بدأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مطلع الشهر الجاري جولة أفريقية تشمل أربعة بلدان هي الجابون والكونغو الديمقراطية والكونغو برازافيل وأنجولا؛ لبحث موطئ قدم جديد في ظل تصاعد التنافس الصيني الروسي، مع إعلان الاستراتيجية الفرنسية حول تخفيض الوجود العسكري في القارة. وبالرغم من طبيعة الزيارة المتعلقة بالتغيرات المناخية والحفاظ على الغابات الاستوائية في بحيرة الكونغو، فإنها لا تخلُ من الطابع السياسي، هذا بجانب محاولة إيجاد التوازن في الشمال الأفريقي مع الجزائر والمغرب. فكيف تعمل فرنسا على استعادة العلاقات والشراكة مع فرنسا؟
الاستراتيجية الفرنسية تجاه أفريقيا
تحاول باريس العمل على استعادة الحضور عبر ما تسميه الشراكة بدلًا من النفوذ الاستعماري، عبر إعلان الرئيس الفرنسي من قصر الإليزيه عن استراتيجية فرنسية جديدة تقوم على تقليص الوجود العسكري في القارة الأفريقية، من خلال التأكيد على الشراكة بدلًا من النفوذ الفرنسي في البلاد؛ في محاولة لاستعادة الود الأفريقي في ظل التنافس الروسي الصيني، مع تأكيدها على مواجهة الإرهاب من خلال التدريب وتأسيس أكاديمية عسكرية بدلًا من القواعد التي سيعاد تنظيمها دون غلقها. وينظر إلى هذه الاستراتيجية بوصفها تكرارًا لخطاب ماكرون في العاصمة البوركينية وجادودجو عام 2017 عبر تقليص قوات البرخان.
وعلى الرغم من هذا التراجع الذي قد واجه انتقادًا مسبقًا من الدول الأفريقية كما حدث مع مالي وجعل باماكو تتجه نحو روسيا؛ فإن فرنسا واجهت تراجعًا لنفوذها شعبيًا مع رفع الأعلام الروسية ورفض التدخل الفرنسي في شؤونها في ظل العدائية ضد الاستعمار، بجانب أن هذا الأمر يقتصر على الجانب العسكري الذي كثيرًا ما يواجه انتقادات بوصفه خطابًا شعبويًا واقتصاديًا للتوفير في الموازنة الفرنسية دون أخذ الحاجة الأفريقية في الحسبان.
فاشتملت الاستراتيجية على إنهاء الوجود العسكري في “كوت ديفوار، والسنغال، والجابون”، بالرغم من الإعلان المسبق خلال زيارة وزير الدفاع الفرنسي “سيبستيان لوكورنو” إلى كوت ديفوار عن تعزيز الوجود العسكري الفرنسي بها، وتصريحات وزير الدفاع الإيفواري “تيني براهيما واتارا” حول طلب الحفاظ على القاعدة العسكرية الفرنسية وبها ما يقرب من 900 جندي فرنسي والتعاون العسكري بين البلدين. أما عن فلسفة الاستراتيجية الجديدة بإعادة الانتشار في دول خليج غينيا، فإنها تأتي في ظل تقارير أمريكية حول قيام الصين بعمل قاعدة عسكرية بها.
وجاءت هذه الاستراتيجية كذلك بعد أيام من قيام بوركينا فاسو بطرد القوات الفرنسية وإنهاء الاتفاق العسكري مع فرنسا الموقع في ديسمبر 2018، في ظل القيادة الجديدة والنظام السياسي والشعبي الرافض لفرنسا، في ظل وجود البديل الروسي. علاوة على سلسلة من الانسحابات الاضطرارية ورفض الوجود الفرنسي كما هو الحال في مالي بطلب من الحكومة على خلفية التعاون مع جماعة فاجنر الروسية، هذا في الوقت الذي أقرت فرنسا فيه زيادة وجودها في النيجر على خلفية هذا التراجع العسكري.
وجاءت الاستراتيجية الجديدة لتعلن عن تقليص الوجود في “النيجر وتشاد” أيضًا، إلا أن الحليف التشادي السابق قد أعلن على لسان وزير خارجيته محمد صالح العنادف “عن حاجة تشاد إلى مساعدة روسيا في توقيع اتفاقية لمكافحة الإرهاب”، والتي تتزامن مع تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، خلال جولته المكوكية الأخيرة في أفريقيا، بزيادة التوجه الروسي نحو دول الساحل والصحراء للمساعدة في مكافحة الإرهاب، وذلك بعد ما نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” حول تعاون جماعة فاجنر الروسية مع مسلحين روسيين في محاولة التخلص من الرئيس محمد إدريس ديبي، وهذا في أعقاب إحباط محاولة انقلاب فاشلة يناير الماضي قادها تيار “بحر الدين بردي” رئيس المنظمة التشادية لحقوق الإنسان المعارض للحكومة التشادية، وتم اعتقال 11 ضابطًا على إثرها.
فوجدت الحكومة التشادية منفذًا للتعاون في ظل العداء الشعبي المتنامي ضد فرنسا عبر التعاون الروسي، في ظل الانشغال الغربي بإيجاد حلفاء ضد الحرب الأوكرانية دون النظر إلى الاحتياجات الأفريقية، وهو ما ظهر في فشل استخدام “مؤتمر ميونيخ للأمن” في توجيه جبهة أفريقية لاتينية عبر ما يسمى “الجنوب العالمي”؛ لإقناع دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية بتشديد سياستها الخارجية تجاه روسيا، مع تزايد فقدان الثقة في الاهتمام الغربي بالمصالح الأفريقية وتنفيذ التعهدات والالتزامات التنموية بعيدًا عن الاستراتيجية الأمنية العسكرية التي تعمل على حماية “الوجود الأوروبي” عبر الهجرة غير الشرعية.
وعلى نقيض الاستراتيجية الأمنية العسكرية الفرنسية التي تتبعها فرنسا في دول الساحل الأفريقي لرعاية مصالحها الغربية، تتجه الصين وروسيا لتعميق التعاون الاستثماري والاقتصادي ومجالات الطاقة في تلك الدول بجانب التعاون الأمني والعسكري، وهو ما استوعبه ماكرون من خلال توجيهه بتعزيز التعاون مع الشباب الأفريقي لتغيير الصورة النمطية لديهم، وإعرابه عن أمله في تعاون بين جيل جديد من رواد الأعمال الفرنسيين والأفارقة، بجانب المساعدة في تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع أفريقيا.
زيارة ماكرون والتنافس الروسي الصيني
اتجه ماكرون نحو الدول الناطقة بالإنجليزية والبرتغالية في أفريقيا والتي تثير أطماع روسيا والصين بشكل متزايد؛ في محاولة لإيجاد بديل لتصاعد النفوذ الروسي مقابل تراجع مناطق النفوذ الفرنسي في ظل المشاعر العدائية بمناهضة روسية، في ظل التراجع الذي شهدته باريس بقيادة موسكو لإزاحة فرنسا من القارة؛ فمن المقرر زيارة الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون لثلاث دول أفريقية حول حوض الكونغو بجانب أنجولا، والتي انطلقت من العاصمة الجابونية ليبرفيل للمشاركة في قمة “الغابة الواحدة One Forest Summit” من أجل الحفاظ على غابات حوض نهر الكونغو.
لم تكن هذه الزيارات هي الأولى من نوعها منذ ولاية ماكرون الثانية، فقد سبقتها زيارات لدول وسط أفريقيا “غينيا بيساو والكاميرون وبنين” يوليو الماضي، والتي ركز خلالها على خلق روح العداء ضد “الاستعمار الروسي الإمبريالي” بحسب وصف ماكرون بعد حربها على أوكرانيا، والتي ركزت كذلك على قضية “الشراكة العسكرية”، بجانب تحقيق الأمن الغذائي في ظل تأثير الأزمة الروسية الأوكرانية على أوضاع الأمن الغذائي في البلاد.
ولم تكن روسيا الوحيدة التي تسعى إلى الوجود في أفريقيا، فالصين كذلك تعمل على ذلك بخطى متسارعة. وقد أشارت تقارير مخابراتية نشرتها صحيفة “وول ستريت جورنال” إلى سعي بكين إلى إيجاد موطئ قدم عسكري في الأطلنطي عبر إنشاء قاعدة عسكرية في غينيا لمواجهة القوات الأمريكية، وهو ما تبعه الإعلان عن إعادة الانتشار الفرنسي في دول خليج غينيا لمواجهة ذلك النفوذ المتزايد الصيني.
وتأتي جولة ماكرون الأفريقية كذلك ردًا على زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف فبراير الماضي إلى مالي وموريتانيا والسودان، وسبقها اللقاء في جنوب أفريقيا واريتريا وأنجولا في ظل السعي الدبلوماسي والعسكري الروسي عبر فاجنر لخلق مناطق نفوذ في منطقة الساحل والصحراء، واعتبار موريتانيا الرابط بين المثلث الحدودي بين دول الساحل، في ظل الصراع الجيوسياسي بين الناتو والولايات المتحدة من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى.
