طوني فرنسيس
انتهت المُهلة التي حددها أردوغان لنظام بشار الأسد ومعه فلاديمير بوتين وحسن روحاني، بالانسحاب إلى المواقع السابقة في محافظة إدلب السورية، ووقف الهجوم على أراضٍ، تسيطر عليها فصائل متحالفة مع تركيا.
لم يستجب أحدٌ لإنذار الرئيس التركي، وقوبل تقدّم قواته بردود قاتلة أوقعت عشرات الضحايا في صفوفها، واستدعت ردوداً منها طالت القوات السورية والإيرانية والرديفة، ظهرت نتائجها خصوصاً في الخسائر بالأرواح التي تكبّدها حزب الله اللبناني، وسارع الإيرانيون للإعلان عنها.
يحتاج الإيرانيون إلى حديثٍ آخر يشغل رعاياهم عن هول وباء كورونا، الذي أدّى إنكاره بداية، ثم إهمال متابعته والتصدي إليه إلى انتشاره في أوساط المجتمع كله، ما دفع بالناس إلى تظاهرات احتجاج مماثلة لحالات اعتراض سابقة، لا يُعرف مداها ومستقبلها، ويحتاج أتراك أردوغان إلى صياغة أخرى لورطتهم في إدلب تُقنع الشعب التركي الممتعض بصوابية خيارات رئيسه وحزبه الحاكم.
وفي الأساس جمعت المطامع الإقليمية الجانبين ضمن صيغة أستانا الروسية. لم يفهم أحدٌ كيف تلتقي تلك الأطراف الثلاثة على إدارة الوضع السوري رغم التناقضات في مواقفها من الأزمة السورية، فإيران انخرطت في الصراع دفاعاً عن المراقد الشيعية، هذا ما قالته في بداية الثورة السورية، وما لقنته لميليشياتها التي أرسلتها إلى بلاد الشام، وفي وقت لاحق بات الدفاع عن المراقد دفاعاً عن النظام، وتحالفاً معه ضد الاٍرهاب.
في المقابل، دخلت تركيا الصراع بوصفها مدافعاً عن الشعب السوري في وجه جلاديه، ألحت على مطلب رحيل الأسد ولا تزال، وسعت إلى “أسلمة” و”تتريك” المعارضة السورية قاداها إلى تسهيل حركة “داعش”، وشتّى التنظيمات الإرهابية التي حُصرت اليوم في منطقة إدلب التي تعتبرها تركيا مدماكاً في أمنها القومي.
اللقاء التركي الإيراني الروسي في إطار أستانا يمكن تصنيفه في خانة الانتهازية الكاملة الدسم، هنا نجد مداورة صديق الأسد وعدوه، الوسيط والنقيض، الشريف واللص.
في هذا الثلاثي يعرفون تماماً ما يريدون، فلقاؤهم قام لنسف مسار جنيف برعاية الأمم المتحدة، وهو لم يستمر إلا بسبب الانكفاء الغربي والأميركي عن المسألة السورية، ما جعل الشعب السوري ضحية في أسوأ مآسي القرن الواحد والعشرين.
صحيح، أنّ الثلاثة يعلنون تمسّكهم بوحدة الأراضي السورية، لكن سياق ممارساتهم يقود إلى غير ذلك تماماً، ما يهمّ إيران توضحه تصريحات “ثورييها” عن السيطرة على العواصم العربية، وما تريده تركيا مكشوف، وهو السيطرة الفعلية على كامل الشريط الحدودي مع سوريا، ولم تخفِ روسيا يوماً رغبتها في البقاء طويلاً على ساحل روسيا وفي جوفها الغني.
بديهي، أن لا يقدم ائتلاف من هذا النوع أي خدمةٍ مفيدة للسوريين، وأن يصبح المخرج الوحيد أمامه مواصلة القتال في إدلب نقطة الصراع الأخيرة والحاسمة، من دون أي اعتبار للجوانب الإنسانية والكوارث الإضافية التي ستلحق بسكّان المحافظة وملايين اللاجئين إليها، فلدى الهجوم الذي بدأه النظام وحلفاؤه، لم يؤخذ وضع المدنيين في الاعتبار، ولوحظ أنّ المدن والقرى المحررة ليس فيها إلا الخراب، وقد تركها أهلها إلى أماكن أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يسأل الروسي ولا الإيراني ولا النظام عنهم، أمّا أردوغان فوقف كقاطع الطرق مهدداً أوروبا باللاجئين بعد أن قبض ثمنهم مسبقاً، ووصلت به الصفاقة أن فتح البر والبحر أمام تهريبهم ورميهم على الحدود اليونانية (الأوروبية)، رافعاً المراقبة عن زوارق التهريب، وواضعاً باصات مجانية تقل السوريين الراغبين في اللجوء إلى أوروبا، من وسط إسطنبول إلى الحدود الغربية في أدرنة!
طلب أردوغان من الرئيس الروسي بوتين أن يترك له أمر تلقين بشار الأسد “درساً”، وذهب مستشار له إلى حد تهديد روسيا بحرب ستحمل الرقم 17 بين تركيا وروسيا، أو على الأصح بين السلطنة العثمانية والإمبراطورية الروسية!
ولم تتأخر روسيا في الرد، “أردوغان ليست له صلاحية أو حق في تحديد مصير سوريا. فلا السلطات السورية ولا الأمم المتحدة أعطته هذا الحق”، على قول ديمتري نوفيكوف رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الدوما الروسي.
وترجمة لهذا الموقف أجرى وفد روسي مباحثات ليومين في أنقرة انتهت إلى تكرار دعوات التهدئة في إدلب من دون اتفاق واضح على وقف إطلاق النار.
لم يُهدِ بوتين أردوغان موعداً في الخامس من مارس (آذار) الحالي، كان الرئيس التركي المحاصر في إدلب يريد موعداً قبيل انتهاء مهلة نهاية فبراير (شباط)، لم ينفذ تهديداته الحربية مع انتهاء فبراير، ولم يحصل على موعد الخامس من مارس. أبلغه الروس أن لا ضرورة لاجتماع رباعي يضم إليهما ألمانيا وفرنسا، ثم مع أفول فبراير ألمحوا إليه بإمكانية لقاء مع بوتين في الخامس أو السادس من مارس.
إيران المحاصرة بكورونا، وسياستها الاستكبارية في التعامل معها، وجدت في إدلب مخرجاً لتقول إنها حاضرة بقوة على المسرحين الإقليمي والدولي، ولن تؤثر فيها الأزمات الداخلية المتراكمة.
اتصل روحاني بأردوغان عارضاً عقد لقاء ثلاثي، يضم حكومتيهما إلى جانب ممثلي الأسد، واتصل أيضاً بوتين ليحدّثه عن ضرورة التمسّك باتفاقات أستانا!
لم يوضح الإعلام الروسي ما إذا كان روحاني تشاور مع بوتين في اقتراح الاجتماع الثلاثي من دون روسيا، إلا أنّ هذا الإعلام حرص على نقل الاقتراح عن وسائل إعلام إيرانية.
واضحٌ أن إيران تحاول أن تلعب دوراً مستقلاً، يخرجها إعلامياً من دوامة كورونا، ومن ضربة كبيرة تلقتها ميليشياتها في إدلب على يد الأتراك، وامتدت آثار هذه الضربة إلى لبنان، إذ فقد حزب الله عشرات القتلى والجرحى في قصف يوم الجمعة الماضي، وتحتاج إيران إلى هذا الدور أكثر من أي وقت مضى، رغم معرفتها المسبقة أنّ اللعبة الراهنة تُقاد من جانب موسكو حتى إشعار آخر، على الجبهات التركية والإيرانية والسورية.
لن تتضح صورة الصراع في إدلب، وعليها قبل لقاء بوتين أردوغان المفترض بعد أيّام قليلة، وإذا كان يصح طرح السؤال عن مستقبل إيران بعد كارثة كورونا، فإنّ السؤال نفسه يطرح عن مستقبل أردوغان بعد إدلب، ولن يطول الأمر في انتظار معرفة الجواب.
رابط المصدر: