حسام محمد
ابتليت البشرية على مدار التاريخ بشخصيات لطخت صفحاته بالظلم والدم والطغيان، ولقد جمعت هذه الشخصيات صفات مشتركة مكنت علماء النفس والاجتماع من تصنيفهم تحت بند «الشخصية البارانوية الملوثة بصفات سيكوباتية ونرجسية»، وتصبح هذه الشخصيات مريضة بجنون العظمة الذي يدفعها لتحقيق مجدها الشخصي بأي ثمن وبأي حساب ولو على أجساد ملايين الناس. واستقراء التاريخ يضع أيدينا على حقيقة لم تتخلف وهي أن التاريخ لم يخلُ في أي مرحلة من مراحله من وجود طغاة يختلفون في الشكل والصورة والوسائل، لكن الجوهر والملامح الأساسية واحدة لا تتبدل.
تيمورلنك، ذلك الاسم الذي كان ترتعد لذكره الدول والإمبراطوريات من بحر الصين شرقاً حتى البحر المتوسط غربًا، هذا القائد المغولي الذي ظهر في القرن الرابع عشر الميلادي ليؤسس إمبراطورية على جبال من جماجم البشر، وأعاد سيرة جنكيزخان وهولاكو في القتل وسفك الدماء وتخريب البلاد. كيف استطاع رجل بدأ حياته كقاطع طريق أن يصبح إمبراطورًا على دولة تضاهي دولة جنكيز خان نفسه؟. قصة حياة رجلٍ استمرت 70 عامًا على صهوات الجياد وفي الخيام، دمر خلالها دولًا وحضارات، إنها حياة غير هادئة حافلة بالغزو والدمار لكنها كانت في نظر صاحبها هي الحياة الحقيقية.
من هو تيمورلنك؟
ولد تيمورلنك في عام 736 هـ / 1336 م في مدينة “كش” التي تقع في جنوب سمرقند (أوزباكستان حاليًا)، وكانت المنطقة تقع تحت حكم المغول الجغطائيين (إحدى الدول التي انقسمت إليها إمبراطورية جتكيز خان).
كان تيمورلنك في بداية حياته فارسًا ممتازًا وماهرًا في الرماية، كما كان شديد الطموح. وعلى ذلك فقد كوّن له أتباعًا مسلحين، وأخذ يستخدمهم في عمليات السلب والنهب، وفي إحدى معاركه أصيب في فخذه فأصبح أعرج.
برز تيمورلنك في الوقت الذي انقسمت فيه دولة المغول الجغطائيين واستفاد من الصراع الذي حدث في المنطقة ليصبح أهم الشخصيات في إقليم ما وراء النهر، وذلك في عام 1370/771. واستغل تيمورلنك فراغ السلطة الذي حدث في وسط آسيا بعد انهيار السلالات المغولية الحاكمة في المنطقة “سلالة يوان”، “سلالة الأليخانات “، “سلالة الجغطاي”، واستطاع تأسيس إمبراطورية كبيرة[1] وأصبح لديه جيش ضخم. واتبع تيمورلنك سياسة عسكرية قريبة للغاية من سياسة وتكتيكات جنكيزخان، فلقد تبنى هذه التكتيكات نفسها وعلى رأسها سرعة الحركة والتمويه والقدرة على المناورة بالخيل، كما احتفظ بالتكتيك الخاص بألوية الرماة المتحركة التي كفلت له الغلبة على الساحة القتالية، كذلك فقد اقتبس منه العنف الشديد في التعامل مع الأعداء، فيذكر أنه كان يقتل الأسرى ويقطع الرؤوس ويحرقها أمام ذويهم عبرة لهم حتى لا يقفوا ضد جيوشه أو يثوروا على حكمه.
تيمورلنك وإعادة بناء الإمبراطورية
هكذا قال أمير الشعراء أحمد شوقي، وهكذا فعل تيمورلنك الذي قضى جل حياته كخان للمغول في حروب ضد الدول المحيطة به والتي نالها منه قدرٌ عظيم من الدمار والخراب.
بدأ تيمورلنك يطمح في مشروع إعادة الإمبراطورية المغولية مرة أخرى إلى سابق عهدها إبان حكم جنكيزخان الذي كان له أثره الكبير والمهم على شخصية تيمورلنك. لقد بدأت موجات توسع تيمورلنك الواحدة تلو الأخرى، وامتد نشاطه العسكري من نهر الفولجا في روسيا حتى دمشق، ومن أزمير في الأناضول حتى نهر الجانج فى الهند، ناشرًا الخراب والدمار في كل المناطق التي دخلها.
بدأ تيمورلنك حملته الأولى على الشرق الأدنى الإسلامي وتحرك باتجاه الدولة الجلائرية التي كانت تحكم العراق وأجزاءً من إيران والإمارات التركمانية في أرمينيا. خضع سلطان الجلائريين أحمد بن أويس لتيمورلنك واستجاب لكل طلباته، لكن هذا السلطان كان حاكمًا ظالمًا، فحثّ معارضيه من الأمراء والأعيان تيمورلنك على مهاجمته[2].
وفي عام 795 هـ / 1393 م استولى تيمورلنك على بغداد عاصمة الدولة الجلائرية وأغلب مدن العراق والجزيرة الفراتية وقام بمذابح كبيرة في المناطق التي قاومته[3].
وهرب أحمد بن أويس سلطان الدولة الجلائرية إلى القاهرة ودخل في حماية دولة المماليك حيث استقبله السلطان برقوق بالترحاب .
أرسل تيمورلنك رسالة إلى السلطان برقوق يطلب فيها تسليم أحمد بن أويس له وهدده بخراب بلاده إن لم يستجب لطلبه. رفض السلطان برقوق طلب تيمورلنك بتسليم أحمد بن أويس له واعتبر ذلك إهانة كبيرة له ولدولة المماليك، و تم قتل رسل تيمورلنك، واكتشف المماليك عددًا كبيرًا من الجواسيس المتنكرين في هيئة تجار تابعين لتيمورلنك، وأخذ السلطان برقوق في الاستعداد للحرب.
غضب تيمورلنك غضبًا شديدًا لقتل رسله وأرسل رسالة تهديد ووعيد للسلطان برقوق، الذي بدوره رد على رسالته برسالة أخرى أشد تهديدًا. وكان من ضمن رد السلطان برقوق على تيمورلنك:
ومن أعجب العجب تهديد الرتوت بالتوت والسباع بالضباع والكماة بالكراع؛ فنحن خيولنا برقية، وسهامنا عربية، وسيوفنا يمانية، وليوثنا مضرية، وأكفنا شديدة المضارب، وصفتنا مذكورة في المشارق والمغارب.
خرج السلطان برقوق بجيش المماليك المهيب واصطحب معه أحمد بن أويس ووصل الى دمشق فى 796/1395 وتحرك منها باتجاه مدينة حلب. وفي حلب عرض كل من السلطان بايزيد الصاعقة سلطان العثمانيين و طقمتش خان مغول القبيلة الذهبية التحالف من أجل مواجهة تيمورلنك، فقد كان الجميع يشعر بالخطر من توسع وتوغل تيمورلنك وأعماله البربرية.
قام السلطان برقوق بإعادة تأكيد التحالف والمعاهدة التاريخية التي وضعها السلطان الظاهر بيبرس مع مغول القبيلة الذهبية. قام طقمتش خان القبيلة الذهبية بمهاجمة منطقة الأبواب عند الحدود بين الدولتين التابعة لتيمورلنك، في الوقت الذي نجحت فيه فرقة من الجيش المملوكي من عبور نهر الفرات ليلًا واستطاعت هزيمة مقدمة جيش تيمورلنك، الذي آثر الانسحاب من العراق لكى يواجه هجوم القبيلة الذهبية وترك حامية كبيرة في المدينة. واستطاعت القوات المملوكية أن تهزم حامية مدينة بغداد المغولية واستردت المدينة مرة أخرى وتم إعادة أحمد بن أويس حاكمًا لدولته. وامتد نفوذ المماليك ليشمل العراق، لكن لسوء الحظ انهزم طقمتش خان القبيلة الذهبية هزيمة ساحقة عند مدينة جروزني بعد قتال عنيف استمر ثلاثة أيام.
كان تيمورلنك عاقدًا للعزم على مواجهة المماليك والسلطان برقوق وانتظر الوقت المناسب لهذه المواجهة، وحتى تحين هذه المواجهة انشغل في حملة استمرت عامًا في جنوب روسيا وصل فيها حتى موسكو، ثم انشغل في سحق التمردات والثورات الداخلية في بلاد فارس وخرسان، ثم هاجم جورجيا مرة أخرى لإعادة إخضاعها لدولته مرة ثانية، ثم انهمك في تنظيم وترتيب شئون دولته، وقام بإعداد حملة ضخمة للاستيلاء على الهند في يناير 800هـ / 1398م بعد تفجر الصراعات في الهند بين الأمراء هناك فاستغل الفرصة لضم الهند لإمبراطوريته. واستولى تيمورلنك على أجزاء كبيرة من الهند إلا أنه اضطر للعودة في إبريل 801هـ / 1399م إلى بلاد فارس بسبب حدوث اضطربات شديدة هناك.
وفي عام 801هـ / 1399م توفي السلطان برقوق، وخلفه ابنه الناصر فرج الذي كان طفلًا في العاشرة من عمره. وكالعادة نشبت الإضرابات والتمردات والفتن في الدولة بين أمراء المماليك الذين يطمحون لمنصب السلطان، وخرجت الحملات تلو الحملات لكي تواجه حاكم دمشق الذي تمرد على سلطة القاهرة. هذا حدث في الوقت الذي كانت فيه الدولة بأمس الحاجة إلى سلطان قوي يستطيع مواجهة حملة تيمورلنك التي كانت قد تحركت بالفعل. ومما زاد الأوضاع في المنطقة تأزّمًا هو استيلاء السلطان بايزيد الصاعقة على مدينة ملطية التي كانت تخضع لسلطنة المماليك. كان بايزيد الصاعقة قد طلب من السلطان برقوق في عام 1399م أن يسلمه مدينة ملطية لكى يدعم من خلالها جهوده في مواجهة تمرد قبائل «الآق قويونلو»، واستولت مشاعر الدهشة والغضب على السلطان برقوق جراء هذا الطلب، لكنه مات قبل أن يقوم باتخاذ أي إجراء ضد بايزيد، وانتهز بايزيد الفرصة وقام بحصار المدينة التي سقطت بعد حصار دام شهرين مستغلًّا حالة الركود التي تسود سلطنة المماليك عادة قبل أن يتولى سلطان جديد الحكم. انتهز تيمورلنك هذه التطورات السياسية التي حدثت في المنطقة وتحرك بحملته الضخمة التي تعد من أضخم الحملات العسكرية في العصور الوسطى، وكانت أولى ضرباته باتجاه العراق.
[1] في كل العصور نجد أن هناك ظروفًا وأحوالاً تسبق ظهور أي شخصية ديكتاتورية طاغية، أهمها تفكك الدول والصراع على السلطة والنفوذ بين أفرادها؛ مما يسمح لهذه الشخصيات بالصعود وعلوّ نجمها.[2] يذكرنا هذا الموقف بموقف الرئيس العراقي صدام حسين حين أراد تيمورلنك العصر الحديث، بوش الابن، غزو العراق. واتهم العراق بامتلاكها سلاحًا نوويًّا، ففتح صدام أبواب العراق ومنشآته العسكرية للتفتيش وأعدم جزءًا من ترسانته العسكرية غير التقليدية كي يضمن ملكه. لكن استغل بوش أن صدام كان طاغية كشأن أحمد بن أويس، فحث معارضو صدام أيضًا بوش على غزو العراق وإن كان لبوش أسبابه الخاصة لشنه هذه الحرب. وهذه هي قصة التاريخ، فوراء كل طاغية أحد الغزاة الذي يستفيد من هذا الحاكم المستبد الطاغي.[3] رغم أن تيمورلنك كان مسلمًا، إلا أنه لم يطبق تعاليم وأحكام الإسلام وإنما طبق شريعة جنكيز خان الياسق، وهي شريعة وثنية. وكان يدّعي أنه شيعيّ تارة وسنيّ تارة أخرى حسبما تقتضيه المصلحة، وسنرى في هذه المقالات بعض المواقف التي توضح ذلك.
رابط المصدر:
https://www.ida2at.com/tamerlane-how-could-a-mugger-to-become-emperor/