يمكن اعتبار التوقيع على الصيغة المعدلة لاتفاق جوبا للسلام 2020، تجديدًا للجدول الزمني وتأكيدًا على البنود السابقة، في ظل إعادة التوقيع بين المجلس العسكري والحركات الموقعة بالفعل على الاتفاق، بعدما تم تأجيل تنفيذ العديد من بنود الاتفاق خلال المدة المحددة، وذلك بالتزامن مع الخلاف حول إلغاء أو تعديل اتفاق السلام بين أعضاء قوى الحرية والتغيير في محاولة لعرقلة تنفيذ الاتفاق الإطاري الذي وقعته جبهة المجلس المركزي، ورفضهم التشاور مع الكتلة الديمقراطية في ورشة لم الشمل بالقاهرة التي احتضنت الحوار “السوداني – السوداني”، وانتهت بالتأكيد على تنفيذ اتفاق جوبا، فجاء الإعلان عن توقيع الصيغة المعدلة عقب مشاورات بين أعضاء المكون العسكري، والحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق، فما هي مآلات هذا التوقيع؟
سياقات التوقيع
بداية الاتفاق: تم توقيع اتفاق جوبا للسلام في 3 أكتوبر 2020 برعاية دولية وإقليمية وبوساطة جنوب السودان عقب 10 أشهر من المشاورات، ووقع على الاتفاق الحكومة السودانية ممثلة في مجلس السيادة الانتقالي عقب التوصل إلى الوثيقة الدستورية 2019، والحركات المسلحة في مناطق النزاعات في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ممثلة في “تحالف الجبهة الثورية، وهو حركة تضم خمس حركات مسلحة وأربع حركات سياسية، فيما غابت عن الاتفاق حركتا تحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو في جبال النوبة والأخرى بقيادة عبد الواحد نور في دارفور.
بنود الاتفاق: اشتمل الاتفاق على 8 برتوكولات خاصة بإقليم دارفور وآخر بمنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، بجانب شرق السودان ووسطه وشماله، وإعطاء الجبهة الثورية 3 مقاعد في المجلس السيادي و5 مقاعد وزارية وربع المجلس التشريعي بما يعادل 75 مقعدًا، والتحول إلى دولة فيدرالية وتقاسم الثروة والسلطة ونسب الحصول على المناصب القضائية والنيابية والحياة العامة، مع انتهاج نسب التمييز الإيجابي لولايات الجنوب لمدة عشر سنوات. وتضمن كذلك ضرورة إدراج اتفاقيات السلام في الوثيقة الدستورية الموقعة بين المكون المدني والمكون العسكري في 2019، وبالتالي حساب الفترة الانتقالية لمدة 39 شهرًا منذ تاريخ التوقيع على اتفاقية جوبا 3 أكتوبر 2020.
عرقلة التنفيذ: جاءت إجراءات 25 أكتوبر 2021 كما يطلق عليها المكون العسكري بمجلس السيادة الانتقالي والجبهة الثورية بمثابة معطل أساسي لتنفيذ الجدول الزمني، هذا بجانب تحديات مسار الشرق وعدم توقيع عدد من الحركات المهمة، بالإضافة إلى بند الترتيبات الأمنية في ظل عدم توفير الموارد المالية المتفق عليها، لتتعقد الخلافات بين المكون المدني المنقسم بين جبهة الحرية والتغيير المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية التي تضم أعضاءً من الجبهة الثورية الموقعة على الاتفاق، حتى تم توقيع الاتفاق الإطاري الذي نص على خروج المكون العسكري من المشهد السياسي وتأجيل مناقشة تنفيذ الاتفاق بوصفه من القضايا الخلافية لوقت لاحق.
فيما تمثل الخلاف حول اتفاق جوبا بين مراجعته أو إلغائه، وخاصةً من الحزب الشيوعي. وكان هناك رفض من الحركات المسلحة الموقعة للتعديل في بنود التنفيذ، مع تخوفها من التنافس السياسي لقوى الحرية والتغيير التي قد تعوق عملية التنفيذ عقب الاختلاف بين الطرفين من إجراءات 25 أكتوبر.
ورشة القاهرة والتمهيد للتوقيع: شهدت القاهرة ورشة لدعم “الحوار السوداني-السوداني” الذي ضم عددًا من الفرقاء وحضورًا دوليًا للوصول إلى صياغة توافقية للتسوية السياسية في السودان خلال الفترة من 2-7 فبراير الماضي، وكان من أهم نتائجها التأكيد على ضرورة تنفيذ اتفاق سلام جوبا، مع اعتماد مبدأي المسؤولية والمحاسبة في المستقبل؛ لتحقيق “سلام شامل في السودان” بالقضاء على مسببات النزاعات المسلحة، وتهيئة الظروف لإحداث السلام.
وذلك بالتزامن مع انعقاد مؤتمر الخرطوم في 3 فبراير الماضي، ووضع ما سُمّي خارطة طريق لاتفاق جوبا وشموليته بدعم من الآلية الثلاثية “الإيجاد والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي”، وبالتالي اتفاق الأطراف على استكمال اتفاق السلام الشامل للسودان. فيما دعت لجان المقاومة السودانية إلى تكوين “مجلس تشريعي ثوري” و”إلغاء منصب قائد الجيش ليكون رئيس الوزراء بديلًا عنه”، في ظل الدعوات لتولي رئيس مدني للجيش السوداني مع الدعم الغربي لهذا المقترح.
وسبقت عملية التوقيع استضافة العاصمة جوبا لاجتماعات ضمت وفودًا من السودان برئاسة الفريق أول ياسر العطا عضو مجلس السيادة ووزير الدفاع الفريق ياسين إبراهيم ياسين، والوساطة الجنوبية بقيادة توت قلواك المستشار الأمني لرئيس جنوب السودان، والدكتور ضيو مطوك مقرر اللجنة، والدول الضامنة للاتفاق؛ لمناقشة أبرز التحديات التي واجهت الاتفاق مع مراجعة الجداول الزمنية لجميع مسارات الاتفاق، مع التأكيد على عدم تعديل أي بنود مع إعادة أولوية تنفيذ البنود.
جدولة زمنية جديدة: يأتي التوقيع على “الصيغة المعدلة” بجدول زمني جديد قبل التوقيع على الإعلان السياسي الذي تدعمه الآلية الثلاثية كبارقة أمل في إنهاء النزاع حول القضايا السياسية الخمس المعلقة وفق ما وصفه نائب رئيس مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو “حميدتي” في عاصمة جنوب السودان جوبا يوم 19 فبراير 2023. ووقع على الوثيقة الفريق ركن شمس الدين كباشي نيابة عن الحكومة السودانية، وشملت الحركات المسلحة الموقعة على الصيغة الجديدة للاتفاق كلًا من: حركة العدل والمساواة برئاسة جبريل إبراهيم، وجيش تحرير السودان وممثلها منى أركو مناوي، ورئيس الجبهة الثورية الهادي إدريس، والعدالة ومؤتمر البجا المعارض، وذلك بحضور رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان ورئيس جنوب السودان سيلفا كير ميرديت.
وتضمنت الصيغة المعدلة عدة مجموعات مجدولة زمنيًا تمثلت في البنود التي تم تنفيذها، والمتعلقة بعدد المقاعد في مجلس السيادة والنسب الوزارية والمقاعد البرلمانية، بجانب ما وضعته ورشة تقييم اتفاق جوبا النسب المحددة بنحو 20% من المناصب القيادية والقضائية والدبلوماسية للجبهة الثورية كقرارات عاجلة يجب تنفيذها، هذا بجانب العمل على تنفيذ بند الترتيبات الأمنية، وأخيرًا توفير الموارد لإعادة إعمار المناطق التي عانت من ويلات الصراعات الأهلية، والتنمية في مسار الشرق، وهي القضايا العالقة التي عطلت تنفيذ الاتفاق مسبقًا.
فرص وتحديات تنفيذ الاتفاق
أعطت الصيغة المعدلة للاتفاق قبلة حياة جديدة لاتفاق جوبا من خلال إعطاء فرصة زمنية جديدة للبنود السابق الاتفاق عليها، مع تأكيد رئيس مجلس السيادة على الالتزام بتطبيق الصيغة المحدثة لاتفاق جوبا كمحفز لتنفيذ البنود، مع مناقشة بعض النقاط الخلافية والتي تناقشها القوى السودانية برعاية دولية لضمها ضمن الإعلان السياسي المزمع الإعلان عنه في أعقاب الاتفاق الإطاري الموقع في 5 ديسمبر 2022، كصيغة تنفيذية للقضايا الخمس الخلافية في ظل التأكيد على خروج المكون العسكري من العملية السياسية، وتمثلت أهم النقاط في:
– شمولية الاتفاقية: اتسمت الاتفاقية بكونها جزئية لعدم شموليتها لأهم الأطراف المسلحة وهما حركتي عبد الواحد نور وعبد العزيز الحلو، في ظل الاختلاف حول طرق التفاوض واعتبار الأول الاتفاق مجرد محاصصة سياسية لتوزيع السلطة بين المركز والحركات المسلحة، وتركيز الثاني على مبدأ فصل الدولة عن الدين والحكم الذاتي، هذا بجانب الاختلاف حول شخصية نائب رئيس مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو “حميدتي” وقوات الدعم السريع.
ولكن تُعد الصيغة المحدثة بمثابة دعوة جديدة لانضمام الأطراف غير الموقعة، وهو ما دعا إليه رئيس جنوب السودان سيلفا كير، في ظل استثمار الدعم الدولي لتنفيذ بنود الاتفاق والذي حضرته القائمة بأعمال بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) ستيفاني كوري؛ لتحقيق عملية سلام مستدامة.
ويمكن الرجوع إلى إعلان المبادئ في 28 مارس 2021 بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان وعبد العزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال والتي تخضع أراضي محررة تحت سيطرتها، والذي كان يُعد بمثابة خطوة إيجابية تمهيدًا للتوصل لسلام شامل في السودان، والعمل على استيعاب كافة المكونات العرقية والدينية من خلال العمل على إقامة دولة مدنية فيدرالية. وهو ما يؤكد عليه المكون العسكري الآن، وبالتالي فهي فرصة جديدة لإعادة إحياء تلك الاتفاقيات والعودة إلى استيعاب كافة الحركات المسلحة تحت قيادة جيش وطني موحد بعقيدة واحدة بعيدًا عن الاستقطاب العرقي والمناطقي.
– الترتيبات الأمنية: تأخذنا الخطوة السابقة إلى بند الترتيبات الأمنية والمتعلق ببند ضم الحركات المسلحة للجيش الوطني الموحد ورعاية اللاجئين والنازحين إثر النزاعات المسلحة، في ظل الضغط الدولي وبعض القوى المدنية على جعل منصب وزير الدفاع منصبًا سياسيًا. وقد تضمن الاتفاق في صورته الأولى تشكيل قوة مشتركة قوامها 20 ألف جندي لتوفير الأمن في دارفور خلال 3 أشهر من التوقيع، دون تحقيق الأمر؛ في ضوء عدم وجود خطة تدريبية نتيجة ضعف التمويل المتفق، عليه وعدم الانتهاء الكامل من تلك البرامج، واستمرار الخلافات والنزاعات الداخلية في إقليم دارفور على مدار الفترات السابقة.
لذا فيُعد التوقيع الجديد بمثابة بارقة أمل لحث المجتمع الدولي على توفير الاعتمادات المالية والمراقبة الأممية لتنفيذ بنود الاتفاق لضمان نزع السلاح من المكونات القبلية، وضم الحركات المسلحة للجيش الوطني في ظل ميراث عدم الثقة التاريخي، مع ضمان عدم حدوث اتفاق مع الحركة المسلحة الأقوى في دارفور.
– مسار الشرق: يمثل مسار الشرق المعضلة الأكبر والتهديد بقطع الطرق وقطع المنفذ البحري عبر ميناء بورتسودان عن العاصمة الخرطوم، والمطالبات المستمرة للمجلس الأعلى لنظارات البجا برئاسة محمد الأمين ترك الداعم لإجراءات 25 أكتوبر والعموديات المستقلة إلى إلغاء مسار الشرق، والتي قاطعت المؤتمر الأخير المنعقد في 13 فبراير الماضي برعاية أممية أفريقية، في ظل رفض سياسات الحكومة المركزية تجاه الإقليم، واعتبره تقسيمًا بين أبناء الإقليم، وذلك في ظل توقيع مؤتمر البجا المعارض على الاتفاقية المعدلة.
ويعمق الاختلاف الاتجاهات القبلية التي نقودها نظارات البجا والعموديات المستقلة، في ظل التأكيد على أقلية الحزبين الموقعين على الاتفاق، وهو ما أكده أسامة سعيد رئيس مؤتمر البجا، بحصولهم على 30% فقط من السلطة والثروة، بجانب أن المؤتمر به 400 عضو منهم 40% يمثلون الموقعين على الاتفاق الإطاري و60% من غيرهم. وهو ما يهدد تنفيذ الاتفاق في ظل الخلافات الداخلية، ورفض المؤتمرات المنعقدة داخليًا لامتصاص الخلافات في ظل الانحياز القبلي لمكون البداويت.
إلا أن حضور الناظر محمد الأمين ترك لاجتماعات القاهرة بمثابة خطوة نحو العمل على تنحية هذه الخلافات من خلال الدعوة إلى إقامة المؤتمرات لتوحيد الفرقاء في الشرق السوداني من خلال اللجان المكونة كنتاج للورشة، وهو ما يتطلب البدء في تنفيذه عقب الإعلان عن التوقيع على الاتفاقية بالصيغة المعدلة، خاصة أنها كانت من ضمن مخرجات القاهرة ومطالبة ترك بعدم التنازل عن وثيقة التوافق السياسي والوثيقة الوطنية الحاكمة للفترة الانتقالية كنتاج لورشة القاهرة، والتي تتضمن ورشًا تكميلية في الخرطوم لاختيار هياكل الحكم وفقًا للإعلان السياسي، والتأكيد على تنفيذ اتفاق جوبا للسلام، مع الوضع في الحسبان أهمية معالجة الأوضاع في شرق السودان وحلحلة المشاكل بواسطة منبر تفاوضي متفق عليه ومقبول لأهل الشرق.
سيناريوهات نجاح الصيغة المعدلة
– السيناريو الأول: يعتمد على شمولية الاتفاق بانضمام حركتي عبد العزيز الحلو ومحمد عبد الواحد نور إلى الاتفاق، مع إعادة إحياء اتفاق المبادئ بين عبد العزيز الحلو والبرهان الموقع في مارس 2021؛ لتحقيق سلام شامل يقوم على دمج الحركات المسلحة في الجيش الوطني بخطة زمنية محددة، وهو ما حققته الصيغة المحدثة للاتفاق، مع العمل على تنفيذ مسار الشرق بالعودة للمؤتمرات المحلية لإحداث نوع من التوافق مع المكون الأكبر، وذلك من خلال استثمار الزخم الدولي بحضور الاتفاق، والعمل على تلبية المجتمع الدولي لالتزاماته تجاه الدعم التمويلي ورعاية أطر التنفيذ.
– السيناريو الثاني: وهو الأسوأ في ظل التدخلات الدولية التي تحاول عرقلة عملية السلام للعمل على انقسام السودان الكبير، وتعميق الخلافات الداخلية العرقية، والتأكيد على مفهوم الحكم الذاتي للأقاليم الحدودية، مما سيدعم فكرة الانفصال. بجانب عدم الإشراف على نزاع السلاح ودمج الفصائل المسلحة، وبالتالي تعزيز النزاعات الأهلية واستمرارها، وعدم إضافة جديد من الصيغة المعدلة غير إطالة مدة التنفيذ، غير أنها لن تصل إلى حد إلغاء الاتفاق نظرًا للإعلان الدولي المستمر عن دعمه.
– السيناريو الثالث: وهو الأرجح ويتعلق ببقاء الوضع كما هو عليه، مع إعطاء جدول زمني كعامل جذب ونافذة أمل لتوسيع المشاركة ونبذ الخلافات حول القضايا الشائكة في ظل الانقسامات الداخلية حول عدد من المسارات، وعدم التوصل إلى اتفاق كامل حول الاتفاق الإطاري والإعلان السياسي، مع احتمالية التوصل لصيغ توافقية بالعودة لمخرجات القاهرة لإعادة تشكيل النظام الحاكم الحالي، والبدء في عقد المؤتمرات المشتركة مع احتمالية توسعة المشاركة المستقبلية، في ظل تيسير الألية الثلاثية والعودة للنظم الفيدرالية التي تتيح استغلال موارد الأقاليم مع مراعاة توزيعها توزيعًا عادلًا.
.
رابط المصدر: