أثبت دخول حشد من الغوغاء إلى مبنى الكابيتول الأميركي في 6 كانون الثاني/يناير أن انتقال السلطة في الولايات المتحدة يحمل أخطاراً لا سوابق حديثة لها. ولذلك، ينبغي على القادة السياسيين في كلا الحزبين أن يقوموا على نحو عاجل باستكشاف خياراتهم الدستورية لحماية شعب ومؤسسات الدولة من رئيسها.
منذ أن قام حشد عنيف من الأشخاص، بتحريض من الرئيس دونالد ترامب، باقتحام مبنى الكابيتول الأميركي بعد ظهر يوم 6 كانون الثاني/يناير، فإن سؤالاً يمكن القول إن القادة السياسيين الأميركيين تحاشوا التعامل معه لمدة أطول مما ينبغي أصبح حاداً على نحو خاص: كيف يمكن حماية الشعب الأميركي والمؤسسات الأميركية؛ بل كيف يمكن حماية السلم والأمن العالميين من الرئيس الأميركي. في حين قد تبدو الثلاثة عشر يوماً الباقية من إدارة ترامب مدة قصيرة يمكن تجاوزها، فإنها قد تكون طويلة على نحو خطر بالنظر إلى الصلاحيات الاستثنائية التي تتمتع بها مؤسسة الرئاسة الأميركية.
ولذلك، يجب على أعضاء الحزب الجمهوري، الذي ينتمي إليه الرئيس، في الكونغرس وفي المناصب الرفيعة في إدارته استخدام النفوذ الذي تمنحهم إياه صلاحياتهم المؤسساتية لكبح جماح ترامب على مدى الأسبوعين القادمين، ما يعني في الحد الأدنى توجيه تهديد جدي بعزله من منصبه إذا هدد بإلحاق المزيد من الضرر على نفس نطاق 6 كانون الثاني/يناير. ومن ثم، سيترتب على إدارة جو بايدن القادمة الشروع في معالجة الانقسامات والتوترات الداخلية التي دفعت أقوى دولة في العالم إلى هذا الوضع الخطر.
عندما كتبت مجموعة الأزمات في تشرين الأول/أكتوبر 2020 وللمرة الأولى على مدى 25 عاماً عن مخاطر العنف المرتبط بالانتخابات في الولايات المتحدة، أبرزنا عوامل الخطر التي من شأنها أن تكون خطيرة على أي دولة. وقد شملت هذه العوامل سنوات من الاستقطاب السياسي الحافلة بقضايا العرق والهوية؛ وصعود المجموعات المسلحة ذات الأجندات الأيديولوجية؛ واحتمال الطعن بنتائج الانتخابات؛ وفوق هذه العوامل جميعاً الرئيس ترامب نفسه، الذي ليس لخطابه السام واستعداده لإثارة الصراع خدمة لمصالحه الشخصية سوابق في التاريخ الأميركي الحديث. كما لاحظنا أن المؤسسات الديمقراطية الناضجة في البلاد تشكل حاجزاً واقياً يمكن، مع بعض الحظ، أن يمنعها من تجاوز حافة الهاوية.
على مدى ثمانية أسابيع، بدا أن تلك الحواجز متماسكة، رغم أقصى جهود الرئيس ترامب لاختبار متانتها. فعشية الانتخابات (3-4 تشرين الثاني/نوفمبر 2020)، خرج على موجات الأثير ليعلن فوزه، رغم أن توقعات الشبكات التلفزيونية كانت تشير إلى العكس؛ وعندما باتت خسارته واضحة، عقد العزم على قلب تلك النتيجة. أطلق سلسلة من الإجراءات، بداية بحملة قضائية فشلت في أكثر من 60 قضية رفعها في إثبات حدوث حادثة واحدة من التزوير الانتخابي الجدي، إلى محاولة غير ناجحة لإقناع المجلسين التشريعيين في البلاد بتعيين عدد من ناخبي ترامب في الهيئة الانتخابية – وهي الهيئة التي تختار الرئيس بموجب الدستور الأميركي – رغم أن الدوائر الانتخابية لأولئك الأعضاء كانت قد صوتت لبايدن.
في 3 كانون الثاني/يناير، نشر مسؤولون من ولاية جورجيا الجنوبية شريط فيديو يحتوي على مكالمة هاتفية لمدة ساعة ضغط خلالها ترامب على كبير مسؤولي الانتخابات في الولاية (وهو جمهوري كالرئيس) كي “يجد” أكثر من 11,000 صوت، وهي الأصوات اللازمة لتغيير نتيجة الانتخابات في الولاية وتحويل أصوات الولاية من بايدن إلى ترامب. لم تنجح أي من تلك المحاولات. في الواقع فإن إصرار ترامب على أن انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر قد تم تزويرها ربما أضعفت مشاركة الجمهوريين في اثنين من انتخابات الإعادة لمجلس الشيوخ في ولاية جورجيا، واللذان فاز فيهما الحزب الديمقراطي في 5 كانون الثاني/يناير، ما يسمح له بادعاء السيطرة على المجلس.
مع بداية يوم 6 كانون الثاني/يناير، واجتماع الكونغرس في جلسة مشتركة لفرز الأصوات التي أدلت بها الهيئة الانتخابية في كانون الأول/ديسمبر والمصادقة عليها، وهو الإجراء الدستوري الأخير المطلوب لاختيار الرئيس المنتخب، بدا تقريباً أن البلاد تستعد لتجاوز المنعطف. بعض أنصار ترامب في الكونغرس أوضحوا بجلاء أنهم سيعترضون على المصادقة انطلاقاً مما قالوا إنه احترام للناخبين الجمهوريين الذين شككوا في نزاهة الانتخابات بعد أن أمطرهم الرئيس وحلفاؤه بادعاءات لا أساس لها بوجود تزوير انتخابي. لاحظ منتقدو هؤلاء الطبيعة الالتفافية المصلحية لهذا المنطق. رغم ذلك، كان من المتوقع أن تشكل تلك الاعتراضات مناورة أدائية لا أكثر. وبين الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب والكادر القوي للأعضاء الجمهوريين (الأكثر بروزاً في مجلس الشيوخ) الذين اعتبروا التحرك معادياً للديمقراطية وغير دستوري، كان من المحتم أن تفشل تلك المحاولات.
لكن بينما أخفقت كمسألة قانونية، فإنها شكلت محفزاً للعنف الذي اندلع في 6 كانون الثاني/يناير. ففي وقت مبكر من ذلك اليوم، وشعوراً منه بالغضب الشديد من الأخبار التي وصلته عن أن نائب الرئيس مايك بنس لن يستخدم دوره التشريفي كرئيس للجلسة المشتركة للكونغرس لرفض أصوات الهيئة الانتخابية، انفجر ترامب أمام حشد من أنصاره الذين كانوا قد تجمعوا في مركز العاصمة واشنطن، جزئياً في استجابة لتحريض الرئيس على وسائط التواصل الاجتماعي. وأشار إلى الانتخابات على أنها “اعتداء فاضح على ديمقراطيتنا”، وحثهم على التوجه إلى الكابيتول، لـ “تشجيع” أعضاء الكونغرس الذين كانوا يخططون للاعتراض على المصادقة على فوز بايدن، قبل أن يختتم بلهجة منذرة بالشؤم: “ربما لن نشجع بعضهم، لأنكم لن تستعيدوا بلادنا بالضعف”. وأتى خطاب الرئيس بعد خطابات تحريضية ألقاها أبناؤه، وأحد أنصار ترامب، رودي جولياني، وآخرين.
بعد أن استوعبوا هذه الكلمات فيما يبدو، توجه بعض الغوغاء إلى مبنى الكابيتول، عبر منتزه “ناشيونال مول”، حيث تجاوزوا الحواجز الأمنية (رغم أن بعض مقاطع الفيديو تظهر رجال الأمن أحياناً وهم يسمحون لهم بالعبور)، وتغلبوا على الشرطة، وسيطروا على الممرات، ونهبوا محتويات المكاتب ورفعوا أعلاماً كتب عليها اسم ترامب على الشرفات. وسط هذه الفوضى، أطلقت شرطة الكابيتول النار فقتلت امرأة؛ وتوفي ثلاثة آخرون من حالات طبية اسعافية، وعثرت السلطات على قنبلتين أنبوبيتين في المنطقة وأزالتهما – واحدة في مقر اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي والثانية في مقر اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري.
في مؤتمر صحفي تلك الليلة، ذكر رئيس شرطة مقاطعة كولومبيا أنه تم العثور على أسلحة أخرى مخبأة في الجوار، بما في ذلك مبرِّد يحتوي على خلائط المولوتوف. واستغرقت السلطات بضع ساعات لاستعادة السيطرة على المبنى بحيث يتمكن الكونغرس من استئناف عد الأصوات؛ وكان الوقت قد تجاوز الثالثة صباحاً في 7 كانون الثاني/يناير عندما حصل جو بايدن على العدد الكافي من الأصوات المصادق عليها لإعلان فوزه.
السؤال هو ماذا يحدث الآن؟ قد تكون الأحداث شكلت تحذيراً متأخراً جداً لبعض كبار الجمهوريين الذين – استناداً إلى المبادئ أو المصلحة السياسية – حثوا الرئيس ترامب في النهاية على وضع حد لمقاومته للانتقال السلمي للسلطة. ترامب نفسه، وبعد تعرضه للضغوط، أصدر لاحقاً بياناً كرر فيه أنه “كان يختلف بشكل كامل مع نتائج الانتخابات” لكنه تعهد بأنه “سيكون هناك عملية انتقال منظمة” في 20 كانون الثاني/يناير، الموعد المحدد لأداء جو بايدن اليمين وتسلّم مهامه الرئاسية.
قد لا يكون ذلك مطمئناً تماماً. فمع بقاء ثلاثة عشرة يوماً قبل تدشين رئاسة بايدن، فإن الصلاحيات الاستثنائية التي تمتلكها الرئاسة الأميركية، من القدرة على دعوة القوات المسلحة لقمع الاضطرابات المدنية إلى صلاحية غير مقيدة لإطلاق الأسلحة النووية، يتمتع بها رئيس حرّض على التمرد ضد السلطة التشريعية في حكومته. حتى عندما كانت تبعات تحريضه واضحة، بدا ترامب غير نادم، ونشر بياناً في مقطع فيديو جدد فيه ادعاءاته الزائفة بأن الانتخابات قد تم تزويرها وعبّر عن حبه للمتمردين حتى وهو يحثهم على العودة إلى منازلهم، وقاوم توسلات موظفيه بأن يدعو الحرس الوطني في مقاطعة كولومبيا لاستعادة النظام في المدينة. (يذكر أن البنتاغون أرسل الحرس فقط بعد تدخل نائب الرئيس بنس ومستشار البيت الأبيض بات سيبولوني.)
قامت منصات وسائط التواصل الاجتماعي، بما في ذلك فيسبوك وتويتر، بتعليق حسابات الرئيس، رغم أن المنصات غير الرئيسية التي تم تنظيم تجمعات 6 كانون الثاني/يناير بشكل أساسي عليها لم تتخذ أي إجراء بعد. بعض كبار الموظفين استقالوا من مناصبهم وآخرون أشاروا إلى أنهم يفكرون بالاستقالة. لكن في غياب عمل أكثر تنسيقاً فإن المخاطرة ما تزال موجودة في أن يقوم ترامب بالتحريض على المزيد من العنف أو يطلق هجمات بطرق أخرى خطيرة.
يمكن إدارة تلك المخاطر، لكن ذلك سيكون صعباً؛ إذ سيتطلب ضغوطاً مستمرة من قادة حزب ترامب الجمهوري. بالنظر إلى أن هؤلاء سيكونون اللاعبين المحوريين في أي محاولة دستورية لإقالته من منصبه، فإنهم يسيطرون على ما يرجح أن يكون أكثر مصادر النفوذ فعالية لإبقائه منضبطاً. فبموجب التعديل الخامس والعشرين للدستور الأميركي – الذي قالت رئيسة مجلس النواب، الديمقراطية نانسي بيلوسي، وزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، إنه سيتم تفعيله – فإن رؤساء الإدارات والوكالات الرئيسية في السلطة التنفيذية يمكن أن يعلقوا سلطته في تصويت بالأغلبية إذا وجدوا أنه “غير قادر على ممارسة صلاحيات وواجبات منصبه”. كبديل عن ذلك، يمكن للكونغرس أن يسعى لعزل الرئيس ومن ثم إدانته – وهو أمر سيتطلب انضمام عدد كبير من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين إلى نظرائهم الديمقراطيين. إن أياً من هاتين العمليتين ليست سهلة، لكن إذا توفرت الإرادة الكافية فإن أياً منهما لن تكون مستحيلة.
نائب الرئيس بنس، الذي يتمتع بدور دستوري مزدوج، سواء قرب قمة السلطة التنفيذية أو بوصفه رئيساً لمجلس الشيوخ، سيكون في موقع مناسب لحشد الدعم اللازم في كلا السلطتين وإبلاغ الرئيس برسالة بسيطة، في الحد الأدنى: إما الامتناع عن التحريض على المزيد من أعمال العنف، والقيام بما ينبغي فعله (أو تفويض صلاحيات القيام بذلك لشخص آخر) للمحافظة على تماسك البلاد إلى أن تنتقل إلى أيادٍ أكثر أماناً، أو إنه سيطرد من منصبه. كان من المستحيل التفكير بمثل هذه الخطوة حتى قبل أسابيع، لكن مع الخلاف الأخير بين الرجلين والتوبيخ العلني القاسي الصادر عن ترامب حيال ذلك، فإن بنس قد يرى أن ليس لديه الكثير مما يخسره بالبقاء مخلصاً لترامب، والأكثر بكثير مما يكسبه بالتصرف بشكل رئاسي عندما يرفض الرئيس فعل ذلك. زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، الذي ألقى خطاباً قوياً ضد محاولة منع المصادقة على الأصوات قبل اندلاع العنف، ينبغي أن يعمل بالتنسيق مع بنس لتسليمه الأصوات التي سيحتاجها لتنفيذ تهديده.
إن الحكم على ما إذا كان تخفيف حدة الأزمة يمكن أن يتحقق بعزل ترامب من منصبه، مما سيجعله شهيداً في أعين أكثر أنصاره خطورة، أو السماح له بإكمال الثلاثة عشر يوماً المتبقية من فترته الرئاسية، ستحدده كيفية سلوكه. أما بالنسبة للخطوات الأخرى التي يمكن اتخاذها، فينبغي على مسؤولي فرض القانون أن يوضحوا فوراً بأنهم سيلاحقون قضائياً جميع أولئك الذين تتوفر أدلة كافية على ارتكابهم لأعمال مخالفة للقانون وأن أي شخص يحذو حذو أولئك الرعاع سيخضع للمساءلة. كما ينبغي على الكونغرس التحقيق في الأسباب التي جعلت أمن مبنى الكابيتول غير مستعد ولماذا وصل الرعاع بسهولة إلى المبنى.
وينبغي على القادة الأجانب الذين عبروا عن صدمتهم حيال أحداث 6 كانون الثاني/يناير أن يستمروا في فعل ذلك؛ كما ينبغي أن تعرف النخبة السياسية الأميركية إلى أي حد تبدو عطالتها مرعبة وربما مزعزعة للاستقرار للعالم بأسره. أعضاء الحكومة وموظفوهم الذين سربوا الهمسات المتعلقة بالتعديل الخامس والعشرين في 6 كانون الثاني/يناير والذين ربما ساعدوا في تمهيد الطريق لرضوخ الرئيس على مضض في الصباح التالي، ينبغي أن يستمروا في فعل ذلك، آخذين في الاعتبار أن شبح تفعيل هذه الآلية قد يكون أفضل دواء لعلاج الاضطرار لاستخدامه.
أخيراً، والأكثر أهمية، أنه سيترتب على القادة الأميركيين والمواطنين العاديين على حد سواء أن يتوافقوا مع واقع أن التوترات التي دفعت البلاد إلى فوهة البركان الذي تجد نفسها عليها الآن لن تتبخر مع انتقال السلطة في 20 كانون الثاني/يناير. في مناشدة مفهومة للغرائز الأسمى للسكان، قال الرئيس المنتخب بايدن في خطاب في 6 كانون الثاني/يناير، “إن مشاهد الفوضى في الكابيتول لا تعكس أميركا الحقيقية، ولا تمثل من نحن”.
يتمنى المرء لو كان ذلك صحيحاً تماماً. إن تلك الأحداث قد لا تمثل مجمل التجربة الأميركية، لكنها تظهر جزءاً مهماً منها. فبصرف النظر عن التاريخ الطويل للبلاد الحافل بالعنف، والعبودية والتمييز العنصري، فإن هذه الأحداث تشكل تتويجاً لعقود من الاستقطاب الذي استغله السياسيون لتحقيق التقدم في مسيرتهم المهنية، وكافأته لوغاريتمات وسائط التواصل الاجتماعي لتعزيز شعبية منصاتها، وساعد على تغذية صعود المنظمات التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض والتي تصنفها الحكومة الأميركية الحالية على أنها “التهديد القاتل المستمر” في الداخل.
إن الولايات المتحدة اليوم أمة يقتنع فيها ملايين الناس بأن الرئيس الجديد تم انتخابه بشكل غير شرعي، وأن عدداً أكبر مما ينبغي من تلك الملايين مسلحون ويبدون مستعدين للجوء إلى إجراءات متطرفة لضمان انتصار وجهة نظرهم. تلك أمة سيبقى العنف السياسي تهديداً فيها.
ويبقى هناك سؤال مفتوح حول ما إذا كان قادتها السياسيين ومجتمعها المدني سيعالج، وكيف سيعالج، التحديات العميقة التي تواجهها البلاد والكامنة وراء هذه الظروف. لكن بالنظر إلى أن الولايات المتحدة قضت عقوداً من الزمن وهي تقول للدول الأخرى إن عليها أن تواجه مشاكلها بأنفسها، فقد حان الوقت منذ زمن لتحوِّل الولايات المتحدة أنظارها إلى الداخل. ولا يمكن للرهانات أن تكون أعلى مما هي عليه الآن.
رابط المصدر: