حسن فحص
في لقاء له مع قيادة وضباط “حرس الثورة الإسلامية” أواخر شهر يوليو (تموز) 2015، أي بعد أيام قليلة من التوقيع على الاتفاق النووي مع مجموعة دول 5+1، كان لافتاً التأكيد الذي صدر عن المرشد الأعلى للنظام الإيراني بضرورة الحفاظ على الهدوء والتروي في التعامل مع نتائج هذا الاتفاق، وأن المخرجات التي حملها هذا التوقيع لن تمهد الطريق أمام تعميق العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة، وأن الجمهورية الإسلامية ونظامها يجب أن يعملا على تعزيز وتعميق التعاون الاقتصادي والتجاري مع الدول الصديقة وتحديداً روسيا والصين.
المرشد الإيراني في خطابه حينها، وجه رسائل واضحة لحكومة حسن روحاني من أن الاتفاق الذي توصلت إليه حول البرنامج النووي، وما فيه من تخفيف القيود والعقوبات الاقتصادية الدولية، لن يمنح الحكومة ومؤسساتها الحرية المطلقة في التحكم بالدفة الاقتصادية والعلاقات مع الخارج، وأن الاستراتيجية الرئيسة التي تحدد مواقف النظام على الساحة الداخلية، هي في قبضته، وخاضعة لسلطته المباشرة. بالتالي لم يكن من المستغرب أن يقدم تطمينات لقيادات “حرس الثورة” الجالسين قبالته، بأن دورهم في المرحلة المقبلة، ما بعد الاتفاق، سيكون أكبر وأوسع لإخراج إيران من الأزمات التي عانتها وتعانيها جراء العقوبات والأوضاع الاقتصادية، والتخلف في المشاريع الاقتصادية والإنمائية، وأن حصتهم محفوظة وصلاحيتهم واسعة في تحديد الشركاء الاقتصاديين لايران في المستقبل، خصوصاً في العلاقة مع روسيا الاتحادية والصين والدول التي وقفت إلى جانب إيران في أزماتها.
انطلاقاً من هذا المعطى التأسيسي، يمكن الدخول على الجدل القائم في الداخل الإيراني حول اتفاقية التعاون الاقتصادي والاستراتيجي بين إيران والصين، التي من المفترض في حال إقرارها أن تستمر لمدة 25 سنة المقبلة. وهذا الاتفاقية تدخل في إطار التخطيط الاستراتيجي للنظام الإيراني الذي بدأ بلورته قبل أكثر من ست عشرة سنة أواخر عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي، نتيجة لعودة التوتر في العلاقات الإيرانية – الغربية على خلفية تصاعد الخلاف حول البرنامج النووي الذي كشف عن وجوده السري عام 2002، وبعد تعطيل كل اتفاقيات التعاون الاقتصادي والتجاري بين إيران والعواصم الأوروبية، خصوصاً فرنسا وبريطانيا، التي عقدت اتفاقيات تجارية مع طهران بأكثر من 15 مليار دولار. واستمرت هذه التوجهات وهذه السياسات الاقتصادية في زمن الرئيس السابق محمود احمدي نجاد، من خلال اعتماد مبدأ اللجوء إلى دول الجنوب مقابل دول الشمال، وتحويلها إلى ملاذ آمن للاستثمارات الإيرانية وتوظيف عائدات النفط الكبيرة والانفجارية بعد أن تجاوز سعر برميل النفط المئة دولار عالمياً.
وقد لا يكون مستغرباً أن يكون الرئيس أحمدي نجاد أول الأطراف التي عمدت إلى الكشف عن هذه الاتفاقية، بحكم عضويته في مجمع “تشخيص مصلحة النظام” الذي يتيح له فرصة الاطلاع على المخططات الاستراتيجية والمفصلية التي تخص النظام ومشاريعه المستقبلية بكل نواحيها ومندرجاتها، وتوظيفها سلبياً لإحراج روحاني ورئيس إدارته الدبلوماسية وصولاً إلى المرشد الأعلى الذي يتحكم بالقرارات الاستراتيجية للنظام، نظراً للدور التخريبي الذي دأب على القيام به منذ تبلور الانفصال بينه وبين العصب الأساس للتيار المحافظ، خصوصاً بعد التصدي الحازم الذي قام به هذا التيار عبر المؤسسات الرقابية التي يسيطر عليها، وبدعم مباشر من المرشد الأعلى، والذي أدى إلى فرملة طموحات أحمدي نجاد وجماعته وفريقه في العودة إلى مركز القرار في السلطة التنفيذية عندما زج باثنين من أبرز المقربين منه (رحيم مشائي وحميد بقائي) في الانتخابات الرئاسية بمواجهة حسن روحاني في الدورة الرئاسية الأولى عام 2013، ثم فشله في الحصول على موافقة مجلس صيانة الدستور للعودة إلى السباق الرئاسي بمواجهة روحاني عام 2017.
وإذا كان النظام يمتلك المسوغات الاقتصادية والاستراتيجية وحتى الأخلاقية للدفاع عن هذه الاتفاقية مع الصين، بالعودة إلى المواقف التي اتخذتها بكين إلى جانب إيران، في مجلس الأمن الدولي، والاعتراض على الكثير من القرارات التي تدين طهران، بخاصة في الأزمة السورية، من دون إسقاط المصالح الخاصة للصين وراء هذه المواقف، الا أنها تبقى أقل ثمناً مما قد يتطلبه اتفاق مماثل مع موسكو، لعدم امتلاك الصين لمشروع عسكري وأمني توسعي لتثبيت نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، على حساب الدور والنفوذ الإيرانيين – المسألة السورية تعتبر المؤشر الأبرز على ذلك- في حين أن المشروع الصيني يقوم على بناء إمبراطورية اقتصادية بعيداً من الحروب والتمدد العسكري، وبناء شركات في دائرة وعمق الجغرافيا الاقتصادية التي تدخل في إطار مشروعها (حزام واحد – طريق واحد)، وتتولى هذه الدول مسؤولية الدفاع والحفاظ على هذه المصالح المشتركة.
في المقابل، لعل الأسباب التي تدفع التيار الإيراني الذي يقف بوجه هذه الاتفاقية، بخاصة أحمدي نجاد وكتلته النيابية، تعود إلى الرهانات على قدرته في تحقيق خرق على مسار التفاوض مع العواصم الغربية وتحديداً واشنطن، المتعثر، وأن لجوء النظام للتفتيش عن خيارات “شرقية” أو “دول الجنوب”، يضرب أي فرصة لهذه الجماعات التي تراهن على عودتها إلى السلطة، وقيادة عملية التفاوض والانفتاح، بما يؤسس لهيمنة طويلة الأمد على النظام ومراكز القرار فيه. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الاختلاف في الرؤية لدى هذا التيار والجهود التي بذلها التيار الإصلاحي لترميم العلاقات الإيرانية مع الغرب، تكمن في أن الراغبين في الانفتاح على الغرب داخل التيار المحافظ يسعون لتوظيف أي منجز في إطار معاركهم الداخلية، في حين سعى الإصلاحيون لإخراج إيران من مأزق العزلة الدولية ومحاولة إعادتها إلى دائرة الثقة الإقليمية والعالمية.
الحراك الداخلي الإيراني في شرح أبعاد وأهمية الاتفاق الاستراتيجي مع الصين، قد لا يقتصر على الجانب الرسمي الذي تمثله حكومة روحاني المسؤولة عن صياغة هذا الاتفاق والتوقيع عليه، بل ستدخل على الخط جهات تمثل المؤسسات الممسكة بمفاصل النظام، إن كان في “حرس الثورة الإسلامية” أو مراكز القرار الأخرى في مواجهة المعترضين والمشككين بهذا الاتفاق ومخاطره. ولعل الدفاع الذي قدمته الخارجية الإيرانية بشخص وزيرها محمد جواد ظريف أو مساعده للشؤون السياسية والاقتصادية أو المتحدث باسم الوزارة عن الاتفاق، يعتبر جهوداً تصب في إطار وضع الاتفاق في دائرة المصالح الاستراتيجية للنظام، التي تدخل ضمن صلاحيات المرشد الأعلى، وأن الدور الذي تقوم به حكومة روحاني لا يتعدى الدور التنفيذي لترجمة توجهات وسياسات القيادة الاستراتيجية.
رابط المصدر: