كريم أسعد وآخرون
لسنوات طويلة صال وجال الجنرال الإيراني قاسم سليماني في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. أسس لطهران شبكة واسعة ومعقدة من النفوذ امتدت من أفغانستان وباكستان شرقًا إلى سوريا والعراق ولبنان غربًا واليمن جنوبًا. انتهت هذه الرحلة اليوم بصواريخ من طائرة أمريكية بدون طيار أصابت سيارة كان تقل سليماني ومسؤولين بالحشد الشعبي العراقي في بغداد، فقضى نحبه على الفور.
قُتل سليماني نعم، لكن البصمة الطائفية الدموية التي تركها في الشرق الأوسط لن تُمحى بقتله، بل ربما تتوسع. هذه أهم محطات رحلته، والسيناريوهات المتوقعة لمآلات عملية اغتياله.
قاسم في الحروب الأولى للجمهورية الإسلامية
وُلد سليماني في قرية جبلية فقيرة بمحافظة كرمان عام 1957. بدأ مسيرته العسكرية في بداية الثورة الإسلامية عام 1979 التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي وأسست لدولة رجال الدين برعاية آية الله الخميني. يُعتقد أن أول مشاركة عسكرية لقاسم كانت في عملية سحق تمرد الجماعات الكردية المسلحة في مهاباد، شمال غرب إيران. وعلى الرغم من أنه لم يكن له دور قيادي بارز في هذه العمليات، فإنه حصل على خبرة ميدانية قيمة في الحرب غير النظامية ساعدته بعد ذلك في تسلق سلم قيادة الحرس الثوري.
شارك سليماني في الحرب مع العراق فور اندلاعها عام 1980، حيث عمل كقائد لمجموعة عسكرية جمع أفرادها من مسقط رأسه كرمان ودربهم بشكل شخصي، وأبدى شجاعة استثنائية خاصة خلال العمليات الهامة كعملية الفتح المبين التي أصيب فيها. سرعان ما ارتفعت أسهم قاسم بسبب دوره في العمليات الناجحة لاستعادة الأراضي التي احتلها الجيش العراقي في محافظة خوزستان، ما أهَّله لتولي قيادة الفرقة «ثار الله 41».
شارك سليماني في معظم العمليات العسكرية التي وقعت على مدى ثماني سنوات من الحرب الإيرانية العراقية، كما كان له يد في قيادة وتنظيم مختلف مهام الحرب غير النظامية في عمق العراق التي يقوم بها مقر رمضان (فرقة أسستها إيران لتنفيذ عمليات في عمق الأراضي العراقية خلال فترة الحرب، وجمع المعلومات الاستخباراتية. وهي مدمجة حاليًّا بقوات الحرس الثوري تحت اسم «الفيلق الأول لقوة القدس»).
أقام قاسم، في هذه المرحلة، علاقات مع الزعماء الأكراد العراقيين المعارضين للرئيس صدام حسين، ومع منظمة بدر المؤلفة من عراقيين يقاتلون إلى جانب الإيرانيين ضد نظام صدام. ولعب بعد ذلك دورًا في تخطيط وإدارة العمليات العسكرية لقوات بدر في الانتفاضة الشيعية ضد صدام في بداية حرب الخليج عام 1991.
بعد سحق صدام للانتفاضة الشيعية في أوائل التسعينيات، أُرسلت الفرقة 41 بقيادة سليماني إلى شرق إيران للقضاء على عصابات تهريب المخدرات التي سيطرت على مساحات شاسعة من الصحراء في مقاطعات كرمان وسيستان وبلوشستان وخراسان.
إلى جانب مكافحة عصابات المخدرات، قام سليماني بمساعدة المتمردين الأفغان الذين كانوا يواجهون نظام طالبان، الذي كانت تعاديه إيران بسبب اضطهاده للشيعة.
سليماني يشكل ذراعًا الخارجية
لم يحصل سليماني على تعليم جامعي أو عسكري، لكن قيادة القوات في الحرب غير النظامية والقتال في الصحراء وفرت له ما يكفي من الخبرة والسمعة حتى تسند له القيادة الإيرانية عام 1998 مهمة قيادة فيلق القدس؛ ذراع طهران المسؤولة عن العمليات العسكرية الخارجية.
في يوليو / تموز 1999، في ذروة الاحتجاجات الطلابية، وقَّع سليماني مع قادة الحرس الثوري الآخرين، رسالة تحذر الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي من أنه إذا لم يقمع التمرد، فربما يطيحون به. «لقد نفد صبرنا»، هكذا كتب قاسم وزملاؤه.
عزز سليماني علاقات إيران مع حزب الله اللبناني، وأرسل عناصر من قوة القدس إلى لبنان للمساعدة في تقديم التدريب والمشورة والتخطيط للعمليات التي يشنها حزب الله ضد إسرائيل في جنوب لبنان، ما ساهم في النهاية في انسحاب الاحتلال من لبنان عام 2000. كذلك شارك قاسم حزب الله في التخطيط لمواجهة العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006.
عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، شارك فريق من الدبلوماسيين الإيرانيين، يعملون تحت إشراف سليماني، في التنسيق مع الولايات المتحدة، بهدف التعاون لتدمير طالبان. كما شارك سليماني، عبر وكلائه في العراق، في ترتيب الأوضاع عقب الغزو الأمريكي عام 2003.
ساهم قاسم سليماني في تأسيس وتنمية قدرات عدد من الميليشيات الشيعية في العراق ليستطيع فرض كلمة إيران على الأرض. من بين هذه الميليشيات فيلق بدر وجيش المهدي وعصائب أهل الحق. في أحيان كثيرة، قاتلت هذه الميليشيات القوات الأمريكية وأثارت الفوضى في العراق بأمر من سليماني، وتوقفت عن القتال والفوضى بأمر منه أيضًا. كما كان له علاقات قوية جدًّا مع أكراد العراق الذين دعمهم سابقًا في حربهم مع صدام حسين.
أنشطة قائد قوة القدس في العراق شملت الشؤون السياسية أيضًا؛ كان من النادر أن يشارك كيان سني أو شيعي في الحكومة العراقية دون تفاهم أو علاقة مباشرة أو غير مباشرة مع سليماني. كما شملت علاقاته وعملياته التنسيقية فصائل اجتماعية نشطة، من الديني إلى وسائل الإعلام إلى منظمات المجتمع المدني التي تمثل مختلف التوجهات في العراق.
سليماني في معارك سوريا والعراق
عقب اندلاع الحرب الأهلية السورية عام 2011، استدعى سليماني كل الأصول التي بناها منذ أن سيطر على قوة القدس لإنقاذ نظام بشار الأسد، الموالي لإيران، معتبرًا أن «سوريا هي خط الدفاع الأول للمقاومة». أحضر سليماني إلى سوريا مقاتلي حزب الله اللبناني، وميليشيات شيعية من العراق وأفغانستان وباكستان، وجميع الأموال والأسلحة والمواد التي استطاع أن يحصل عليها من قيادته في طهران.
ساهم قائد فيلق القدس بشكل حاسم في بقاء نظام الأسد على دماء مئات الآلاف من السوريين، ونجح في استعادة الكثير من المناطق التي فقدها الأسد، مثل القصير وحلب والبوكمال، حيث كان يدير المعارك على الأرض في بعض الأحيان.
وشارك سليماني أيضًا في هزيمة داعش في العراق، حيث ظهر في عمليات تحرير الموصل بين الجنود، فيما أعلنت ميليشيات الحشد الشعبي أن قاسم شارك في قيادة العمليات ضد داعش بطلب رسمي من حكومة بغداد.
سياقات عملية الاغتيال
المعلومات التي تحصلت عليها إدارة أوباما عن تحركات فيلق القدس في سوريا، لم تدفع بإدارة أوباما لمحاولة استهدافهم، وذلك في إطار خطة إعادة الانتشار التي نفذتها إدارة أوباما بعد انسحابها من العراق 2011.
منذ احتلال العراق قضت المصالح المشتركة أن تدفع بالتعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية والشيعة في العراق، بنظام المحاصصة وتوازنات عدة، بدأت بمشاركة فيلق بدر الشيعي بقيادة محمد باقر الحكيم. مقتدى الصدر الذي أسس جيش المهدي، والذي عادى القوات الأمريكية، في هذه الأثناء حملت بعض العشائر والسلفية الجهادية لواء الثورة ضد المحتل الأمريكي.
فكانت استراتيجية الولايات المتحدة بإنشاء الصحوات لتفكيك التجمع الجهوي، واستئناف الصراع الطائفي، الذي جرت عليه محاصصة توزيع السلطات السياسية في البلاد، جيش المهدي توقف عن استهدافه للقوات الأمريكية، وفيلق بدر أمعن في اغتيال العلمانيين وكذلك طأفنة الحالة العراقية، كل ذلك بمتابعة مباشر من سليماني.
بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق عام 2011م، قضت التفاهمات بالحكم لإيران، والنفط للأمريكان ولا مانع من بعض التدخلات. اكتشفت الولايات المتحدة الأمريكية بعد سنوات أن اليد الطولى أصبحت لإيران، ووجوب إعادة بعض القوات إلى هناك، مع الثورة السورية وظهور تنظيم الدولة الإسلامية، أعادت الولايات المتحدة قوات إلى العراق.
أصبح أحد أهداف إيران هو إخراج الأمريكان من العراق، وذهبت للتحالف معها لقتال تنظيم الدولة، وذلك عبر الميليشيات التي يدعمها سليماني، التي شاركت في عمليات الموصل، وأُنشئت على إثر ذلك قوات الحشد الشعبي الطائفية، باعتبار أن تنظيم الدولة سني في كل الأحوال.
وفي العامين الماضيين نجح التحالف الدولي لمواجهة تنظيم الدولة في تفكيكه، وإضعافه محليًّا ودوليًّا، وانتهى الأمر باغتيال أبي بكر البغدادي العام الماضي، هنا بدأت لعبة التوازنات من جديد، ما كان يرجوه الإيرانيون من قبل أصبح هذا موعده.
على صعيد آخر في مايو/ آيار الماضي فرضت إدارة ترامب على إيران عقوبات هي الأقسى، حظرت تصدير نفطها، والذي تبعه أزمات اقتصادية وأخرى اجتماعية داخلية. ردت إيران بالتصعيد في مضيق هرمز وفي الداخل السعودي، أمريكا تشترط عليها أن تأتي للمفاوضات دون شروط، تأبى إيران أن تذهب إليها دون رفع للعقوبات ولو جزئي.
عبر أذرعها الأخطبوطية استهدف الحشد الشعبي السفارة الأمريكية في يونيو/حزيران، ثم استهدف الحشد أرامكو، أصبحت صحيفة الحشد عند الولايات المتحدة متخمة. قام الحشد بمحاولة اغتيال مقتدى الصدر منذ أسابيع، بسبب دعمه وتحريكه للمظاهرات، مما استدعى مفاوضات بينه وبين أبي مهدي الذي قتل اليوم مع قاسمي.
هدف إيران رفع العقوبات، وانسحاب أمريكا من العراق، فبعد اغتيال البغدادي تصاعد الصدام متزامنًا مع فرض العقوبات، فبعد محاولة استهداف السفارة الأمريكية ببغداد، استهدف الحشد قاعدة أمريكية في كركوك الأسبوع الماضي قُتل فيها أحد الجنود، حلقت طائرات أمريكية بعدها وقامت بضرب قوات من الحشد.
تبعتها محاولات اقتحام السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، بعد حماية دبلوماسييها قامت الولايات المتحدة باغتيال سليماني وعدد من الضباط على رأسهم أبو مهدي، منسق الحشد الشعبي. ليأتي في ظل الصراع على العراق بين أمريكا وإيران.
السيناريوهات المتوقعة؟
ارتفع سعر برميل البترول 4% بعد تأكد خبر مقتل سليماني، اغتيال سليماني حدث جلل، يستدعي شبح الحرب السيئة، فذلك الاغتيال لن يمر سريعًا، بل يتأسس عليه الكثير، فما السيناريوهات الأكثر احتمالًا، هل حرب مباشرة أم محدودة على جبهات معينة؟
العراق: هو الخاسر الأكبر، ستنتهي أحداث الثورة لصالح الحرب، سيدخل العراق في دوامة الحرب الأهلية التي أُجلت كثيرًا، انتهى عراق التوازنات بين الولايات المتحدة وإيران، واستُبدل به حرب مفتوحة بين الجبهتين، الحشد الشعبي (الإيراني) وجيش المهدي الذي أعاد الصدر تأسيسه اليوم، وهو المنحاز للثورة، يتحدان ضد عدوهما الأمريكي.
عملية اغتيال سليماني تعني احترابًا في العراق، أمريكا وبدعم سخي خليجي ستدفع لاحتراب أهلي بين أتباع المعسكرين، الحشد في مواجهة الأكراد المدعومين أمريكيًّا. إيران ستحاول طرد الأمريكان من كركوك واستهداف منشآت النفط، حتى يتم الإضرار بمصلحة الولايات المتحدة، وبالتالي فاستجابة أمريكا ستكون حاسمة في ذلك الملف.
سوريا: منذ فترة والخلافات في المعسكر الروسي والإيراني تتصاعد، بل إن استهداف لواء «فاطميون» بسوريا وبعض الميليشيات الإيرانية من قبل إسرائيل جرى بتنسيق روسي، ما يحدث اليوم سيكون في صالح الروس، وستستمر عملية تحجيم دور الميليشيات الإيرانية، في المقابل ستستفيد تركيا من انشغال الأكراد في حربهم مع الحشد إن وقعت.
اليمن: الهدنة مع السعودية، والتي أمَّنت عملية التفاوض أصبحت في مهب الريح، وقد يقوم الحوثي باستهداف بعض المصالح الأمريكية في السعودية. أيدت المملكة منذ اللحظة الأولى الثورة العراقية ودعمتها إعلاميًّا، وتمول أي عمليات كانت تستهدف الحشد، لذا فإن من المنطقي استهدافها.
البحرين والكويت: ربما هي أكثر المناطق هشاشة وعرضة لتنفيذ عمليات ضد المصالح الأمريكية، إلا أن التصعيد في كليهما يعتبر خيارًا أخيرًا لإيران، لأن ذلك يعني بالضرورة حربًا مباشرة مع الولايات المتحدة، وهذا الخيار ربما مستبعد، إلا أن الولايات المتحدة قامت بإرسال قوات إلى الكويت اليوم الجمعة تحسبًا لأي هجمات.
لبنان: ربما هناك خيار عند حزب الله في لبنان وحماس في غزة، للانتقام بقصف إسرائيل، خصوصًا مع فائدته للحالة اللبنانية لوأد الثورة في الداخل، إلا أن ذلك الخيار قد يكون مستبعدًا في الوقت الحالي، وعمليًّا التوسع فيه يعني دفع إيران المنطقة نحو الحرب المباشرة، والتي ما زال الجميع متحفظً حيالها لكنها واقعية.
في النهاية حادثة الاغتيال تعني التصعيد ضد السعودية، وأد الثورة العراقية، حرب مفتوحة بين الوكلاء للولايات المتحدة وإيران في العراق، دخول ميليشيات الأكراد الحرب، زيادة النفوذ الروسي على حساب الإيراني في سوريا، وانهيار المفاوضات الحوثية السعودية، وتهديد أمن الكويت والبحرين، وصولًا لانهيار ملف المصالحة مع قطر، وانتخاب ترامب لفترة رئاسية جديدة، أما خيار الحرب المباشرة فهو مستبعد حاليًّا، ربما لاحقًا.
رابط المصدر: