لا تمر الأيام الراهنة بسهولة على رئيس الاحتياطي الفيديرالي جيروم باول، فالرجل لا يألو جهدا لتجنب الضغوط والانجرار إلى الجدال الدائر حول الانتخابات الرئاسية الأميركية المرتقبة في 5 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
في اختتام اجتماع البنك المركزي في يوليو/تموز المنصرم، أكد أن الأجندة السياسية ليست في حسابات الفيديرالي، وأن عوامل مماثلة لا تدفع إلى تغيير نهجه في تحليل البيانات الاقتصادية واتخاذ القرارات وصياغة الحلول، وقال بوضوح: “نحن لا نستخدم أدواتنا (النقدية) أبدا لدعم أي حزب سياسي أو معارضته، ولا أي شخصية سياسية أو نتيجة سياسية”، ولم يقدم على أي خفض لأسعار الفائدة كان منتظرا في حينه.
مع من تميل الفائدة في الانتخابات الأميركية
يعكس كلام باول تعرضه للضغوط من الحزب الجمهوري المتمثل بمرشحه دونالد ترمب الذي دعاه إلى عدم خفض أسعار الفائدة قبل موعد الانتخابات، لما يعنيه قرار مماثل من دفع لعجلة الاقتصاد، الأمر الذي قد يصب في مصلحة منافسته الديمقراطية، كامالا هاريس. علما أن خفض الفائدة المتوقع والمنتظر في 18 من الجاري، سيكون بداية لسلسلة متتالية من خفوضات الفائدة في الأشهر المقبلة، منذ بدء رفعها السريع وغير المسبوق اعتبارا من مارس/آذار 2022.
إلا أن باول نجح أخيرا في إثبات رزانته واستقلاليته في عملية اتخاذ القرار، لا سيما بعد الاضطرابات الكبيرة التي اجتاحت الأسواق العالمية في مطلع أغسطس/آب االماضي، وعززها تقرير الوظائف الذي أثار الذعر داخل الولايات المتحدة وخارجها من أن تكون البلاد متجهة نحو الركود. انهالت الاتهامات وقتذاك على باول بتقاعسه عن خفض الفائدة أسوة بمصارف مركزية كبرى أخرى، مما سمح بارتفاع معدل البطالة الذي يعد مؤشرا رئيسا الى صحة الاقتصاد الأميركي.
يعتبر رئيس الاحتياطي الفيديرالي جيروم باول أحد أكبر المؤثرين في الانتخابات الرئاسية الأميركية، لو أراد، ولو تخلى عن استقلاليته ويحسب لقراراته المالية والنقدية ألف حساب
لم يتجاوب باول مع تلك الأحداث كما كانت توقعات الشريحة الكبرى من المستثمرين والمقترضين، ولم يبد متعجلا خفض الفوائد في حينه حيث اختلفت قراءته للأمور، معتمدا الهدوء والتحليل المنطقي والموضوعي للمعطيات، مصرا على احترام المواعيد المقررة، أولها في سبتمبر/أيلول الجاري، وهو ما أشار اليه في الاجتماعات السنوية في “جاكسون هول”، لبدء مسار خفض سعر الفائدة نزولا. وقد أثبتت التحليلات، في الأيام التالية، حسن إدارته للاضطراب الذي شهدته الأسواق، خصوصا مع التبرير العلمي للارتفاع الطفيف في معدل البطالة، وتهدئة المخاوف من الركود. فبحسب تارا سنكلير، مديرة مركز جامعة جورج واشنطن للأبحاث الاقتصادية، “لا يزال سوق العمل يبدو جيداً”، ولا يزال معدل البطالة منخفضًا نسبيًا، ونسبة السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و54 عامًا والذين لديهم وظيفة وصلت إلى مستوى تاريخي.
الاستقلالية الثمينة للبنوك المركزية
لا يساوم باول، ولا يسمح بأخذ مصلحة الاقتصاد الوطني رهينة لأي إرادة سياسية إلى أي حزب انتمت، فلا هو سيحقق رغبة ترمب الذي عينه رئيسا للاحتياطي الفيديرالي عام 2018، ولا هو في صدد الامتناع عن اتخاذ قرار مفصلي بخفض الفائدة قد يعزز موقع كامالا هاريس التي عارضت التجديد له على رأس البنك المركزي، في تأكيد للاستقلالية الثمينة جدا لحكام البنوك المركزية.
وعلى الرغم من تأكيد اقتصاديين أن الاحتياطي الفيديرالي لا يرغب فعلا بتغيير أسعار الفائدة خلال الفترة التي تسبق الانتخابات، إلا أن المسار الذي اتبعه خلال ولايتيه، يشير إلى أنه يستجيب للبيانات ويتحرك وفقها، بعيدا من الشعبوية والمصالح السياسية.
لن يستجيب جيروم باول لضغوطات دونالد ترمب ويحقق رغباته، وهو الذي عينه رئيسا للاحتياطي الفيديرالي عام 2018، ولا هو في صدد الامتناع عن اتخاذ قرار مفصلي بخفض الفائدة، قد يعزز موقع كامالا هاريس التي عارضت التجديد له
لكن ماذا لو استمرأ رجل في موقعه لعب السياسة، فسيكون ولا شك الناخب الأكبر في الولايات المتحدة اليوم. لكن من الواضح أن باول، ليس حاكم البنك المركزي الليبي الصادق الكبير الفار من بلاده مثلا، ولا غيره، وهو أكد في أكثر من مناسبة موقفه إزاء تزامن قرارات الفيديرالي مع الانتخابات الرئاسية، بقوله: “عندما يتعلق الأمر بالانتخابات، نحن في سلام بشأنها، ونعلم أننا سنفعل ما نعتقد أنه الأمر الصحيح، في الوقت الذي نعتقد أنه مناسب”.
لعل هذا تحديدا هو الجزء الصعب، معرفة ما هو مناسب للاقتصاد. إلى بضعة أشهر مضت، كان الاهتمام الرئيس لباول هو التضخم. إلا أنه لم يخف تخوفه في مارس/آذار الماضي، من خطر مزدوج: “نحن في وضع حيث إذا خفضنا سعر الفائدة أكثر من اللازم أو مبكراً جداً، فقد نشهد عودة التضخم، وإذا أقدمنا على خفضه بعد فوات الأوان، فقد نلحق ضرراً غير مرغوب فيه بالتوظيف والحياة العملية للناس”. لا شك أن ذلك ينم عن الحذر الذي تتسم به آراء باول، وهو الحذر الذي يعد إحدى أفضل السمات لدى أي محافظ مركزي.
نزعة ترمب لتسييس الفيديرالي
سبق لترمب أن حذر من خفض أسعار الفائدة قبل وقت قريب من الانتخابات الرئاسية قائلا “ان هذا أمر لا ينبغي للاحتياطي الفيديرالي القيام به، وباول يجب ان يعرف ذلك”.
لكن شاء ترمب أم أبى، فإن موقفه المنتقد عزم باول خفض الفائدة، أكسب الديمقراطيين نقاطا إضافية مع دعوة الرئيس الأميركي جو بايدن الصريحة من البيت الأبيض إلى احترام استقلالية الاحتياطي الفيديرالي.
لربما شخصية ترمب المتفردة، تفترض وجوب ولاء باول له، وهو أول من عينه في منصبه في ولايته الأولى كرئيس للاحتياط الفيديرالي عام 2018، قبل أن يجدد بايدن له لولاية جديدة في عام 2022. لكن ما هكذا تعمل الدول، وخصوصا الولايات المتحدة، ولا ريب أن قوة الدول وعظمتها تقاس في هذا الزمن بمتانة اقتصاداتها وصحتها، ورفاه شعوبها الذي يرتكز على توفير فرص العيش الكريم، الأمر الذي تلعب فيه المصارف المركزية الدور الأساس، الذي لا يستقيم من دون استقلاليته المطلقة.
شاء ترمب أم أبى، فإن موقفه المنتقد عزم باول خفض الفائدة، أكسب الديمقراطيين نقاطا إضافية مع دعوة الرئيس جو بايدن الصريحة من البيت الأبيض إلى احترام استقلالية الاحتياطي الفيديرالي
ولطالما نَعِم الاحتياطي الفيديرالي بالاستقلالية في العلاقة التي تربطه بالكونغرس. إذ يعمل الأخير على تحديد أهداف السياسة النقدية، كالحد الأقصى للتوظيف، واستقرار الأسعار، ومعدلات الفائدة على المدى الطويل، إلا أنه أعطى البنك المركزي استقلالية كاملة لتحقيق هذه الأهداف.
لكن المرشحين إلى أي انتخابات، لا سيما الانتخابات الرئاسية التي تحتدم فيها المنافسة، غالبا ما يضربون بعرض الحائط القوانين المرعية في أي منظومة من شأنها التأثير على فرصهم في صناديق الاقتراع، وتاليا على نتائج الانتخابات، ودعم مرشح على حساب آخر. ولم يخف ترمب عبر مستشاريه في أبريل/نيسان المنصرم سعيه للعب دور أكبر في المسار المستقبلي لأسعار الفائدة، كما أوردت صحيفة “وول ستريت جورنال”.
هل فات أوان تأثيره على مسار الانتخابات
تاريخيا، وفي الفترة التي سبقت انتخابات عام 1972، أصدر الرئيس ريتشارد نيكسون توجيهاته لرئيس الاحتياطي الفيديرالي آنذاك، آرثر بيرنز، لإصدار أسعار فائدة محفزة، على أمل أن يساعده ذلك في تأمين فوزه في الانتخابات. وفي حين أن الوضع الاقتصادي اليوم بعيد كل البعد عن الركود التضخمي الذي شهدته السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، فإن تآكل استقلالية الاحتياطي الفيديرالي قد يضع البلاد على مسار مقلق يسبب تهديدا مباشرا للاستقرار المالي والنمو الاقتصادي.
تعامل باول برصانة حتى اللحظة في شتى الملفات، ويبدو أن مرشحه الدائم والوحيد هو الاقتصاد الأميركي الوطني، كما يفترض بالدول التي تحترم نفسها، ومن المؤكد أن ترمب لن يعيد، في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية، تعيينه لولاية ثالثة
في هذه المرحلة، وعلى الرغم من تأخر الفيديرالي، الى حد ما، في اتخاذ اجراء لتيسير السياسة النقدية، من الأرجح ألا يكون لقراراته تأثير أساسي على الاقتصاد في الفترة القصيرة الفاصلة قبل الانتخابات الرئاسية. علما أن تقريرا حديثا لـ”أكسفورد إيكونوميكس” لفت إلى أن نتائج الانتخابات يمكن أن تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد واتجاه السياسة النقدية.
إقرأ أيضا: هل يجوز لمحافظي البنوك المركزية أن يتجادلوا في العلن؟
الخلاصة الأهم، أن جيروم باول تعامل برصانة حتى اللحظة في شتى الملفات، ويبدو أن مرشحه الدائم والوحيد هو الاقتصاد الأميركي الوطني، كما يفترض بالدول التي تحترم نفسها، ومن المؤكد أن ترمب لن يعيد، في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية، تعيين باول لولاية ثالثة بعد انتهاء ولايته في عام 2026.