وظهر السبب السياسي من الزيارة في الترويج للاستراتيجية الفرنسية، والتي يمكن اعتبارها استراتيجية مُعادة، ولكن ماكرون خلال زيارته للجابون حاول تفادي ما حدث مع مالي من خلال التأكيد على “عدم الانسحاب” ولكن اعتباره مجرد إعادة تنظيم تموضع للقوات الفرنسية في أفريقيا، مشيرًا إلى انتهاء المربع الخلفي الفرنسي في غرب أفريقيا، بجانب محاولة كسب الشباب والسياسيين من خلال تأكيده على انتهاء عصر “أفريقيا الفرنسية” للقضاء على الصورة الاستعمارية والتشديد على أن الزيارة جاءت لإعادة التوازن والشراكة والتحييد وليس دعم سياسي، في ظل تزامن الزيارة مع استعداد الجابون لتنظيم الانتخابات الرئاسية.
الشمال الأفريقي
لم تغفل الاستراتيجية الفرنسية المعلنة في الإليزيه الشمال الأفريقي، وخاصةً مع الدولتين ذات العلاقات المعقدة مع الدولة الفرنسية، وهما الجزائر والمغرب، حيث أكد ماكرون خلال المؤتمر الصحفي المنعقد في 27 فبراير على “المضي قدمًا في العلاقات مع البلدين”، وذلك في ظل توتر العلاقات بينهم.
هذا وقد اضطربت العلاقات الفرنسية المغربية في ظل النظر إلى فرنسا أنها وراء التوصيات التي خرج بها البرلمان الأوروبي حول قضايا حرية التعبير في المغرب واعتبرتها الأخيرة تدخلًا في السيادة الوطنية لها، بالإضافة إلى سلسلة من الاضطرابات على خلفية الموقف الفرنسي من قضية الصحراء الغربية.
وفيما يتعلق بالجانب الجزائري، فشهدت العلاقات توترًا ملحوظًا على خلفيات تصريحات ماكرون المسبقة، فيما كان آخر التصعيد الدبلوماسي بين البلدين هو استدعاء الجزائر لسفيرها لدى فرنسا للاحتجاج على “الدخول غير القانوني” عبر تونس للناشطة الفرنسية الجزائرية أميرة بوراوي.
وتُعد هذه التصريحات الأخيرة للرئيس ماكرون محاولة لرأب الصدع مع الشمال الأفريقي وإعادة طرح للمعادلة مع البلدين صاحبا التأثير الحدودي والاقتصادي في منطقة النفوذ التقليدية للسياسة الفرنسية، بوصفها ملاصقة مع القارة الأوروبية من جهة، ودول الساحل والصحراء من جهة أخرى، وهو ما سيسفر عن موقف معلن من قضية الصحراء الغربية في ظل اختلاف وجهات النظر الجزائرية والمغربية حول هذا الملف. هذا بجانب ما يظهره البلدان من أهمية في ظل أزمة الطاقة الناتجة من الحرب الروسية الأوكرانية والتنافس بين البلدين حول الغاز النيجيري وتمريره إلى أوروبا بوصفه خط الربط الأفريقي وخاصة غربها إلى القارة العجوز، وإيجاد بديل لتراجع النفوذ في تلك المنطقة.
يوضح الطرح السابق الاستراتيجية الغربية المتغيرة تجاه القارة، ولكنها ما زالت ترتكز على الوجود الأمني والعسكري عبر التدريب وتوفير المعدات وإقامة الأكاديمية العسكرية بدلًا من القواعد المشتركة، بجانب تغير اللهجة الاستعلائية للدول الغربية الممثلة في الدولة الفرنسية عبر محاولات تغيير الصورة النمطية الاستعمارية المكونة لدى الشعوب الأفريقية، من خلال انتهاج دبلوماسية أمنية وعسكرية قائمة على الشراكة بديلًا للنفوذ؛ في محاولة لمواجهة مناطق تصاعد النفوذ الصيني الروسي من خلال إعادة الانتشار العسكري في خليج غينيا الذي تنشط فيه الصين وإعادة تثبيت العلاقات مع كلٍ من الجزائر والمغرب كإعادة تمركز وحلقة وصل للغرب الأفريقي.
ويتطلب ذلك من الدول الأفريقية العمل على توجيه التحالفات الدولية من خلال خدمة الحاجات الأفريقية، في ظل عجز الاستراتيجيات والتحالفات العسكرية عن توفير الأمن للقارة، وهو ما يتطلب خطة واضحة من القادة الأفارقة بعيدًا عن المصالح السياسية الزائفة في ظل الأهمية الجيوسياسية للقارة، وبشكل يحقق الأهداف المعلنة في اجتماعات الاتحاد الأفريقي بقيادة جزر القمر في فبراير الماضي.
.
رابط المصدر: