلمان ورئاسة الدولة.
فالتكليف حصل دون تشاور مع الأحزاب السياسية ومن خارج الأسماء التي اقترحتها، ما جعل الكثيرين يرون في المشيشي رجل الرئيس ويعتبرون حكومته حكومة الرئيس، خاصة لما احتوته في تركيبتها من وزراء محسوبين عليه. لكن السياق الدستوري وتوزيع السلطة بين المؤسسات فرضت عليه السير في اتجاه مختلف. فالحكومة لا يمكنها أن تمر دون نيل ثقة البرلمان، والأغلبية البرلمانية ليست في توافق مع الرئيس، ولا خيار أمام المشيشي في ظل هذه المعادلة إلا التنسيق مع الأغلبية لتمرير حكومته. لكن هذه “الاستدارة” اقتضت منه تنازلات لفائدة حلفائه في البرلمان، بعضها فوري وبعضها مؤجل، تتعلق أساسًا بإعادة هيكلة الحكومة. هذه الاستدارة التي وفرت له حزامًا سياسيًّا مريحًا، سرَّعت بالمقابل في توتير علاقته مع الرئيس ومع الأحزاب التي تقف إلى جانبه، خاصة التيار الديمقراطي وحركة الشعب، التي رأت في ذلك “غدرًا وخيانة للأمانة”.
بدأ الخلاف حول بعض الأسماء المشكِّلة للحكومة ثم تطور بعد التحوير الوزاري إلى رفض الرئيس دعوة الفريق الحكومي الجديد لأداء اليمين، وسط جدل دستوري وتضارب في التأويلات حول أحقيته في ذلك. ففي حين يرى الرئيس أن الدستور يمنحه حق الامتناع عن قبول أداء اليمين من قبل وزراء يتهمهم بالفساد، وأن ذلك من صميم دوره ووظيفته في حماية الدستور، يرى البرلمان، الذي منح الثقة لهؤلاء الوزراء، ومعه فريق من أساتذة القانون الدستوري المشهورين، أن الدستور لا يمنح الرئيس هذا الحق. وفي غياب المحكمة الدستورية، التي يعود إليها، حصرًا، تأويل نصوص الدستور عند الاختلاف بين السلط المعنية، بقي هذا الجدل مستمرًّا ولم تفلح في حسمه جميع المحاولات. فالرئيس يمنح لنفسه حق النيابة عن المحكمة الدستورية معتبرًا أن واجب حماية الدستور يعطيه حق تأويله، أما رئيس الحكومة فقد لجأ إلى استشارة بعض الهيئات وخبراء القانون؛ فطلب رأي المحكمة الإدارية ثم رأي الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين فأفادتا بعدم الاختصاص، ثم جمع نخبة من أساتذة القانون الدستوري فخلصوا إلى أن الأزمة سياسية بالأساس وأكدوا على ضرورة الحل السياسي.
الخلفيات السياسية للأزمة
رغم أن الأزمة تدور تحت غطاء دستوري وتُخاض بأدوات دستورية، إلا أن عمقها السياسي هو المحدد إطارًا ومسارًا وأفقًا. فعلى مستوى الإطار، تدور هذه الأزمة في ظل جدل سياسي حول ما يسمى بـ”حكومة الرئيس” و”حكومة البرلمان”. وهو جدل يحركه، في الأغلب، اختلاف في الموقف أو الموقع من نظام الحكم الذي أرساه دستور 2014، وتتجلى بعض وجوهه في الصراع على الصلاحيات المرتبطة بكل موقف أو موقع. وعلى مستوى المسار، لا يمكن أن نغفل ما تركه سقوط حكومة الفخفاخ من أثر نفسي وسياسي في بناء الموقف من حكومة المشيشي لاحقًا. فالذين أسقطوا حكومة الفخفاخ بالأمس بتهم الفساد وتضارب المصالح هم الذين يساندون حكومة المشيشي اليوم، والذين نزهوا الفخفاخ وتمسكوا بحكومته إلى حين سقوطها هم الذين يعارضون حكومة المشيشي ويدعون لإسقاطها. هذان الموقفان المتعارضان يجدان تعبيرهما السياسي في حزامين متقابلين فيما يُعرف بحزام الحكومة (الأغلبية البرلمانية) وحزام الرئيس (المعارضة). أما الرئيس ذاته، والذي يعتبره البعض جزءًا من المشكل وسببًا رئيسيًّا في حالة الانسداد التي تعيشها البلاد، فلا يبدو أنه يولي اهتمامًا كبيرًا لما يجري وكأنه في حالة إنكار لهذا الواقع بكل مكوناته.
الحقيقة أن الرئيس، سعيد، عبَّر عن هذا المعنى في تصريحات متواترة فُهم منها معارضته للمنظومة القائمة ورغبته في تقويضها جملة وتفصيلًا. من بين ما صرَّح به في هذا السياق أنه يشعر بالغربة عن واقعه و”كأنه آت من كوكب آخر”. ورغم تأكيده المتكرر على احترام الدستور والالتزام بمقتضياته إلا أنه يعتبر دستور 2014 “كالحذاء الذي صُنع على المقاس”. أما الأحزاب والبرلمان والديمقراطية التمثيلية فهي بالنسبة إليه أشكال قديمة من الانتظام السياسي “تجاوزها التاريخ وستختفي في السنوات القادمة”، وينبغي تعويضها بنظام جديد يُبنى من القاعدة ويتخذ صيغة مجالسية. ومن آخر تصريحاته بهذا الشأن اعتباره مسار الانتقال الديمقراطي، الذي استغرق عقدًا كاملًا، مجرد “انتقال من الحزب الواحد إلى مجموعة فاسدة واحدة”.
أمام هذا الانسداد، وفي ظل التجاذبات السياسية التي تكتنفه وعجز المؤسسات عن التوصل إلى حل، بدأ الشارع يتحرك في أكثر من اتجاه. فقد شهدت تونس خلال الأسابيع القليلة الماضية تحركات احتجاجية شملت العديد من المدن والأحياء، شارك في بعضها شباب قريب من الرئيس سعيد، وبعضها الآخر دعت إليه المعارضة بمختلف أطيافها، كما دعت حركة النهضة أنصارها وحلفاءها في الحكم إلى مظاهرة قالت إنها لدعم الشرعية والديمقراطية واحترام الدستور والمؤسسات. وبغضِّ النظر عن الأسباب الحقيقية التي دفعت الشارع للتحرك، واختلاف أجندات الأطراف المتحركة، فإن سلاح الشارع إذا اتسع استخدامه، قد يخرج عن سيطرة الجميع ولن يكون بالإمكان ضبطه أو تأطيره أو التحكم في مآلاته. وأيًّا كان الأمر، فإن النزول إلى الشارع يعبِّر عن عمق الأزمة وفشل مؤسسات الدولة في إدارتها وتجاوزها.
سيناريوهات ممكنة
مرَّ على التحوير الوزاري الذي أجراه المشيشي على حكومته شهر كامل، وإلى حد الآن يرفض رئيس الدولة دعوة الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية حتى يتمكنوا من مباشرة أعمالهم. فما الاحتمالات والسيناريوهات التي يمكن لهذه الأزمة أن تتجه إليها؟
السيناريو الأول: استمرار رئيس الدولة في التمسك بموقفه الرافض لأداء اليمين، وفيه أربعة خيارات أمام رئيس الحكومة، كلها صعبة:
– خيار “المرور بقوة” واللجوء إلى ما يسميه فقهاء القانون “الإجراء المستحيل” لتجاوز عقبة أداء اليمين أمام رئيس الجمهورية. هذا الخيار يسنده تأويل دستوري لا يعطي الرئيس حق الامتناع عن دعوة الوزراء لأداء اليمين تحت أي ذريعة، ولكن تعترضه صعوبات عملية يمكن أن تؤدي لاحقًا إلى تعطيل سير عمل المؤسسات. فتجاوز الرئيس، إذا كان ممكنًا في بعض مستويات القرار، لن يكون ممكنًا في كلها وفي جميع الأوقات. من ناحية أخرى، سيدفع هذا الخيار بالأزمة إلى مستويات أخرى من التعقيد وإلى قطيعة تامة بين رأسيْ السلطة التنفيذية.
– خيار تجميد التحوير مؤقتًا أو العودة عنه نهائيًّا وتقليص حجم الفريق الحكومي من خلال التخلص من الوزراء المقالين. هذا الخيار مضى فيه المشيشي بالفعل فقام بإعفاء وزراء الرئيس الخمسة: وزير العدل، ووزيرة الصناعة والطاقة والمناجم، ووزير الشباب والرياضة والإدماج المهني، ووزيرة أملاك الدولة والشؤون العقارية، ووزيرة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري. ولكن هذا الحل مؤقت ولا يمكن أن يستمر طويلًا في ظل هذه التجاذبات والأجواء المتوترة. كما أن التخلص من هؤلاء الوزراء تحديدًا يُنظر إليه في قصر قرطاج على أنه تصعيد للأزمة وليس حلًّا لها.
– خيار إعفاء الوزراء المتهمين بتضارب المصالح وتعويضهم بوزراء آخرين. هذا الخيار هو الأقل كلفة ويحفظ ماء وجه الطرفين، ولكن تنفيذه مستبعد لأن الرئيس يرفض تقديم أسماء هؤلاء الوزراء رغم طلب المشيشي المتكرر بهذا الشأن. فتسميتهم قد تضع الرئيس تحت طائلة القانون باعتباره مدعيًا بالباطل إذا حكم القضاء بعدم صحة التهم الموجهة إليهم أو إلى بعضهم. أما إذا أقال رئيس الحكومة عددًا من وزرائه دون أن يتسلم أسماءهم من الرئيس فمن يضمن له بأن الرئيس لا يقصد غيرهم. هذه الحلقة المفرغة تطيل عمر الأزمة ولا تقرب الحل، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ما صرح به الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل من أن الرئيس يرفض الحكومة كلها وليس بعضها.
– خيار استقالة رئيس الحكومة وإعادة الأمر إلى رئيس الدولة لاختيار شخصية أخرى لتشكيل الحكومة. هذا الخيار مستبعد في الوقت الراهن لأن المشيشي وحزامه السياسي كليهما يعارضانه علنًا ويعتبران أن رئيس الدولة هو سبب الأزمة وعليه هو أن يتنازل. ولكن إذا تغيرت بعض المعطيات قد يُدفع المشيشي إلى الاستقالة. مشكل هذا الخيار هو أن إعادة أمر التكليف إلى الرئيس سعيد قد ينتهي بتدوير الأزمة دون أن يحلها. فهو من اختار الفخفاخ أولًا، وهو من اختار المشيشي ثانيًا، وليس هناك ما يمنع أن يسلك الرئيس نفس النهج في تكليف شخصية ثالثة فتكون النتيجة ذاتها وتستمر الأزمة.
– السيناريو الثاني: تراجع الرئيس عن موقفه الرافض لأداء الوزراء الجدد اليمين إما تراجعًا كاملًا أو تراجعًا جزئيًّا. التراجع الكامل وقبول الفريق الجديد بكل وزرائه مستبعد نظرًا لطبيعة الرئيس ومزاجه الصدامي ورغبته في الثأر من الحكومة وحزامها السياسي. ولكن التراجع الجزئي برفض الوزراء الذين يتهمهم بتضارب المصالح وقبول البقية يظل ممكنًا، خاصة إذا أدرك الرئيس أنه بتعطيل اليمين يعطِّل سير عمل الحكومة ومؤسسات الدولة، وهو المؤتمن على ذلك بحسب نص الدستور. فإذا قرر التراجع بهذا المعنى، يمكن تجاوز إشكال تحديد أسماء الوزراء المعنيين بالتوافق على صيغة غير مكتوبة، يتم على إثرها سحبهم من قبل رئيس الحكومة.
– السيناريو الثالث: سحب البرلمان الثقة من الحكومة والاتفاق على ترتيبات جديدة. هذا السيناريو مستبعد حدوثه في وقت قريب، لأن الحزب الأغلبي وحلفاءه هم من يشكِّل الحزام السياسي للحكومة وهم من منحها الثقة قبل أسابيع قليلة، فليس هناك ما يبرر سحبها قبل أن يباشر الوزراء مهامهم. ولكن هذا السيناريو يظل ممكنًا إذا اتفق الجميع على الدخول في حوار وطني لحلحلة الأزمة بما فيها أبعادها الاقتصادية والاجتماعية، خاصة بعد ما خفضت وكالة موديز للتصنيف الائتماني، الأسبوع الماضي، تصنيف تونس إلى ب3 (B3) مع أفق سلبي. في هذا السياق، بدأت الدعوات إلى الحوار تتوالى وتخلق زخمًا متزايدًا. جدير بالذكر أن اتحاد الشغل كان قد تقدم بمبادرة للحوار ما زالت تنتظر موافقة رئيس الدولة، ومثل هذه الدعوة صدر عن أطراف أخرى، منها التيار الديمقراطي وحركة النهضة. ومن آخر المبادرات في هذا الاتجاه، مبادرة رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، التي دعا فيها رئيس الجمهورية إلى جمع الأطراف المعنية للتباحث من أجل حل الأزمة. ومع تقدم الزمن وتمسك رأسيْ السلطة التنفيذية بموقفيهما من مسألة التحوير، يبدو أن السيناريو الأرجح لتجاوز هذا الانسداد السياسي هو الحوار الوطني، وإن كان الطريق إليه سيحتاج بعض الوقت.
السيناريو المؤجل: تشكيل المحكمة الدستورية لتحسم مسألة التحوير وتمنع تدوير الأزمة وتحتكر تأويل الدستور وتحدد صلاحيات كل طرف بوضوح. هذا السيناريو مستبعد في الوقت الراهن لصعوبة التوافق على أعضائها بين الكتل البرلمانية في هذه الأجواء السياسية المشحونة والمتسمة بغياب الثقة المتبادل. وحتى إذا توافق البرلمان على انتخاب حصته منها (4 أعضاء)، فليس هناك ما يضمن تعيين الرئيس للأعضاء الأربع (نصيب الرئاسة من هيئة المحكمة) في وقت قريب في ظل علاقته المتشنجة بالبرلمان. هذا السيناريو، وإن كان جزءًا من الحل الجذري لهذه الأزمة وما يمكن أن يتلوها من أزمات مشابهة، يظل مؤجلًا إلى وقت غير معلوم. أما إذا انعقد الحوار الوطني وشملت مداولاته حزمة متكاملة من الحلول بما في ذلك المحكمة الدستورية، فقد ترى هذه المؤسسة النور. أما الجزء الثاني من الحل الجذري والذي يظل بدوره مؤجلًا، فهو تغيير القانون الانتخابي حتى يمكن للانتخابات القادمة أن تفرز أغلبية واضحة وقادرة على الحكم، تنفذ برنامجها ثم تُحاسب عليه.
رابط المصدر: