ولد رئيس بنك الاحتياط الفيديرالي الأميركي جيروم باول في 4 فبراير/شباط 1953 في واشنطن، لعائلة ذات خلفية قانونية، فوالده كان محاميا وجده لأمه كان عميد كلية كولومبوس للحقوق في الجامعة الكاثوليكية الأميركية ومحاضرا في كلية الحقوق بجامعة جورجتاون. تخرج في عام 1972، من مدرسة جورجتاون الإعدادية وحصل عام 1975 على شهادة البكالوريوس في السياسة من جامعة برينستون، ولاحقا نال درجة الدكتوراه من مركز القانون بجامعة جورجتاون في عام 1979. وخلال تحضيره أطروحته عمل لسنة مساعدا تشريعيا للسيناتور الجمهوري ريتشارد شويكر من ولاية بنسلفانيا.
وانتقل بعد تخرجه إلى نيويورك ليعمل كاتبا للقاضي إلسورث فان جرافيلاند في محكمة استئناف الدائرة الثانية، ثم عمل محاميا لدى مكتب المحاماة الدولي “ديفيس بولك”، حتى عام 1983، ثم لدى مكتب المحاماة “ويربيل وماكميلن”.
ما بين 1984 إلى 1990، عمل لدى “بنك ديلون ريد وشركاه” المتخصص بعمليات الدمج والاستحواذ وترقى إلى منصب نائب الرئيس. بعدها انتقل الى العمل في عهد الرئيس جورج بوش الأب وكيلا في وزارة الخزانة للشؤون المالية، وتولى مسؤولية السياسة المتعلقة بالمؤسسات المالية وسوق ديون الخزانة والمجالات ذات الصلة. وخلال عمله أشرف على التحقيق مع شركة “سالومون براذرز” لتقديمها تحت أسماء منافسة عطاءات كاذبة للحصول على سندات الخزانة بشكل متكرر طوال عامين. وشارك أيضا في المفاوضات التي أفضت إلى إقناع المستثمر الشهير وارن بافيت، أحد المساهمين الكبار في الشركة، بتسلم رئاستها واضعا سمعته على المحك لاعادة هيكلتها وحفظها من الإفلاس.
عام 1993 انتقل باول للعمل كمدير في مؤسسة “بانكرز تراست” المتخصصة بالعمليات الائتمانية وتأدية الخدمات المالية، لكن سرعان ما تركها عام 1995، بعدما انكشف أن إدارتها قامت بمعاملات وأدوات مشتقة تسببت بخسائر فادحة لكبار العملاء، ثم عاد إلى العمل لدى “بنك ديلون ريد وشركاه” من عام 1997 إلى عام 2005.
بدأ حياته المهنية كمحام، ولاحقا كمصرفي، وبعدها مسؤولا في وزارة الخزانة مشرفا على إدارة أسواق الديون، وانتهاء بشريك في شركة الأسهم الخاصة التابعة لمجموعة “كارلايل” في وول ستريت
وشارك بمجموعة “كارلايل” وهي شركة متعددة الجنسيات للأسهم الخاصة وإدارة الأصول والخدمات المالية حيث أسس وقاد المجموعة الصناعية فيها. وبعد تركه إياها أسس “سيفيرن كابيتال بارتنرز” وهي شركة استثمارية خاصة تركز على الاستثمار والتمويل المتخصص في القطاع الصناعي. في عام 2008 عمل شريكا إداريا في صندوق البيئة العالمي وهو شركة متخصصة بالاستثمار في الطاقة المستدامة.
في المجال الاجتماعي، شارك باول في مجالس إدارة عدد من المؤسسات الخيرية والتعليمية، منها المدرسة الخيرية العامة في واشنطن ومركز “بيندهايم” للتمويل في جامعة برينستون ومنظمة الحفاظ على الطبيعة في واشنطن وميريلاند واتحاد سنتر سيتي وهو مجموعة من 16 مدرسة في أفقر المناطق في واشنطن.
دوره في مرحلة باراك أوباما
بين 2010 و2012، عمل باول باحثا زائرا في مركز السياسات الحزبية وهو مركز فكري يلتقي فيه ممثلو الحزبين الجمهوري والديمقراطي لمناقشة التحديات الوطنية معا والسعي لإعداد تصور مشترك لمعالجتها، مثل تلك المتعلقة حاليا بالطاقة والمناخ والدين العام وسقفه. كان له دور محوري في النقاشات التي اثيرت في الكونغرس عام 2011 توصلا لإقناع أعضائه بالموافقة على رفع سقف الدين، وبعدم التخلف عن سداد الديون السيادية للبلاد شارحا أنه “إذا تجنب المستثمرون سوق سندات الخزانة، قد لا تكون هناك قدرة على سداد السندات المالية المستحقة مما يعني التخلف الفوري عن السداد وهذا لو حصل ولو لفترة وجيزة من شأنه أن يخلق أخطارا كارثية محتملة على النظام المالي، إذ إن سندات الخزانة هي مصدر مهم للضمانات داخل هذا النظام”.
رئيس بنك الاحتياطي الفيديرالي الأميركي، جيروم باول خلال مؤتمر صحافي بعد اجتماع لجنة السوق المفتوحة في العاصمة واشنطن، الأربعاء 31 يوليو 2024.
من جهة أخرى، أصر باول على “أن يأتي رفع سقف الدين العام مصحوبا بإصلاحات سياسية جوهرية وتوفير كبير في الموازنة كما بآلية تنفيذ صارمة تقيد الكونغرس”.
حجج وتحليلات باول لفتت انتباه الرئيس باراك أوباما إليه فكان ترشيحه له ولجيريمي شتاي لمركزين شاغرين في مجلس محافظي بنك الاحتياطي الفيديرالي على الرغم من أن باول جمهوري والرئيس أوباما ديمقراطي، وذلك بعد نجاح المشرعين الجمهوريين في إفشال تمرير مرشح أوباما الأساسي، فتولى المنصب في 25 مايو/أيار 2012.
لطالما أصر جيروم باول على أن “يأتي رفع سقف الدين العام مصحوبا بإصلاحات سياسية جوهرية وتوفير كبير في الموازنة كما بآلية تنفيذ صارمة تقيد الكونغرس”
في يونيو/حزيران 2014 أعيد ترشيح باول لولاية جديدة كاملة في مجلس المحافظين فوافق مجلس الشيوخ على ذلك لمدة 14 عاما تنتهي في 31 يناير/كانون الثاني 2028.
أهم ما لفتت إليه مواقفه خلال ولايته، اتخاذه نهجا وسطا تجاه التنظيم المالي المنصوص عليه في قانون “دود – فرانك” بين بعض الجمهوريين الذين يريدون قواعد تنظيمية أكثر مرونة بشكل كبير، والديمقراطيين الذين يدعون إلى قواعد أكثر صرامة. وكان رأيه “أن المزيد من التنظيم ليس دائما الحل الأفضل لكل مشكلة”.
اختاره ترمب وبدأ عمله في 2018
قبل انتهاء ولاية وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، على رأس الاحتياطي الفيديرالي أعلن الرئيس دونالد ترمب أنه يريد رئيسا لهذه المؤسسة “من رجال الأعمال والحكومة” على غرار رئيس بنك الاحتياطي الفيديرالي ويليام ماتشيسني مارتن الذي استمر في منصبه لنحو عشرين عاما.
لحظة إعلان الرئيس السابق دونالد ترمب ترشيح جيروم باول لرئاسة الاحتياطي الفيديرالي في البيت الأبيض، واشنطن 2 نوفمبر2017.
وسريعا ما أعلن في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 عثوره على ضالته وهو جيروم باول الذي بدأ حياته المهنية كمحام، ولاحقا كمصرفي استثماري، وبعدها مسؤولا في وزارة الخزانة مشرفا على إدارة أسواق الديون، وانتهاء بشريك في شركة الأسهم الخاصة التابعة لمجموعة “كارلايل” الرائدة في أسواق رأس المال في وول ستريت. وهو صاحب خبرة في إدارة وعمليات الاحتياطي الفيديرالي وعلى علاقة طيبة مع الحزب الجمهوري.
وافقت اللجنة المصرفية في مجلس الشيوخ على هذا الترشيح الذي ثبته مجلس الشيوخ في 23 يناير/كانون الثاني 2018، بغالبية 84 صوتا، في مقابل 13 صوتا. فتولى باول منصبه في 5 فبراير/شباط 2018 وكان الرئيس السادس عشر للاحتياطي الفيديرالي.
باول هو أول رئيس للاحتياطي الفيديرالي منذ أكثر من ثلاثة عقود لا يحمل شهادة في الاقتصاد كأسلافه الثلاثة، الذين اكتسبوا شهادة الدكتوراه من أرقى الجامعات، وكانوا من أصول يهودية: جانيت يلين، بن برنانكي وألن غرينسبان
قيل عنه “ليس صقرا ولا حمامة” فليس لديه إيديولوجيا ثابتة، ويفضل بدلا من ذلك التصرف بشكل عملي، ولذلك تتغير وجهات نظره مع تطور الاقتصاد. فاستشراسه في الدفاع عن رفع سقف الدين الفيديرالي عام 2011 انقلب تحذيرا في بداية 2024، من عدم إمكان استدامة هذا الدين على المدى الطويل، وقال في مقابلة مع “سي. بي. إس” إنه أصبح ملحا البدء بمعالجته، فهو ينمو بشكل أسرع من الاقتصاد، وبات الأميركيون يعيشون حاليا، في نظره، على حساب الأجيال المقبلة.
براغماتي يعتمد على الأرقام ودلالاتها
عرف عن باول بأنه براغماتي يدرس ملفاته بعمق ويعتمد على الأرقام ودلالاتها، وليس على الأيديولوجيا، كما على الصبر والاعتدال في النقاش والتحليل العقلاني دون مبالغة في رد الفعل مما يدفع الذين يجالسهم إلى النظر إلى الحقائق “فترى المصابيح الكهربائية تضيء في رؤوسهم في نهاية الاستماع إليه” بحسب تعبير أحدهم.
جيروم باول، يدلي بشهادته خلال جلسة استماع أمام لجنة الشؤون المصرفية والإسكان من أعضاء مجلس الشيوخ، واشنطن، 30 نوفمبر2021.
وقد أوضح في إحدى المناسبات أن “الوصول إلى أفضل النتائج يتطلب عرض وجهات النظر المتعارضة بوضوح وقوة قبل اتخاذ القرارات”.
باول أول رئيس للاحتياطي الفيديرالي منذ أكثر من ثلاثة عقود لا يحمل شهادة في الاقتصاد كأسلافه الثلاثة، الذين اكتسبوا شهادة الدكتوراه في هذا الاختصاص ومن أرقى الجامعات، وكانوا من أصول يهودية: جانيت يلين من جامعة يال، بن برنانكي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وألن غرينسبان من جامعة نيويورك.
آخر رئيس للاحتياطي الفيديرالي يماثل باول في عدم حيازته شهادة في الاقتصاد هو جي ويليام ميلر، وعينه في هذا المنصب عام 1978 الرئيس جيمي كارتر، وكان يحمل شهادتين في الهندسة البحرية والقانون لكنه لم يستمر في منصبه سوى خمسة عشر شهرا عندما اختاره كارتر وزيرا للخزانة.
أشرف باول على صياغة السياسة النقدية الأميركية وتنفيذها، بهدف الحفاظ على استقرار الأسعار، وضمان استقرار النظام المالي، وقبل مضي عام على رئاسته، نشب خلاف بينه وبين الرئيس ترمب
جدير بالذكر أن باول يبقى واحدا من أغنى رؤساء الاحتياطي الفيديرالي وربما أغناهم بعد مارينر إكلس، بحسب بيانات المعلومات المالية الشخصية التي كشفت عن تأرجح صافي ثروته ما بين 19,7 و55 مليون دولار، جمعها من عمله في وول ستريت ثم لدى “بانكرز تراست” ثم شريكا في مجموعة “كارلايل”، من دون أن يفقده ذلك تواضعه، إذ ظل يركب الدراجة في ذهابه إلى العمل في الاحتياطي الفيديرالي وإيابه منه.
اندلاع الخلاف بين ترمب وباول
أشرف باول بصفته رئيس الاحتياطي الفيديرالي الأميركي، على صياغة السياسة النقدية الأميركية وتنفيذها، بهدف الحفاظ على استقرار الأسعار وتعزيز الحد الأقصى من التوظيف وضمان استقرار النظام المالي. سريعا، وقبل مضي عام على رئاسته، نشب خلاف بينه وبين الرئيس ترمب.
ومنذ مارس/آذار 2022، قاد خلال سنتين، إحدى عشرة زيادة متتالية في أسعار الفائدة الرئيسة كرد فعل على القوة المتعاظمة للاقتصاد الأميركي، وللتصدي للآثار التضخمية، ورافضا خلالها تحديد موعد لبدء عكس المسار وخفض أسعار الفائدة، محددا مقياس التضخم 2 في المئة، للعودة إلى خفض الفوائد.
أعلن أيضا أن الاحتياطي الفيديرالي سيخفض محفظة أصوله من 4,5 تريليونات دولار أميركي إلى ما يتراوح بين 2,5 و3 تريليونات دولار أميركي على مدى أربع سنوات.
وكان رأي ترمب معاكسا، فليس صائبا الاستمرار في رفع سعر الفائدة الرئيس بسبب الشكوك الاقتصادية وتقلب الأسواق المالية، وسيكون خطأ مع تصاعد الحرب التجارية مع الصين وحذر من “اتخاذ قرارات بناء على أرقام لا معنى لها”.
إن تنظيم الاحتياطي الفيديرالي يعكس رغبة طويلة الأمد في التاريخ الأميركي في ضمان عدم هيمنة السلطة على السياسة النقدية والنظام المالي في بلادنا وعدم تركزها في أيدي عدد قليل من الناس، سواء في واشنطن أو في مراكز المال
جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيديرالي
وقال ترمب في إحدى تغريداته “إنه أمر لا يصدق أنه مع وجود دولار قوي للغاية وتفجر العالم من حولنا، وتدهور الأحوال في باريس والصين، ألا يفكر الاحتياطي الفيديرالي إلا في المزيد من رفع أسعار معدلات الفائدة”. منطق ترمب أن ارتفاع أسعار الفائدة يجعل الائتمان أكثر تكلفة ويبطئ الاستثمارات لدى كل من الأسر والشركات. وتساءل في تغريدة في أغسطس/آب 2019 عمن هو في الحقيقة العدو الأكبر للولايات المتحدة “هل هو باول على رأس الاحتياطي الفيديرالي أم الرئيس الصيني شي جيبينغ؟”.
التشابك بين البيت الابيض والاحتياطي الفيديرالي
لطالما كانت سياسة التشدد في السياسة النقدية، موضوع تشابك وخلافات في الولايات المتحدة بين رئيسي البلاد والاحتياطي الفيديرالي، إحدى صوره الصراع الذي أطلق في الصحف بين الرئيس رونالد ريغان وبول فولكر في الثمانينات، والآن يحصل الأمر ذاته لكن على منصة “إكس”.
جيروم باول، خلال مؤتمر صحافي عقب نهاية اجتماع لجنة السياسة النقدية، واشنطن 13 ديسمبر 2023.
اعتمد باول موقفا عمليا إزاء ضغوط ترمب، وقد رد عليها بالتذكير “بأن الخبرة الطويلة في الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة أثبتت أن السياسة النقدية تكون أكثر نجاحا عندما تصبح القرارات مستقلة عن تأثير المسؤولين المنتخبين”.
وأضاف في مناسبة أخرى “إن تنظيم الاحتياطي الفيديرالي يعكس رغبة طويلة الأمد في التاريخ الأميركي في ضمان عدم هيمنة السلطة على السياسة النقدية والنظام المالي في بلادنا وعدم تركزها في أيدي عدد قليل من الناس، سواء في واشنطن أو في مراكز المال”.
دوره في “فقاعة الأصول”… ومرحلة “الجائحة”
قادت سياسة باول في البداية إلى تراجع في أسعار الأصول المالية، وانعكست سلبا على قطاعات معينة، مثل العقارات وأسواق الأسهم، مما دفعه إلى اتخاذ القرار بالعودة إلى توسيع الموازنة العمومية للاحتياطي الفيديرالي، وكان أولها التيسير النقدي في الربع الرابع من عام 2019، وقد وصفه باول بأنه من نوع اتفاقات إعادة الشراء بين عشية وضحاها (الريبو) حيث يكون للبائع خيار عكس الصفقة ولم تكن بمثابة تيسير كمي.
إتُهم بأنه “تابع وليس قائدا للأسواق المالية”، ولقبته “بلومبرغ” بـ”رئيس دولة وول ستريت” تجسيدا لمدى سيطرته على الأسعار ومدى تأثير قراراته على وول ستريت
في أوائل عام 2020، أطلق سلسلة غير مسبوقة من الإجراءات لمواجهة تأثير جائحة “كوفيد – 19” على السوق المالية، وقد تضمنت توسعا كبيرا في الموازنة العامة للاحتياطي الفيديرالي، وإدخال أدوات جديدة، إضافة إلى الشراء المباشر لسندات الشركات والاقراض المباشر.
أشاد قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي بقرارات باول، وكذلك فعل ترمب، على الرغم من انعكاس التيسير الكمي ارتفاعا في معدل التضخم وفي مؤشر أسعار المستهلك ووصوله إلى 7 في المئة عام 2021، وأيضا تضخما في أسعار الأصول وبلوغها مستويات عالية.
رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول يتحدث خلال مؤتمر صحافي في نهاية اجتماع لجنة السوق المفتوحة الفيديرالية في واشنطن العاصمة، 20 مارس 2024.
وقد قاربت عمليات التيسير الكمي المباشر وغير المباشر مستويات فقاعات سابقة، وانطوت على تعميق عدم المساواة في الثروة بتعزيز أرباح الشرائح الأكثر ثراء في المجتمع، خصوصا مصارف الاستثمار، حيث اعتبر عام 2020 أفضل عام في تاريخ وول ستريت، وعاش أصحاب الأصول طفرة من التبذير والرخاء يذكر بنمط غاتسبي العظيم، بعد الحرب العالمية الأولى، على حساب معاناة غالبية الناس في الشارع، ولا سيما الشباب الذين لا يملكون الأصول.
طبيب تخدير الأسواق وإدمانها
وقد اتهم محمد العريان كبير المستشارين الاقتصاديين لدى “أليانز” باول بأنه “تابع وليس قائدا للأسواق المالية” بعكس “بلومبرغ نيوز” التي خلعت على باول لقب “رئيس دولة وول ستريت” تجسيدا لمدى سيطرته على أسعار الأصول ومدى ربحية قراراته لوول ستريت.
ووصفه جيمس غرانت، من معهد “ميسز” النمسوي، في مقال في صحيفة “وول ستريت” بأنه كالطبيب، فقد داوى أوهان أسواق وول ستريت بجرعات من المخدرات، بثها الاحتياطي الفيديرالي لنشر السعادة في هذه الأسواق. أما صحيفة “واشنطن بوست” فوصفته بأنه “بات مدمنا دعم الأسواق، حتى عندما لا تكون هناك حاجة لذلك”، واتهم ستيفن بيرلشتاين، الكاتب الاقتصادي في الصحيفة، باول بأنه “تبنى استراتيجيا تضمن أرضية أسعار الأسهم والسندات ولكن ليس سقوفها”، و”أن أي محاولة من قبل باول للتخلي عن هذه الاستراتيجيا ستؤدي إلى عمليات بيع حادة من جانب المستثمرين الذين أصبحوا مدمنين للتحفيز النقدي”.
لا يوجد مسار لأي سياسة نقدية خال من الأخطار، والتطورات النقدية تجيز استخدام أدوات التيسير الكمي استثنائيا، لتجاوز حالات معينة، كالركود وارتفاع معدلات البطالة، والحروب التجارية والاضطرابات السياسية
جيروم باول، رئيس بنك الاحتياط الفيديرالي الأميركي
وقال الميلياردير سيث كلارمان مدير مجموعة “باوبوست” إن الاحتياطي الفيديرالي بقيادة باول “عطل قواعد السوق، ودوره في اكتشاف أسعاره قد تم تعليقه”.
وعلقت مجلة “تايم” على إجراءات باول فذكرت أنها “غيرت الاحتياطي الفيديرالي إلى الأبد” وأعربت عن مخاوفها من أنه جعل أسواق وول ستريت مشروطة بمستويات غير مستدامة من التحفيز النقدي لدعم أسعار الأصول المرتفعة بشكل مصطنع. وقد شملت فقاعات الأصول التي تسببت بها سياسات باول العملات المشفرة، فعرفت الأخيرة زيادات كبيرة في أسعارها خلال عام 2020، الأمر الذي كان وراء فوز باول بجائزة فوربس لشخصية العام المذكور في مجال العملات المشفرة. من هنا كان تخوف محللين اقتصاديين من أخطار حصول أية فقاعة مالية لأنها ستكون الكبرى في تاريخ الولايات المتحدة، ذلك أنها لن تطال الأسهم فحسب، بل ستشمل أيضا كل الأصول المالية الأخرى تقريبا.
كيف يرد باول على الاتهامات؟
أبرز ردود باول على هذه الاتهامات تختصر بالآتي:
– لا يوجد أي مسار لأي سياسة نقدية خال من الأخطار. والتطورات النقدية الحديثة تجيز استخدام أدوات التيسير الكمي استثنائيا، لتجاوز حالات معينة، كالركود وارتفاع معدلات البطالة، والحروب التجارية والاضطرابات السياسية وغيرها، لخلق نمو اقتصادي من خلال تضخم أسعار الأصول.
– إن ارتفاع أسعار الأصول يؤدي إلى زيادة الثروة، ومع مرور الوقت يؤدي إلى زيادة الإنفاق مما يعزز نمو الوظائف وبالتالي يقلل عدم المساواة.
– إن الارتباط بين أسعار الفائدة المخفضة وقيم الأصول ليس وثيقا كما يعتقد البعض لأن عوامل كثيرة تدخل في تحديد أسعار الأصول.
– إن لا خوف من فقاعة إسكان محتملة، على غرار تلك التي سبقت الركود الكبير بداية القرن الحالي، فلا قروض معدومة ولا أسعار غير مستدامة.
إنه الشخص المناسب لتوجيه الاحتياطي الفيديرالي في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة أسوأ معدلات تضخمية منذ 40 عاما
الرئيس الأميركي جو بايدن
قبل انتهاء ولاية باول كرئيس للاحتياطي الفيديرالي في فبراير/شباط 2022 ارتفعت بعض الأصوات محذرة من التمديد له لولاية جديدة، وكانت حجتها فشله في تخفيف الأخطار التي يشكلها تغير المناخ العام على النظام المالي واعتماده نهجا متساهلا في تنظيم البنوك الكبرى.
بايدن يجدد لباول في 2022
واتهم بعدم امتثاله بشكل كاف لقواعد الأخلاقيات، إذ كشف موقع “الآفاق الأميركية” عن بيع باول بعض أصوله في البورصة مستعيدا ما بين مليون وخمسة ملايين دولار نقدا، تزامنا مع استقالة مسؤولين اثنين من الاحتياطي الفيديرالي في دالاس وبوسطن، إثر الكشف عن معاملات كبيرة في سوق الأوراق المالية تم القيام بها في خضم الأزمة الاقتصادية المرتبطة بـ”كوفيد – 19″. وقد علق متحدث باسم بنك الاحتياطي الفيديرالي لوكالة “فرانس برس” على اتهام باول بأن البيع كان لتغطية الأخير نفقات عائلية.
لكن هذا لم يثن الرئيس بايدن عن إعادة ترشيحه فحصل على موافقة اللجنة المصرفية في مجلس الشيوخ بمعارضة صوت واحد فقط للسيناتور إليزابيث وارين، أستاذة القانون، ولاحقا على موافقة غالبية الأصوات في مجلس الشيوخ، فأدى اليمين الدستورية لولاية ثانية كرئيس للاحتياطي الفيديرالي في 23 مايو/أيار 2022.
شاشة في قاعة التداول في بورصة نيويورك عند إعلان باول خفض الفائدة في 18 سبتمبر 2024.
وكان هناك تنويه مستمر من الرئيس بايدن بأداء باول فذكر في خطاب ألقاه في البيت الابيض أنه “الشخص المناسب لتوجيه الاحتياطي الفيديرالي في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة أسوأ معدلات تضخمية منذ 40 عاما”. وأكد في مناسبة أخرى “الحاجة إلى الاستقرار والاستقلال في الاحتياطي الفيديرالي”. وهو ما حققه باول بتقديره على مدى السنوات الأربع الماضية، وخاصة الطريقة التي قاوم بها الهجمات المنتظمة ضده من الرئيس السابق دونالد ترمب. وأنهى بايدن بأنه “من المهم أن تكون قيادة الاحتياطي الفيديرالي تتمتع بدعم واسع من الحزبين” وهذا ما يحققه تعيين الجمهوري باول رئيسا، وديمقراطية نائبة للرئيس.
إشكالية خفض سعر الفائدة
في 23 أغسطس/آب المنصرم ذكر باول في اجتماعات “جاكسون هول” أن الوقت حان لتعديل السياسة النقدية إذ إن التضخم يتجه ضمن مسار مستدام للعودة إلى معدل 2 في المئة، وهذا ما حصل بالفعل بعد ثلاثة أسابيع في اجتماع الاحتياطي الفيديرالي في 17 و18 سبتمبر/ أيلول حيث أعلن في نهايته خفضا مقداره نصف نقطة في سعر الفائدة، مما يعني أنه بات أسهل قليلا للأفراد والشركات الاقتراض مما سيضع المزيد من المال في تصرفهم ويزيد إنفاقهم، وسينعكس الأمر على كل شيء من الرهن العقاري الثابت لمدة 30 عاما إلى بطاقات الائتمان وقروض السيارات، الأمر الذي من شأنه أن يحفز الاقتصاد الأميركي في وقت تكون كامالا هاريس في أمس الحاجة إلى هذا التحفيز قبل أقل من شهر من الانتخابات، على الرغم من أنها كانت ضد ترشيح باول للمرة الأولى لقيادة الاحتياطي الفيديرالي عام 2018 خلال وجودها في مجلس الشيوخ.
المصدر