هيثم حسنين
أثار موقف موسكو غير الودي تجاه القاهرة بشأن “سد النهضة” مخاوف في مصر من أن تنظر روسيا إلى الموضوع باعتباره من المسلّمات، مما دفع البعض في دوائر السياسة المصرية إلى الشك في أن روسيا ستطالب بالمزيد من التنازلات قبل أن تعرض دعمها الكامل في الأمم المتحدة. وقد بدأت القاهرة تدرك حدود شركائها، إلّا أن الحكومتان ستواصلان التعاون بشأن القضايا الساخنة مثل شراء الأسلحة.
في 5 آب/أغسطس، ظهر السفير الروسي في مصر جيورجي بوريسينكو على قناة “تن” المصرية للرد على الحملات الإعلامية المحلية ضد بلاده. ونبع الكثير من الانتقادات من موقف موسكو غير الودي تجاه القاهرة خلال مداولات مجلس الأمن في الشهر الماضي بشأن “سد النهضة الإثيوبي الكبير” (“سد النهضة”). وإزاء أقوى التوترات في العلاقات الثنائية التي شوهدت منذ سنوات، شدد بوريسينكو على أربع نقاط، هي:
- أن روسيا ستنتهج سياسة متوازنة بشأن “سد النهضة” وستتوسط في الخلافات بين حلفائها في القاهرة وأديس أبابا إذا طُلب منها ذلك.
- أنّ موسكو تقدّر جداً تعاونها العسكري مع مصر لكنها قلقة من مشاركة البلاد في مناورة عسكرية في منطقة البحر الأسود إلى جانب الولايات المتحدة وأوكرانيا في حزيران/يونيو.
- أنّ روسيا لا تزال تعتبر “منتدى غاز شرق المتوسط” الذي تستضيفه مصر منافساً لها في مجال الطاقة، لكنها ستنظر في الانضمام إليه بصفة مراقب.
- أن الإعلام التابع لجماعة «الإخوان المسلمين» “الإرهابية”، ومقره في لندن، مسؤول عن نشر إشاعات كاذبة عن توتر العلاقات الثنائية.
وقد ظهرت التوترات للمرة الأولى في 8 تموز/يوليو، عندما أخبر ممثل روسيا في الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا مجلس الأمن أن الوسائل الدبلوماسية هي الحل الوحيد لمعالجة النزاعات المحيطة بـ “سد النهضة”، وأنه “يجب تجنب التصريحات حول استخدام القوة ومنعها”. وقد فسّرت القاهرة هذا التصريح بشكل سلبي لأنه تحدى بشكل مباشر تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي كان يلمّح منذ شهور أن المواجهة العسكرية ممكنة. وازداد الوضع حدة في 12 تموز/يوليو، عندما وقعت موسكو وأديس أبابا اتفاقية عسكرية في اليوم نفسه الذي أرسلت فيه مصر وزير خارجيتها إلى بروكسل للقاء مسؤولي “الناتو”.
وتنبع توقعات القاهرة من الدعم الروسي الكامل بشأن نزاع “سد النهضة” من توافقها المتصوَّر مع العديد من الأهداف الروسية في الشرق الأوسط. فقد وقف المسؤولون المصريون إلى جانب موسكو في المحافل الدولية، واتخذوا مواقف معادية للمنظمات غير الحكومية على النمط الغربي، ودعموا نظام الأسد في سوريا، وتسامحوا مع وجود “مرتزقة فاغنر” الروس في ليبيا، واتخذوا موقفاً عدائياً ضد الإسلاميين السياسيين، وزادوا مشترياتهم من الأسلحة الروسية إلى مستويات لم تُشهد منذ الستينيات. كما سمحت القاهرة لروسيا بفتح قنصلية في مدينة الغردقة المطلة على البحر الأحمر في عام 2016. وفي الآونة الأخيرة، تحاول مصر جذب الاستثمارات الروسية إلى المشاريع الاقتصادية حول قناة السويس.
لكن موقف موسكو بشأن “سد النهضة” أثار مخاوف القاهرة من أن تنظر روسيا إلى الموضوع باعتباره من المسلّمات على الرغم من كل ما سبق، مما دفع البعض في دوائر السياسة المصرية إلى الشك في أن روسيا ستطالب بالمزيد من التنازلات قبل أن تعرض دعمها الكامل في الأمم المتحدة. ويبدو أن فريق السيسي لا يريد تحمّل المزيد من التنازلات – أو غير قادر على تقديمها في بعض الحالات. وتكهن مقال صدر في 10 تموز/يوليو عن “مركز الدراسات العربية الأوراسية” بأن موسكو قد لا تأخذ شكاوى القاهرة أو طموحاتها على محمل الجد لأنها تعتقد أن النفوذ الإقليمي للبلاد غير قائم – كما هو موضح، على سبيل المثال، عندما لم يسمح المسؤولون المصريون بإعادة قبول سوريا في الجامعة العربية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو إلى أي مدى يؤثر عدم الاحترام (إذا كان حقيقياً) على السياسة الروسية تجاه القاهرة.
ومهما كان الأمر، تفاعل العديد من المفكرين الموالين للحكومة في مصر مع هذا الانقطاع الثنائي عبر كتابة مقالات ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي جادلوا فيها بأن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي من الستينيات، وبالتالي على القاهرة أن تحافظ على علاقتها مع الولايات المتحدة كشريك إضافي. وفي مقالة بعنوان “الذين خذلونا في مجلس الأمن”، أعرب النائب الناصري عماد الدين حسين – رئيس تحرير جريدة الشروق – عن تقديره لتعاطف واشنطن “غير المتوقع” في النزاع بشأن “سد النهضة”. وشكك في موقف روسيا والصين. وذهب المحلل السياسي عماد جاد إلى أبعد من ذلك، حيث كتب على موقع “فيسبوك” بأن على القاهرة إلغاء اتفاقها مع موسكو لإنشاء محطة المفاعلات النووية في الضبعة، وتوقيع اتفاق جديد مع واشنطن من أجل الحصول على دعمٍ أكبر في القضايا التي تتعلق بالسد. وبالمثل، أشار الباحث السياسي عمرو الشوبكي إلى المواقف الداعمة نسبياً لـ “سد النهضة” التي اتخذتها الولايات المتحدة وأوروبا، بحجة أن أولئك الذين يدْعون إلى تحالف مع روسيا والصين يفعلون ذلك لأن تلك الحكومات لا تضغط من أجل الديمقراطية أو حقوق الإنسان.
التداعيات السياسية
على المدى القريب، من المرجح أن يستمر التوتر في العلاقات المصرية الروسية بشأن “سد النهضة”. ومن المفترض أن تستمر روسيا في التودد إلى إثيوبيا على أمل الحصول على موطئ قدمٍ لها في القرن الأفريقي، الأمر الذي من غير المرجح أن يرضي القاهرة. ومع ذلك، من المحتمل أن يستمر تعاونهما في مشروع الضبعة النووي وإنتاج لقاح لـ “كوفيد-19”. وفي المقابل، فإن الأهم بالنسبة للسياسة الأمريكية هو أن المعسكر المصري، الذي لطالما أضفى الطابع الرومانسي على الدعم السوفياتي لمصر في الستينايت، يواجه اليوم رد فعل عكسي. فقد دفعت الأحداث الأخيرة العديد من المراقبين إلى رؤية روسيا اليوم على حقيقتها: دولة متخلفة تقنياً، وتعاني من ضائقة مالية، وترزح تحت عقوبات غربية شديدة.
ولكن على الرغم من هذا التعزيز الذي كسبته مكانة أمريكا في القاهرة، على واشنطن أن لا تدع نفسها تنجرّ إلى منافسة محتدمة لصالح مصر. فالقاهرة تحب استغلال حروب المزايدة بين القوى العظمى لانتزاع التنازلات من كلا الجانبين. وفي النهاية، ستواصل القاهرة شراء الأسلحة الروسية لتقليل اعتمادها على واشنطن، وسيبقى موقف موسكو المتساهل بشأن حقوق الإنسان نقطةً إيجابية بالنسبة لحكومة السيسي.
.
رابط المصدر: