مسلم عباس
استطاع الانسان المعاصر حل الكثير من الإشكاليات الميكانيكية والتقنية، وسيطر على أجزاء واسعة من الطبيعة ببحارها ويابستها واجوائها صعودا الى الفضاء الواسع ومحاولة منه للوصول الى النجوم البعيدة جدا، لكنه لم يستطع او هو لا يريد حل الإشكاليات المتأصلة في العلاقة بين الاخلاق والسياسة، هل السياسة تابعة للاخلاق؟ وهل يجب على كل سياسة ان تتبع المبادئ الأخلاقية؟ وما هي المبادئ الأخلاقية التي يجب ان نتبعها؟ أي هل هناك مبادئ أخلاقية تنطبق على الجميع ام انها نسبية وتتغير بحسب طبيعة المجتمع (الزمان والمكان)؟
للخوض في الفروقات بين السياسة والأخلاق نعرج على تعريف السياسة فهي فن السيطرة على البشر كما يقول ميكافيلي، وعلى الأمير (الحاكم) اتباع أي وسيلة توصله لهذه الغاية، واذا كان على الأمير الاختيار بين ان يخافه الناس، وبين ان يحبه الناس، فالافضل ان يختار الأولى، وبطريقة مقاربة يرى توماس هوبز ان الطبيعة الإنسانية قائمة على الصراع، وبما ان الناس يريدون التخلص من هذا الصراع يفوضون احد الأشخاص حاكما عاما عليهم، ويتمتع بسلطات ملطلقة، والناس يسلكون هذا الطريق خدمة لمصالحهم الذاتية وحفاظا على انفسهم، وهذا التفويض يينشأ بطريقة التعاقد بين الناس ويطلق عليه فيما بعد العقد الاجتماعي.
الفيلسوف سبينوزا يتفق مع قاعدة الدوافع النفية ويعتقد ان طبيعة البشر ودوافعهم انانية، وكل ما يتعاقدون عليه لتحقيق أهدافهم الشخصية أي ان التنازل عن بعض الحقوق هو من اجل دفع بعض الاضرار فهناك قاعدة عامة مفادها “لا احد يتخلى عن امر ما الا املا في خير اعظم منه او خوفا من ضرر مستقبلي”.
اما ايمانويل كانت فيلسوف الاخلاق، فقد عبر الى نقطة اعلى، ودعا الى شيوع الحرية في الاختيار والابتعاد عن نظرية “الوسيلة والغاية” أي العلاقة المصلحية بين البشر، فحتى الحرب في نظر “كانت” لا يكون لها مسوغ الا لاجل نشر الدستور المدني او المساهمة نشر الحرية لدى الناس، والحرية المقصودة لديه هي التزام الجميع بنظام تعاقدي يلزم الطرفين بنفس المستوى، لا على أساس طرفين احدهما اعلى من الثاني كما هو الحال لدى ميكافيلي وهوبز، ولا يؤمن “كانت” بمجتمع صغير يحكمه الأمير او الملك بشكل مطلق، بل مجتمع عالمي واحد تعمه الحرية عبر “تحالف السلام” وقد ميز بين معاهدات السلام التي اعتبرها مجرد هدنة للاستعداد للحرب القادمة وتحالف السلام الذي يقضى نهائيا على جذور اندلاع الحرب، بل ذهب الى ما هو ابعد عبر تشكيل المجتمع العالمي الواحد، الذي يجمع الشعوب في دستور واحد تتفق عليه بما يحفظ لها حقوقها ويضمن حريتها.
البذرة الاولى
الأفكار هذه وجدت اذنا صاغية لدى دودرو ويلسون رئيس الولايات المتحدة الامريكية، وهو تلميذ ايمانويل كانت حينما كان يعمل في مجال التدريس ثم رئاسة جامعة برنستون، وتحوله فيما بعد الى الواقع السياسي الأمريكي، وحقق ما كان يصبوا اليه “كانت” بتأسيس “عصبة الأمم” بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وغرضه في ذلك انهاء الحروب وزرع البذرة الأولى لدستور الشعوب ومن بعدها الدستور العالمي الذي يبعد سكان الأرض عن شبح الحروب، وكان ويلسون يريد تطبيق ما تعلمه من استاذه، لانه يعتقد بحقيقة العلاقة الايجابية بين الاخلاق والسياسة وإمكانية عقد مصالحة دائمة بينهما.
ما قدمه ايمانويل كانت من فلسفة وتاصيل في مجال المصالحة بين الاخلاق والسياسية، واسهامات ويلسون ومن عاونه على تأسيس عصبة الأمم دليل على إمكانية تحويل المصالحة النظرية الى مصالحة واقعية وان اختلفت في طريقة التطبيق، ومسألة تحويل العلاقة بين الاخلاق والسياسية الى علاقة طبيعية تعتمد على أسس لم تتوافر حتى الان، فاذا كان ويلسون قد اسس لها بشكل مبسط، فانها لم تتجذر بعد، فالعالم في دوامة من الحروب والسلام، عندما تطول فترة السلام وتمر عقود من الرخاء تتأهب بعض الدول لحماية أوضاعها المتقدمة، فتصنع السلاح وتكدسه، وتتكدس معه المخاوف من إمكانية ضياع المنجز، يبقى الانسان في حالة التوتر حتى ينفجر ضد المبادئ التي اوصلته الى حالة السلام.
دائرة السلم والحرب
يأتي رئيس مثل جورج بوش، او دونالد ترامب، مستغلا مخاوف الناس فيقدم لهم الوصفة السريعة لتحقيق السلام، يقول للناس ان السلام يمكن تحقيقه بالحرب، وان العدو يتربص ببلاده، يشن الحرب، ولا يجد سبيلا للخروج، فتحترق خيوط التواصل بين الاخلاق والسياسة التي لم تكن قادرة على المقاومة وهي في بداية التاسيس، تعود عجلة الإنسانية الى الوراء الى الحالة الطبيعية الوحشية التي تحدث عنها توماس هوبز والانانية الغائية التي تحدث عنها ميكافيلي.
ما يميز العلاقة بين الاخلاق والسياسة، ان الأولى تقوم على مبدأ ترشيد فائض القوة “العسكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتقنية” من اجل الحفاظ على مسافة ثابتة بين جميع الأطراف وتحقيق العدالة، بينما ترى السياسة ان العدالة الحقيقية هي بالتصارع على زيادة القوة ومن ثم تنصيب الأقوى على سلم القيادة حتى وان قام بافعال تعتبر ظالمة بحق من هم اقل منه شأنا.
اذا حكمت السياسة تتصارع الدول من اجل الحصول على الموارد بغية تعظيم مصادر قوتها ومن ثم السيطرة على العالم، فعل المغول ذلك والدول الاوربية الاستعمارية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولدندا والبرتغال، وفعلته الدولة العثمانية، واليوم تستمر الولايات المتحدة الامريكية والصين بالتصارع على المركز الأول، وفي طريق الصعود نحو القمة تسحق الاخلاق والإنسانية بالوسائل السياسية الموصلة الى الغايات الميكافيلية.
واذا كان الانسان قد جرب شرور السياسة القائمة على مبدأ الغاية المبررة للوسيلة، وقد خبر الانسان الخطأ الفادح الذي يقوم على مبدأ تعظيم القوة على حساب الاخرين بغض النظر عن الوسائل غير الأخلاقية لانه سيقلى حدفه بنفس الطريقة، فلماذا لا يلجأ الى حصن اكثر امانا يحقق له العيش بسلام من خلال تقييد السياسة بدرع متين من المبادئ الأخلاقية العالمية؟
تحتاج هذه الانتقالة من سطوة السياسة على الاخلاق تعميم النظام الأخلاقي داخل حدود الدول وتطوير المنظومة القيمية لدى الشعوب بحيث تتحول قيمة الشجاعة من التفاخر بقتل الاخرين الى التفاخر بالتصالح معهم، واعتماد مبدأ البقاء للجميع وتقوية الضعيف ليكون عونا للقوي من اجل مواجهة ظروف الطبيعة والمشكلات العالمية التي لا تستثني أحدا مثل الامراض والابئة وازمات الطاقة، فهل كنا سنحتاج الى كل الخسائر الاقتصادية التي تعرض لها العالم خلال هذه الايام في ظل جائحة كورونا لو تحول الانفاق على الأسلحة القاتلة للبشر الى انفاق على حل المشكلات الإنسانية المشتركة مثل تطوير القطاعات الحيوية مثل الاقتصاد والصحة وبما يضمن كرامة الانسان.
رابط المصدر: