بقلم: بيروسكا ناجي موهاسي
لندن ــ شهد عمل البنوك المركزية في الأسواق الناشئة ثورة صامتة خلال جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). فعلى النقيض من أزمات الماضي، كانت قادرة على محاكاة السياسات التي كانت البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة عاكفة على تنفيذها: سياسات معاكسة للتقلبات الدورية، مع التيسير الكمي، وشراء الأصول بالعملة المحلية، وخفض أسعار الفائدة، وتسييل العجز الحكومي.
في الماضي، كانت مثل هذه السياسات لتغذي التضخم وتفرض ضغوطا تدفع أسعار الصرف إلى الانخفاض. لكن الحال كانت مختلفة هذه المرة. فباستثناء قِـلة من البنوك المركزية التي كانت تواجه المتاعب بالفعل قبل اندلاع الجائحة، كانت البنوك المركزية في الأسواق الناشئة قادرة على استخدام التيسير الكمي لخلق حيز أكبر للمناورة في الاستجابة للأزمة.
ساعدت السياسات النقدية في الاقتصادات المتقدمة في تمكين هذا التغيير. فقد خلفت برامج التيسير الكمي التي تبنتها تأثيرات إيجابية غير مباشرة، حيث عملت على توسيع عمليات مقايضة العملة وإعادة شراء العملات الأجنبية (ريبو) في الاستجابة للأزمة. وبين التدابير التي اتخذتها البنوك المركزية ذات الأهمية الجهازية على مستوى العالم، كانت استجابة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي هي الأكثر أهمية، لكن عمليات المقايضة وإعادة الشراء من جانب البنك المركزي الأوروبي وبنك الشعب الصيني كان لها أيضا تأثير كبير على المستوى الإقليمي.
وصلت التأثيرات المترتبة على تخفيضات أسعار الفائدة وعمليات ضخ السيولة الضخمة في الاقتصادات المتقدمة إلى الأسواق الناشئة نتيجة للبحث العالمي عن العائد. بعد تعثر الأسواق في مستهل الأمر في مارس/آذار، عادت تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناشئة، التي شهدت إصدارات مرتفعة للديون في الأشهر اللاحقة. كما تمكنت الأسواق الناشئة من خفض أسعار الفائدة، وبدأت بنوكها المركزية تصدر أصولا مقومة بالعملات المحلية حيثما كانت السوق ضخمة بالقدر الكافي.
في الوقت ذاته، أدى التوسع الهائل في عمليات مقايضة العملات من جانب البنوك المركزية ذات الأهمية الجهازية العالمية إلى تخفيف ضغوط أسعار الصرف. تعمل خطوط المقايضة هذه كشبكات أمان لاستباق نقص العملات الأجنبية في الأسواق المحلية. في وقت مبكر من الجائحة، أعاد بنك الاحتياطي الفيدرالي تنشيط ترتيبات المقايضة الدائمة مع البنك المركزي الأوروبي، وبنك كندا، وبنك إنجلترا، وبنك اليابان، والبنك الوطني السويسري، في حين عمل أيضا على تمديد آجال استحقاقها. ثم أتبعت ذلك بتوفير خطوط المقايضة للبنوك المركزية في أستراليا، والبرازيل، والدنمارك، وكوريا الجنوبية، والمكسيك، ونيوزيلندا، والنرويج، وسنغافورة، والسويد.
في حين اتخذ بنك الاحتياطي الفيدرالي تدابير مماثلة أثناء الأزمة المالية العالمية قبل عقد من الزمن، فقد ذهب الآن إلى مسافة أبعد كثيرا. ففي نهاية مارس/آذار، بدأ تقديم تسهيلات إعادة شراء مؤقتة إضافية جديدة للسلطات النقدية الأجنبية والدولية. يسمح هذا الترتيب للبنوك المركزية والمؤسسات النقدية العامة في مختلف أنحاء العالم باستخدام مخزونها الحالي من سندات الخزانة الأميركية كقناة للوصول إلى السيولة بالدولار الأميركي.
على الرغم من أن اتفاقيات إعادة الشراء ليست مقايضات حقيقة للعملات (لأن السطات النقدية الأجنبية والدولية يجب أن يكون لديها بالفعل أصول مقومة بالدولار كضمان)، فإنها أثبتت كونها مصدرا قويا لثقة السوق. ولأن مجرد إتاحة اتفاقيات إعادة الشراء قد يكون كافيا لطمأنة الأسواق، فإن الحاجة لا تنشأ لاستخدامها في كثير من الحالات.
علاوة على ذلك، من الممكن أن تخدم عمليات إعادة الشراء كمقدمة لترتيبات مقايضة العملة الحقيقية، على غرار نموذج عمليات إعادة الشراء الذي تبناه البنك المركزي الأوروبي مع بولندا والمجر في عام 2009. في الأزمة الحالية، قام البنك المركزي الأوروبي وبنك الشعب الصيني بتمديد خطوط المقايضة وإعادة الشراء في إطار مجالات نفوذهما النقدي، مما سمح بانخفاض مخاطر أسعار الصرف بشكل حاد في الأسواق الناشئة.
سوف يظل حيز المناورة الإضافي المتاح للبنوك المركزية في الأسواق الناشئة قائما ما دامت السياسات النقدية في الاقتصادات المتقدمة توسعية بالقدر الكافي. وهو احتمال مرتفع في الأمدين القريب والمتوسط، لأن البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة لم تكن قادرة (لأسباب متباينة) على الخروج بشكل كامل من برامج التيسير الكمي التي أطلقتها قبل عقد من الزمن، حتى بعد تعافي النمو وتشغيل العمالة.
والآن، بسبب الجائحة وما أحدثته من ركود اقتصادي عميق، لا تلوح في الأفق فعليا أي نهاية للتيسير الكمي. فضلا عن ذلك، تلتزم العديد من البنوك المركزية رسميا بالإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة أو حتى سلبية، ومن الممكن أن تعمل العملات الرقمية الجديدة التي تصدرها البنوك المركزية على تسهيل تنفيذ مثل هذه السياسات نسبيا.
النتيجة بالنسبة إلى البنوك المركزية في الأسواق الناشئة إذن هي أنها ستظل في الأرجح تتمتع بتأثيرات السياسة النقدية غير المباشرة التي تنتهجها البنوك المركزية ذات الأهمية الجهازية العالمية في المستقبل المنظور. لكن الفوائد المترتبة على هذه الحرية السياسية ليست بلا حدود. فربما تشهد عِـدة بنوك مركزية في الأسواق الناشئة قريبا عواقب غير مقصودة في ما يتعلق بالاستقرار المالي والحوكمة.
في نهاية المطاف، سوف يؤثر التيسير الكمي والركود المطول حتما على ميزانيات الشركات والأسر، وفي نهاية المطاف البنوك. عندما يحدث هذا، سوف ترتفع حالات الإفلاس والقروض المتعثرة إلى عنان السماء، وسوف تجد الحكومات في الأسواق الناشئة أن الحيز المالي المتاح لها أقل كثيرا من نظيره في الاقتصادات المتقدمة لمعالجة مثل هذه المشاكل.
من المحتمل أن تنشأ أيضا قضايا تتعلق بالحوكمة. وسوف تثير مشتريات البنوك المركزية من الأصول التي تتجاوز السندات الحكومية المخاوف بشأن الشفافية والمساءلة. في الواقع، ربما يتحول هذا إلى مشكلة في الاقتصادات المتقدمة أيضا (وإن كانت ستظل تتمتع بميزة الحيز المالي الأكبر والترتيبات المؤسسية القوية).
بطريقة أو أخرى، من المرجح أن تظهر نقاط الضعف التي تعيب الأسواق الناشئة بوضوح قريبا في مجالات الاستقرار المالي المحلي والحوكمة المتعددة. ويحسن واضعو السياسات في هذه البلدان صنعا بتوخي الـحَـذَر.
رابط المصدر: