جائحة كورونا ونظرية تأثير الفراشة

اعداد : عبيد الحليمي، باحث في سلك الدكتوراه، جامعة سيدي محمد بن عبد الله/ فاس.

 

يعد وباء كورونا من ضمن أخطر الأوبئة التي تواجه الإنسانية خلال هذا العصر، كما يوصف بأنه أسوء أزمة إنسانية يعرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، حيث أرغم الدول على توظيف كل إمكانياتها لمواجهة الفيروس المستجد، وأدخل العالم في حالة طوارئ صحية، بما يرتبط بها من تعامل الحكومات مع الظروف الاستثنائية المستجدة كتقييد الحقوق والحريات ذات الصلة بحركة الأشخاص وإغلاق الحدود، إضافة إلى تعطيل عجلة الاقتصاد بشكل شبه كامل، وتوقيف حركة النقل الجوي والبحر والبري، ناهيك عن تغييره لنمط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية..

وقد أثبتت الجائحة إشكالية عدم اليقين من خلال كثرة الإشاعات والأخبار الزائفة المتعلقة بالجائحة، فضلا عن النقص في المعلومات غير الدقيقة وتضاربها، كما ساهم فيروس كورونا في إعادة إحياء النقاشات النظرية بحقل العلاقات الدولية، خصوصا بعد ظهور العديد من الممارسات الدولية التي تعاكس طموحات أنصار العولمة، كعودة الدولة بشكل قوي بعدما كان هناك من يدعي بأن أدوارها تقلصت في ظل العولمة، إضافة إلى بروز بعض السلوكيات الأنانية للدول بشكل يناقض قيم التعاون والتضامن الدولي، ثم خفوت دور القادة السياسيين في حل الأزمات مقابل بروز صوت العلماء والمؤسسات الأكاديمية..

في هذا السياق، سنحاول مقاربة موضوع الجائحة وفق نظرية تأثير الفراشة، وهي نظرية فلسفية فيزيائية ظهرت مع عالم الأرصاد الجوية والرياضيات إدوارد لورنتز، لكن تأثيرها سيتجاوز الأرصاد الجوية والرياضيات ليشمل أيضا الاقتصاد وتدبير الأزمات وباقي العلوم الاجتماعية والإنسانية، بل هناك من يؤكد بأن ظهورها يعود لعهد سابق على لورينتز من خلال أبحاث علمية وروايات للخيال العلمي وأعمال أدبية وأبيات شعرية وأحداث تاريخية غيرت مجريات التاريخ في اتجاه من الاتجاهات..

ماهية نظرية تأثير الفراشة

كان من السائد القول بأن العلم قادر على التنبؤ ومعرفة ما يحدث في المستقبل، وارتبط ذلك بالتسليم بمبدأ الحتمية (لابالاس) وبأن العالم عبارة عن نظام محكم (نيوتن)، إذ من خلال معرفة قوانينه باستطاعة العلماء التنبؤ بما يقع في المستقبل البعيد، حيث ارتبط ذلك بالاكتشافات العلمية في العصر الحديث، لكن التطورات العلمية اللاحقة ستكتشف بأنه من الصعب تعميم هذا الطرح على كافة العلوم، وبأن متغيرات بسيطة ممكن أن تؤثر على النتائج بشكل بسيط (ماكسويل)، لتظهر في ما بعد ما يعرف بنظرية الفوضى، التي مؤداها أن للفوضى نظامها الخاص، إذ أنه أي تغير بسيط في البداية سيؤدي إلى حدث كبير في النهاية (بوانكريه)، لهذا فإن هذه النظرية تنكب على دراسة القوانين الخفية المؤثرة على النتائج، وهي ما تتيح فرصة التعامل باحتمالية مع المستقبل، بدل التنبؤ الدقيق..

إن نظرية الفوضى لا تعني الاضطراب، بقدر ما أنها تؤكد على أن مسار الظواهر لا يسير وفق مسار خطي إلى نهايته، فقد تحدث متغيرات بسيطة جدا لتؤثر بشكل كبير في نهاية المسار بتغييره من مكان إلى أخر، كما أن تراكم هذه المتغيرات يؤدي إلى سلسلة من الأحداث والسلوكيات الخاطئة التي يصبح معها التنبؤ غير ممكنا، لذا تهتم النظرية بدراسة الظواهر الخفية لهذه المتغيرات، أي بالمتغيرات البسيطة بالنظام المعقد الممكن أن تحدث نتائج غير متوقعة، وتلك المتغيرات البسيطة هي ما يطلق عليها بتأثير الفراشة.

وقد ارتبطت نظرية تأثير الفراشة بعالم الرياضيات والأرصاد الجوية إدوارد لورنتز، والذي استعملها في مجال التنبؤ بالطقس من خلال برمجية على الحاسوب المزودة بمحاكاة لأحوال الطقس، حيث كان يشتغل سنة 1961 على نموذج مجهز بمعادلات حول الطقس، فقام بإدخاله لحاسوبه، بعد أيام خلصت تجربته إلى نتائج توقعية لما سيكون عليه الطقس، فأراد أن يكرر التجربة لكنه بدأها من منتصفها ربحا للوقت، ليخلص إلى نتائج غير تلك التي ظهرت لأول مرة، فاكتشف بأنه أدخل ثلاثة أرقام بعد الصفر وتجاهل – عن طريق الخطأ – ثلاثة أرقام أخرى، فكان خطأه العفوي سببا في اكتشاف أن المتغيرات التي نظنها ضئيلة ممكن أن تحدث نتائج كبيرة في المسار التوقعي للظواهر على المدى البعيد.

سيقوم لورينتز بتطوير عمله في سنة 1963، موضحا أن التنبؤ الدقيق بالطقس مستحيل بسبب عدم معرفة الظروف الأولية، ولتبسيط أفكاره استعمل – في ما بعد – تشبيه الفراشة، حيث توضح رفرفة الفراشة على خط بمبيان تغيير مساره على عكس الخط الأخر الذي لا توجد به الفراشة، وهذا ما يفند ما كان سائدا حول النماذج التنبؤية التي تفترض مسارا خطيا وحتميا وتتجاهل احتمالات انحراف هذه المسارات عن خطها، ليحدث اكتشافه نقاشا علميا تجاوز حدود الأرصاد الجوية إلى مجالات علمية أخرى.

ويتم الاستدلال الرمزي على نظريته بالمقولة الشهيرة “رفرفة فراشة بغابة الأمازون يمكن أن يتسبب بإعصار في ولاية تكساس بعدها بأسابيع عوض طقس هادئ”، إذ لا يعني هذا المثل بأن الفراشة ستخلق إعصار بقدر ما أن رفرفتها في الجو سيساهم في تغيير مساره، أي أن تلك المتغيرات الضئيلة ستحدث نتائج متناقضة مع تقدم الوقت وتراكمها، وهذا ما فند به التنبؤ الدقيق على المدى البعيد للطقس، بالنظر إلى غياب معرفة مثالية عن الظروف الأولية لأي ظاهرة جوية.

ورغم أن نظرية تأثير الفراشة ارتبطت بلورنتز، إلا أن ظهورها يعود إلى وقت سابق، كما هناك العديد من الأمثلة التي تدلل على هذه النظرية، نموذج الأبيات الشعرية التي ينسبها البعض للثقافة الانجليزية التي تعود للقرن الرابع عشر وتقول:

  • لعدم وجود المسمار ضاعت الحدوة
  • لعدم وجود حدوة ضاع الحصان
  • لعدم وجود الحصان ضاع فارسه
  • لعدم وجود فارس هزموا في المعركة
  • لعدم وجود المعركة ضاعت المملكة”

فيبدو بأن المسمار أمرا تافها، لكن أدى عدم وجوده إلى نتائج غير متوقعة، ضاع كل شيء بسبب متغير بسيط، أي أن التغييرات الأولية البسيطة أدت إلى تغييرات كبيرة في المسار النهائي للأحداث، لذا فإن تجاهل تلك التغييرات الأولية أو عدم معرفتنا بها قد يكون أمرا عاديا أو قد يؤثر على النتائج، وثمة أمثلة تاريخية كثيرة تفسر نظرية تأثير الفراشة، منها مثلا، اغتيال ولي عهد النمسا سنة 1914 الذي سيؤدي في ما بعد إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، فحدث بسيط تجلى في موت شخص سيؤدي إلى سلسلة من الأحداث التي ستشعل الحرب العالمية الأولى بعد شهر..

إضافة إلى حدث نجاة فرنكلين روزفيلت من الاغتيال سنة 1933، حيث حاول شخص يدعى زينجارا اغتيال روزفيلت من خلال إطلاق الرصاصة عليه، لكن تلك الرصاصة أصابت عمدة شيكاغو، فلو أصابت هدفها لما كانت أمريكا كما عليه الآن، إذ يعتبر روزفيلت أعظم قائد في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، بحكم أنه قادها إلى أقوى دولة في العالم خلال فترته الرئاسية الممتدة من سنة 1933 إلى 1945، وهي المرحلة التي اتسمت بالكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، فضلا عن ذلك، ساهمت أفكاره في بزوغ النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية.

ثم هناك قصة هيتلر الذي رفضت أكاديمية الفنون الجميلة طلبه بالالتحاق إليها في بداية القرن العشرين، إذ بسبب متغير بسيط ارتبط اسم هيتلر بالنازية والشر ومأساة الحرب العالمية الثانية، ربما كان سيصير فنان مبدع بدل ديكتاتور مرعب، وأخيرا نشير لمثال القصف النووي لناكازاكي، حيث كان هدف الطيارين الأمريكيين قصف مصنع الذخيرة بمدينة كوروكو، لكن الظروف الجوية الغائمة منعت الطيارين من الرؤية بعد عدة مرات من التحليق، ليقرر الطيارين قصف مدينة ناكازاكي بسبب وضوح الرؤية، فتلك الأجواء الغائمة كانت سببا في تغيير مجرى التاريخ لمدينة كوروكو اليابانية.

مبدأ تأثير الفراشة في زمن الوباء

حينما كانت الصين تواجه فيروس كورونا، كان العالم غير مكترث لما يقع ببلد المليار وربع نسمة، بل تحولت مشاهد الصينين إلى موضوع للسخرية العنصرية عند البعض، لكن بعد شهرين من ظهور الوباء صار حوالي نصف سكان الكرة الأرضية تحت الحجر الصحي، وتحولت لغة السياسيين في أغلب دول العالم إلى ما يشبه “خطاب الحرب” في معركة مع عدو مجهول وغير مرئي، سلاحها التشديد على الالتزام بإجراءات الحجر الصحي، وجيشها من الأطباء والممرضين الذين يواجهون الفيروس في المستشفيات، كان ذلك بفعل تأثير الفراشة، فهل يمكن لرفرفة الفراشة أن تحدث جائحة عالمية؟

قد يبدو هذا السؤال تافها أو ربما غير جدير بالاهتمام، لكن بالإمعان جيدا في تسلسل الأحداث الناتجة عن كورونا نخلص إلى القول بأن طريقة الانتشار السريع للوباء تمت بمتغير بسيط، هذا المتغير هو الذي نسميه بتأثير الفراشة، والذي يوحي إلى تجاهل أو عدم معرفة الظروف الأولية لظهور الوباء بالصين قبل أن ينتشر بسائر بلدان المعمور، كيف انتقل إلى البشر؟ وكيف ظهر بسوق ووهان الصينية؟ ولماذا تم تجاهل نداء الطبيب الصيني الذي اكتشفه؟ هل كان نداء الطبيب الصيني كافيا لتغيير مجريات أحداث كورونا؟ لماذا استهانت بعض الدول بالفيروس؟ ولماذا تأخرت بعضها في إجراءات الحجر الصحي؟ وهل نجحت دول أخرى في تصديها للوباء؟

لا يعني تقديم الإجابات عن هذه الأسئلة بأنها كانت ستمنع كورونا من الظهور، لكن معناها أنه كان بالإمكان أن يكون حاضرنا بشكل أخر، بمعنى عدم المعرفة الدقيقة بالبدايات الأولى للوباء أدى إلى انتشاره بسرعة قياسية بعد حوالي شهر من ظهوره، ومع هذا الانتشار توالت الكثير من الأخطاء من طرف بعض الدول في مواجهة الوباء، مما أدى إلى نتائج غير متوقعة وصادمة أحيانا، بسبب إما غياب المعلومات الدقيقة عن الوباء، وإما بالاستهانة بخطورته أو الثقة الزائدة في القدرات العلمية والإمكانيات الاقتصادية المتاحة من طرف الدول الغربية ذات الأنظمة الصحية المتقدمة.

فقد أثبت أزمة كورونا عن ارتباك دولي في مواجهة الوباء مع بدايته واستخفاف بخطورته، خصوصا من الدول الغربية الواثقة من قدراتها العلمية والتقنية وإمكانياتها الاقتصادية، الأمر الذي ستعاني معه أنظمتها الصحية بعد الانتشار السريع للوباء، رغم أنها تتوفر على أنظمة جد متطورة، وذلك بسبب الضغط وعدم قدرته على استيعاب الأعداد الهائلة من المصابين بالفيروس، بما يفوق الطاقة الاستيعابية لعدد الآسرة وأجهزة التنفس الاصطناعي، لتضطر إلى تجنيد كل جهودها للسيطرة على الوضع، هذا الأمر كان نتاج تأثير متغيرات لم تبدو بأنها مهمة في بادئ الأمر، لكن أثرت على تطور مسار الأحداث.

وثمة مثال أكثر دلالة على تأثير الفراشة في العلاقة بكورونا والذي يحاكي المثل “رفرفة فراشة في غابة الأمازون يمكن أن يتسبب بإعصار في تكساس”، مفاده “عطسة” مواطن في الصين يمكن أن يتسبب في إعصار وبائي يصيب ملايين البشر بجميع مناطق المعمور، أو عودة مواطن من رحلة سفر لوطنه يمكن أن يسبب بإصابة الآلاف بوباء كورونا، أو تجول سائح في مدينة عتيقة يمكن أن يؤدي إلى إصابة مئات من المتجولين بنفس الأماكن التي قصدها السائح، كل هذه الأمثلة تبين حقيقة أن المتغير الذي يبدو لنا بسيطا جدا يمكن أن يؤدي إلى نتائج أكثر خطورة.

وتزداد الأمور تعقيدا مع تسلسل الأحداث وتطور الوباء ببلدان المعمور، بما في ذلك طريقة استجابة الدول لمواجهة الوباء، والإجراءات المتبعة كغلق الحدود والتباعد الاجتماعي والحجر الصحي، إذ بفارق بسيط جدا قد تتغير النتائج من دولة لأخرى، تأخر في غلق الحدود أو عدم الالتزام بالحجر المنزلي أو رفض ارتداء الكمامة أو عدم الانضباط لقواعد التباعد الاجتماعي كلها قد تبدو محددات عادية، لكنها قد تحدث نتائج غير متوقعة، بمعنى أخر، تساهم في تغيير النتائج من حيث عدد الإصابات والضحايا، وهذا ما ينطبق بالعديد من الدول التي نجحت في مواجهة الوباء.

على غرار ذلك، فإن تأثير الفراشة يلقي بظلاله أيضا في محاكاة الممارسات الفضلى للدول والتجارب الناجحة في مواجهة الوباء، من خلال تتبع نفس الإجراءات، ولابد من الإشارة إلى التأثير الذي بات يأتي من دول توصف – في الخطابات الغربية – “قوتها بالحادة المقرونة بالسلطوية” كالصين، أو من دول لا تصنف ضمن الأقوياء بالمعنى الصلب للقوة ككوريا الجنوبية وهونغ كونغ وتيوان، على سبيل المثال، ارتداء مواطن أسيوي لكمامة بدا سلوكا مبالغا، لكن مع تطور الأحداث، أضحى ارتداء الكمامات إجباريا بتوصية من منظمة الصحة العالمية، فالتأخر في استعمال الكمامة من طرف بعض الدول ساهم في التفشي السريع للوباء، والسبب هو غياب المعلومات الدقيقة عن دورها في الوقاية من الوباء عند ظهوره.

أكثر من ذلك، فهناك أيضا متغيرات أخرى من قبيل خبر زائف حول الوباء الممكن أن يؤثر على عقول ملايين من البشر ويصل صداه إلى أبعد نقطة، ربما قد يكون خبر زائف متداول بفضاء التواصل الاجتماعي أمرا عاديا، لكنه ممكن أن يؤثر على مسار الأحداث النهائي، منها مثلا، تكذيب حقيقة كورونا أو الادعاء بأنها فيروس صيني أو غيرها من الأخبار المفبركة التي لا تقف عن كورونا، بل تصل أيضا إلى التداعيات المصاحبة لها، الأمر الذي فرض على الدول التصدي لها بوسائل الإعلام المحلية وببث الخبر اليقين كي لا تؤدي إلى نتائج عكسية.

عالم ما بعد كورونا.. نحو براديغم جديد في حقل العلاقات الدولية

لاشك بأن التنبؤ الدقيق بالمستقبل مستحيل في زمن الجائحة، إذ يصعب معرفة كيف سيكون عليه العالم ما بعد كورونا، وحتى التوقعات الحالية لا تستند على معايير ثابتة، بقدر ما أنها تتعامل مع معطيات متغيرة وفق التسلسل الزمني للأحداث، مما يكون هامش الاحتمالية والنسبية جد مرتفع، هذا الأمر نتاج “تأثير الفراشة” الذي قد يغير مسار التنبؤ بسبب متغير بسيط في الاتجاه الغير متوقع، وذلك ما يضعنا أمام سلسلة متوالية من الأسئلة، هل ستغير الجائحة مسار التاريخ في الاتجاه الذي يؤسس لعالم جديد؟ أم أنها لن تؤثر كثيرا على نسق العلاقات الدولية الحالي؟ هل سيؤدي “عطسة” مواطن في أقصى مناطق المعمور إلى أفول عصر العولمة وميلاد نظام عالمي جديد؟ أم أنها ستعزز من مكانة هذا النظام وتوفر له الغطاء اللازم لشرعنة وجوده؟

إن هذه الأسئلة وغيرها تضع علم العلاقات الدولية أمام تحديات جديدة، لعل أبرزها هي أهمية نظريات العلاقات الدولية في مقاربة الأوبئة وتدبير المخاطر والأزمات والكوارث.. ولن يكون وباء كورونا إلا مقدمة لسلسلة من الأزمات التي ستواجه البشرية في المستقبل، بسبب التغيرات المناخية والأمراض والنمو السكاني المنفلت، وقد تصل تداعياتها لجميع الدول على طريقة نظرية الدومينو، بما معناه أن العلاقات الدولية ستشهد مفاهيم جديدة غير مألوفة، حيث سيصعب مقاربة السياسة الدولية ببراديغم معرفي واحد، بقدر ما أن الأمر سيتطلب استحضار جميع المقتربات النظرية.

في هذا الصدد، لابد من القول بأن البراديغم المعرفي الواقعي يثبت حضوره القوي في زمن الجائحة، فالواقعية أولا، تهتم بما هو كائن لا بما ينبغي أن يكون، وهي غير معنية باستشراف المستقبل أو التنبؤ بالشكل الذي ينبغي أن يكون عليه العالم، بل وتعتبر ذلك بمثابة المثالية التي تصطدم بمعطيات الواقع الدولي المتسم بالصراع والتنافس والسلوك الأناني للدول، حيث كانت هذه الادعاءات من أهم المرافعات لروادها (نموذج كينيت والتز وآخرون) أمام الانتقادات التي وجهت للنظرية الواقعية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حينما تم اتهامها بعدم قدرتها على التنبؤ بنهاية نظام القطبية الثنائية المتوازنة.

وثانيا، فالواقعية تعتبر الدولة هي الفاعل الرئيسي والوحيد بحقل العلاقات الدولية، مما يجعلها نظرية متفوقة على غيرها من النظريات، باستحضار حقيقة ما أثبتته الجائحة من كون الدولة هي التي تقف في مواجهة العدو غير المرئي وحيدة، سواء على المستوى الداخلي من خلال فرض حالة الطوارئ الصحية وتدخلها في شتى مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أو من خلال دورها في المساعدة والتعاون الدولي، واستيراد المستلزمات الطبية وإغلاق الحدود وكيفية تعاطيها مع مشاكل مواطنيها بالخارج، بينما تراجع أدوار الفاعلون الآخرون كالمؤسسات الدولية، والمنظمات الحكومية والغير حكومية الدولية والوطنية، باستثناء بعضها التي لم يتجاوز دورها تقديم الاستشارات والتوصيات كمنظمة الصحة العالمية..

إلا أنه لابد من القول بأن الواقعية لم تهتم بالأوبئة، ولم تجعلها في صلب اهتماماتها الرئيسية، فحسب بعض الواقعيين (نموذج جون ميرشايمر) هي مشكلات ثانوية لن تساهم في تغيير بنية النظام الدولي المتسم بالفوضى، هذه الأخيرة هي مبدأ تنظيمي مفاده أن النظام يتكون من دول مستقلة ولا توجد سلطة أعلى منها، لتبقى السيادة متأصلة في الدولة لغياب كيان حاكم فوق الدول بالنظام الدولي، وبسبب ذلك، فإن التعاون الدولي – رغم أهميته وضرورته في زمن الجائحة – سيظل تواجهه العديد من العقبات، نظرا لعدم وجود ضمانات تجعل الدولة “ألف” تثق في الدولة “باء”، أي لا يوجد ما يؤكد بأن الدول ستفي بوعودها التعاونية تجاه بعضها البعض في زمن الأوبئة أو غيرها من الكوارث والأزمات، وهذا ما يحتم عليها الاعتماد على الذات.

في هذا السياق، نستحضر الادعاء النظري حول غياب المعرفة المثالية عن البدايات الأولى للأحداث بمبدأ تأثير الفراشة، الأشبه بالافتراض الواقعي الذي مفاده أن الدول فاعل عقلاني تتعامل مع نظام دولي غير دقيق بمعطيات منقوصة، وسبب ذلك هو طبيعة النظام الدولي الفوضوي حسب الواقعيين، بينما حسب نظرية مبدأ تأثير الفراشة هي نتاج الفوضى ذات النظام الخاص والناتج عن سلسلة من الأخطاء والمتغيرات البسيطة التي أثرت على النتائج، وفي حين أن تلك المعلومات الدقيقة قد يتم إخفاؤها من طرف الدول حسب الواقعية، فإن تلك المعرفة الدقيقة بالبدايات الأولية تكمن في القوانين الخفية المؤثرة في النتائج، أي القوانين المشكلة لعالم الفوضى.

خاتمة:

تقدم لنا نظرية تأثير الفراشة فهما تقريبيا للطريقة الممكن أن تؤثر بها الأخطاء البسيطة على النتائج في المستقبل، ويبدو ذلك جليا في الكيفية التي تتعاطى بها الدول في مواجهة وباء كورونا، كما توضح أيضا بأن عالم اليوم قد تؤثر فيه أحداث ثانوية ومتغيرات ضئيلة على طريقة تأثير الفراشة في منحنى الطقس، وهذا ما يؤكد أولا، بأن هناك تحديات جديدة تواجه الدول في عملية تدبير المخاطر والأزمات في القرن الواحد والعشرين، وثانيا، تثبت بأن التنبؤ الدقيق بما سيكون عليه العالم ما بعد كورونا هو أمر مستحيل، لغياب المعرفة الدقيقة المثالية للبدايات الأولية للمتغيرات البسيطة المؤثرة في المسار النهائي للجائحة.

هذا الأمر يؤشر على أن عالم ما بعد كورونا سيواجه الكثير من الأزمات المشابهة، مما يضع علم العلاقات الدولية أمام تحديات جديدة، تقتضي توليفة نظرية مواكبة لهذه المتغيرات، والتي قد تجمع بين مفاهيم نظرية مختلفة، لغاية تقديم وصفة نظرية قد تتواءم مع المجتمعات التي لا تنتمي للمركزية الغربية، بحكم أن الأضرار الناتجة عن هذه الأزمات ستتفاوت خطورتها حسب الإمكانيات المتاحة والقدرة على الاستجابة الفعالة والتدبير العقلاني والناجع للمخاطر..

 

رابط المصدر:

https://democraticac.de/?p=67068

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M