عادل رفيق
نشرت مجلة فورين أفيرز الأمريكية في 17 سبتمبر 2021 مقالاً لجيسيكا تي ماثيوز، الباحثة المتميزة والرئيسة السابقة لمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، قدمت فيه رؤيتها لكيفية ضبط الدور العالمي للولايات المتحدة ما بعد الانسحاب من أفغانستان ، وذلك على النحو التالي:
على مدى ثلاثين عاماً، منذ نهاية الحرب الباردة، ظلت الولايات المتحدة تبحث دون جدوى عن تحديد هدف لقوتها العالمية التي أصبحت لا تُضاهى الآن. فرغم أنه لا توجد هناك أي دولة أخرى (أو حتى مجموعة دول، على غرار الاتحاد الأوروبي) تضاهي قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية مجتمعة، إلا أن الولايات المتحدة أساءت استخدام هذه اللحظة النادرة في التاريخ، وهي تجرّب وتستبعد العديد من الحُجج المنطقية التي تكون عنواناً لدورها العالمي، حيث أثبتت التجارب عقمها أو عدم قبولها جميعاً. لقد جرّبت الولايات المتحدة أولاً تسويق الدور الشامل “للأمة التي لا غنى عنها” للعالم، ثم القوة الرئيسية التي تتولى تشكيل النظام العالمي الليبرالي، ثم قوة الادعاء الرئيسية في “لحرب العالمية على الإرهاب”، ثم الحامي والمروِّج للحكومات الديمقراطية (بما في ذلك إمكانية تغيير الأنظمة بالقوة)، وأخيراً زعيمة الجانب الديمقراطي في الصراع العالمي بين الحكومات الديمقراطية والسلطوية. وطوال الوقت، كان اعتماد واشنطن على استخدام القوة العسكرية يتزايد أكثر فأكثر، وفقدت الثقة في استخدام الدبلوماسية بشكل منسَّق كوسيلة للتعامل مع الخصوم، بسبب قلة استخدامها لها من الأساس.
لقد أخفى التهديد الوجودي التي كانت تمثله الحرب الباردة خلافات عميقة حول توصيف الموقف العالمي المناسب للولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين، احتدم الجدل دون حسم بين أولئك الذين يعتقدون أن المصالح الأمريكية عالمية ويطالبون بتبني قيادة عدوانية، وأحادية الجانب في كثير من الأحيان، في معظم القضايا؛ وبين أولئك الذين يرون تبني مفهوم أضيق للمصلحة الوطنية ولكن نهج أكثر تعاوناً في السعي لتحقيقها. ولكن يبقى السؤال الأصعب المتعلق بالعناصر التي تُشكّل المصالح الأساسية الحيوية للأمن القومي دون إجابة. وعلى الرغم من هذه الانقسامات، فقد تخلّى الكونجرس إلى حد كبير عن اتخاذ موقف جاد في السياسة الخارجية، حتى فيما يتعلق بمسؤوليته الدستورية عن إعلان الحرب. وبخلاف التجارة، لم يصادق مجلس الشيوخ سوى على معاهدة واحدة متعددة الأطراف خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، بينما رفض العديد من تلك المعاهدات التي كانت إما مبادرات خاصة من الولايات المتحدة (مثل معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية) أو تلك التي تجسد القيم الأمريكية (بروتوكول التعذيب)، أو تمثل أهدافها (بروتوكول كيوتو بشأن المناخ)، أو حتى التشريعات المحلية (تقييد التجارة الدولية في التبغ).
قد تكون هناك فرصة سانحة الآن للشروع في إنهاء هذا المأزق. فبمجرد أن ينصرف الانتباه من الأخطاء التكتيكية التي ارتكبت في الأسابيع الأخيرة من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ليتحول إلى انحراف الهدف وخداع الذات خلال السنوات العشرين الماضية، فإن صدمة الفشل الذي مُنيت به الولايات المتحدة في أطول حرب أمريكية على الإطلاق قد توفر لحظة مفتوحة لإعادة النظر في القائمة الطويلة من التدخلات السابقة وإعادة النظر في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة على نطاق أوسع.
مآلات محتومة
تتمثل الخطوة الأولى نحو إعادة التقييم في الاعتراف بأن ما حدث في أفغانستان يماثل ما حدث في تجارب الماضي. في عام 2003، قام الخبير السياسي مينكسين باي بفحص سجل التدخلات العسكرية الأمريكية بهدف تغيير النظام بالقوة. وكان مقياس نجاحه هو ما إذا كانت الديمقراطية استمرت في الوجود بعد عشر سنوات من رحيل القوات الأمريكية. واستطاع أن يحدد أربع نجاحات فقط من بين 16 محاولة من هذا القبيل: ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وهما الدولتان شديدة التقدم اللتان استسلمتا بعد خوض حرب شاملة؛ وغرينادا وبنما، الدولتان الصغيرتان، حيث قامت الولايات المتحدة بتدخلات سريعة فيهما لمدة أقل من عام.
وتشترك قصص النجاح تلك في العديد من الخصائص، بما في ذلك الهوية الوطنية القوية، والقدرة العالية للدولة، وتوفر درجة عالية من التجانس العرقي، والمساواة الاجتماعية والاقتصادية النسبية، والخبرة السابقة – وإن كانت قصيرة – مع فعالية سيادة حكم القانون. أما الانقسامات العرقية والدينية العميقة فقد كانت قاتلة، وكذلك الوقوف إلى جانب نخبة حاكمة تفتقر إلى الشعبية، خاصة إذا كانت غارقة في الفساد.
نشر باي دراسته في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تعلن نهاية “القتال الرئيسي” في أفغانستان والانتقال إلى “الاستقرار وإعادة الإعمار”. وكان هناك 8,000 جندي أمريكي فقط في أفغانستان في ذلك الوقت. ما يبدو واضحاً الآن – وما كان يجب أن يكون كذلك – هو أن أفغانستان لم تتوفر على أيّ من الصفات التي قد تُنبئ بالنجاح، بل إنها حازت كل تلك الصفات التي تنذر بالفشل. وبغض النظر عن الحالات الخاصة لألمانيا واليابان، وبافتراض أن أفغانستان لن تصبح دولة ديمقراطية بعد عشر سنوات من الآن، فإن معدل فشل الولايات المتحدة هو 86%.
ومن بين الدروس العديدة التي ينبغي استخلاصها من هذه التجربة، هناك ثلاثة دروس أساسية:
أولاً، من بين كل القوى التي تدخلت عسكرياً خلال الحقبة الاستعمارية وما بعد الحقبة الاستعمارية، فإن الولايات المتحدة أساءت بشكل خاص في تجاهلها لتاريخ وثقافة وقيم الدول التي تتدخل فيها. وهذا ليس نتيجة الجهل. ولكن ببساطة لأنه عادة ما يكون الأفراد ذوو المعرفة المتصلة بتلك القضايا غير موجودين عند وضع سياسة المستوى الأعلى. ويتم التعامل بشكل روتيني مع التاريخ والثقافة كخلفية أو سياق وليس كعوامل حاسمة من شأنها أن تحدد النجاح أو الفشل – كما فعلوا ذلك بشكل واضح في أفغانستان.
ثانياً، ما حدث في أفغانستان لم يكن بسبب الافتقار إلى المعلومات الاستخباراتية الجيدة. فعبر التاريخ، كان الشكل الأكثر شيوعاً لفشل الاستخبارات هو فشل القادة المدنيين والعسكريين في الاستماع إلى ما لا يريدون سماعه. ففي بداية رئاسته، أمر باراك أوباما بإجراء دراسة خلال ستين يوماً لتشكيل استراتيجية للولايات المتحدة في أفغانستان. وكتب في مذكراته أن التقرير الذي تمت صياغته “أوضح شيئاً واحداً. ما لم تتوقف باكستان عن إيواء طالبان، فإن جهودنا لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل في أفغانستان محكوم عليها بالفشل”. وعلمت وكالات الاستخبارات الأمريكية أن الروابط بين باكستان وطالبان كانت عميقة وطويلة الأمد وأن باكستان كانت توفر ملاذاً آمناً لمقاتلي طالبان وقياداتها. وكان ينبغي أن يكون الاستنتاج هو أن الولايات المتحدة يجب أن تكسر بطريقة أو بأخرى تلك الرابطة أو تخفض خسائرها في بناء الدولة في أفغانستان. وبدلاً من ذلك، لاحظ صناع السياسة المشكلة، وحاولوا تحسينها دون جدوى، ثم مضوا قدماً في طريقهم على أي حال.
ثالثاً، وهو درس يشكل أحد الإجراءات العملية: إذ لا يمكن لصانعي السياسة الأمريكيين الاعتماد على الجيش لاستنتاج أن المهمة غير قابلة للتحقيق. فالقيمة الأساسية للجيش هي تنفيذ أي مهمة يتم تكليفه بها. وشغله الشاغل في ذلك هو “إمكانية الفعل”. فالجنرالات يمكنهم تحديد الصعوبات المتوقعة مقدماً، ولكن بمجرد بدء المهمة، سيصرّون على أن الأمور تتحسن أو أنها ستتحسن في حال توفير المزيد من المال والوقت والأسلحة والقوات. ولن يشكك الجيش أبداً في مدى صحة المهمة. وهذا يعني أن على الرئيس الذي يدرك أن الدولة قد اتخذت أمراً لا يمكنها تحقيقه، عليه في مرحلة ما أن “يرفض نصيحة جنرالاته”. يجب على الأمريكيين أن يدركوا الشجاعة الأخلاقية النادرة التي مارسها الرئيس جو بايدن في القيام بذلك ويكافئوه عليها – وهو أمر فشل ثلاثة رؤساء قبله في استدعائها.
وجدير بالذكر أيضاً أن لدى الولايات المتحدة عادة المبالغة في تقدير عواقب إخفاقاتها. ففي الأسابيع القليلة الماضية، كان هناك حديث عن “نهاية الإمبراطورية”، و “عودة إلى الانعزالية”، ومكاسب ضخمة يمكن أن تعود على روسيا والصين (والتي قد تكون مثقَلة بتداعيات الحرب الأهلية المستمرة في أفغانستان، وتزايد إنتاج الأفيون، وتصاعد التطرف “الإسلامي”). فقد استقبلت نهاية حرب فيتنام بأحاديث مماثلة، ولأسباب أكبر من ذلك بكثير. ولكن بعد ذلك بخمسة عشر عاماً، انتصرت الولايات المتحدة في الحرب الباردة وهيمنت على العالم.
الدروس المستفادة
إذا نحّينا مثل هذه التوقعات القاتمة، فما الذي قد يترتب على نهج أمريكي مختلف للسياسة الخارجية؟ يجب أن تكون الخطوة الأولى هي إلقاء نظرة فاحصة على فكرة “الاستثنائية” الأمريكية. فعلى الصعيد المحلي، نجد أن عدم المساواة في الدخول المرتفعة، التوارث الثابت أو المتراجع بين الأجيال، السياسة شديدة الاستقطاب، الانقسام العرقي، تقشي تبني نظريات المؤامرة، تضاؤل الواجب المدني، وحتى علامة الاستفهام الكبيرة التي توضع بجانب الشرط الذي لا غنى عنه للديمقراطية – وهو الانتقال السلمي للسلطة من خلال الانتخابات – كل هذه الأمور مجتمعة تضع “قوة نموذجنا” الأمريكي، باستخدام عبارة بايدن، محل شك في أحسن الأحوال.
إن سِجل الولايات المتحدة في القيادة الدولية محل شك أيضاً. فمنذ منتصف التسعينيات، عندما بدأت الولايات المتحدة في حجب التزاماتها القانونية تجاه الأمم المتحدة ثم الوكالات الدولية الأخرى، يمكن القول إن سياساتها الخارجية، بشكل عام، أضعفت قدرة العالم على حل المشكلات العالمية. فمن بين الاتفاقيات التي رفضتها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، بالإضافة إلى الأمثلة المذكورة أعلاه، معاهدة قانون البحار، واتفاقية حظر الألغام المضادة للأفراد، والمحكمة الجنائية الدولية. في الوقت الذي وافقت عليها معظم دول العالم. كما رفضت التصديق على معاهدات حماية الموارد الجينية، وتقييد التجارة في الأسلحة التقليدية، وحظر الملوثات العضوية الثابتة والقنابل العنقودية، وحماية الأشخاص ذوي الإعاقة. وفي العامين الأولين من رئاسة دونالد ترامب وحدها، رفضت الولايات المتحدة الاتفاقية التجارية للشراكة عبر المحيط الهادي، وانسحبت من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (ثم أعادت التفاوض حولها)، ومعاهدة القوات النووية متوسطة المدى، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، واتفاقية باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني. ويجب الآن تصميم الاتفاقيات الدولية الرئيسية مثل الاتفاقيتين الأخيرين لتجنب التأكيد الرسمي للمعاهدة، لأن العالم يعرف أن الولايات المتحدة لا يمكنها ضمان موافقة مجلس الشيوخ على ذلك. إذا كان ذلك هو ما يُقصد بـ “الاستثنائية”، فإن العالم المترابط الذي يعيش في ظل العولمة يحتاج إلى التقليل منها.
ولتحقيق هذه الغاية، يجب على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في العديد من الممارسات القديمة: يأتي في المقام الأول إعادة النظر في الاعتقاد بأن تجاهل دولة أخرى – رفض الاعتراف بها رسمياً أو التحدث إلى ممثليها – هو شكل مفيد من أشكال القيادة. فعلى العكس من ذلك، هناك دليل واضح – من كوبا وإيران وأفغانستان وأماكن أخرى – على أن هذه الممارسة تضر في الغالب بالولايات المتحدة، وتعيق الدبلوماسية حين تكون الحاجة إليها شديدة، وتستنزف القدر الأدنى من الثقة المطلوبة لتقريب الخلافات، وتستلزم أن يتم تسليم أصعب وأدق المفاوضات إلى وسيط. وبالمثل، فإن الإفراط في الاعتماد على العقوبات، وخاصة العقوبات أحادية الجانب، غير مفيد وينبغي تقليصه بشكل جذري.
تحتاج واشنطن أيضاً إلى إدراك إلى أي مدى أدت سياساتها وإنفاقها وخطابها إلى تعزيز الاعتقاد بأن الشكل الوحيد المجدي للمشاركة الأمريكية في الخارج هو الالتزام العسكري. فخمسة وعشرون عاماً من العمليات العسكرية الأمريكية شبه المستمرة جعلت العالم يتوقع تدخلات أمريكية (في كل مكان)، والعمل على قياس جدية الولايات المتحدة من خلال تلك التدخلات، وأدى ذلك بالطبع إلى تخفيض الأصدقاء والحلفاء من الإنفاق على دفاعهم. وخلال الإدارات الديمقراطية والجمهورية على حد سواء، أغدق أعضاء الكونجرس التمويل على البنتاجون، غاضين الطرف عن هذا الإهدار الهائل في مقابل مقدار الدولارات التي يتم إنفاقها في ولاياتهم ومقاطعاتهم. في الوقت نفسه، يعاني الكونجرس بشكل مزمن من نقص في تمويل وزارة الخارجية وعمليات خارجية أخرى غير دفاعية. ومع تضخم ميزانية الدفاع، أصبحت الفجوة بشعة في ذلك. ففي السنتين الماليتين 2019 و 2020، سعت مقترحات الميزانية التي قدمها الرئيس ترامب إلى زيادة الإنفاق الدفاعي التي كانت تفوق ميزانية وزارة الخارجية بالكامل وميزانية العمليات الخارجية – ومع ذلك كانت تسعى إلى خفضها (ميزانية الخارجية).
يُترجم هذا التفاوت في التمويل إلى تباين هائل في رأس المال البشري والقوة التشغيلية – وهو تفاوت يتفاقم بفعل نظام المحسوبية السياسية الذي يضع مناصب السفراء بشكل روتيني في أيدي مانحين غير مؤهلين تماماً لهذه المهام. وفي كثير من الأحيان، يؤدي نقص الموارد في أماكن أخرى إلى إجبار البنتاجون على الاضطلاع بواجبات إنسانية ومتطلبات حوكمة لا تتناسب معه وتكون الخيار الأكثر كُلفة بشكل عام.
وأخيراً، تحتاج سياسات واشنطن بشأن تعزيز الديمقراطية إلى إعادة تقييم شاملة. ففي كثير من الأحيان، تتصرف الولايات المتحدة وكأن الديمقراطية، على حد تعبير السفير الأمريكي السابق تشاس فريمان، هي “النظام السياسي الافتراضي”. على العكس من ذلك، فهي أكثر الأنظمة السياسية من حيث المتطلبات، حيث تتطلب مجتمعاً متعلماً ومتماسكاً نسبياً وقاعدة صلبة للمؤسسات التي يمكن أن يستغرق بناؤها قرناً أو أكثر. ويمكن أن يتطلب وضع الأساس لها التزاماً قد يمتد لعدة عقود، كما فعلت المملكة المتحدة في الهند، وكما فعلت الولايات المتحدة في كوريا الجنوبية. لكن الدول التي ترحب باحتلال أجنبي طويل الأمد شديدة الندرة في عالم اليوم، هذا إن وجدت من الأساس. ولن يكون الدعم الأمريكي الداخلي لمثل هذه الالتزامات مستداماً إلا عندما تكون هناك مصالح إستراتيجية أساسية واضحة للبلاد. إن انتقاد قرار إنهاء الحرب في أفغانستان لافتقاره إلى “الصبر الاستراتيجي” يخطئ في إغفال النقطة التي كان الجمهور الأمريكي يدركها منذ فترة طويلة: لم تكن هناك مصلحة استراتيجية في الحرب التي كانت واشنطن تخوضها هناك. ولا ينبغي أن نضيف هنا أن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق بالقوة – على الرغم من أن الولايات المتحدة تواصل المحاولة في ذلك.
إن الاعتقاد، الذي من الواضح أن إدارة بايدن تتبناه، بأن الديمقراطية تتعرض لهجوم عام من الاستبداد يحتاج أيضاً إلى إعادة التفكير. إن تقسيم العالم على طول هذا الخط يقلل بشكل كبير من فرصة النجاح في معالجة المشكلات العالمية الكبرى – مثل منع انتشار الأسلحة النووية، وتغير المناخ، والصحة العالمية، والجرائم الإلكترونية، والاستقرار المالي. وببساطة، هناك الكثير من الدول الاستبدادية التي سيكون تعاونها النشط ضرورياً في ذلك. ومن الضروري أيضاً أن تكون واشنطن قادرة على التمييز بين المصلحة الذاتية في بلد آخر والحملة الصليبية الأيديولوجية، لا سيما فيما يتعلق بالسياسة الأمريكية تجاه الصين. قد يكون الخطأ في تصميم الحزب الشيوعي الصيني على تعزيز موقعه في الداخل وفي منطقته من أجل الطموح العالمي لتدمير الديمقراطية أمراً كارثياً حقاً، مما يزيد من احتمال نشوب حرب على تايوان ستكون كارثية للجميع.
هذه التغييرات لا تضيف إلى عقيدة السياسة الخارجية الجديدة. فبالنظر إلى وتيرة ونطاق التغيير العالمي الأخير وعمق الاستقطاب السياسي الأمريكي، فإن إمكانية إحراز مثل هذا التقدم حالياً أمر مشكوك فيه. وعلاوة على ذلك، فإن بعض التحولات المطلوبة ليست في نطاق سلطة الولايات المتحدة للقيام بها. فعلى سبيل المثال، سيستغرق الأمر بعض الوقت حتى ترى الدول الأخرى أن الخيار الأمريكي بعدم التدخل في الخارج أو تقليص وجود القوات الأجنبية هو شيء آخر يختلف عن فك الارتباط أو التراجع.
ومع ذلك، فإن هذه التحولات قد ترقى إلى مستوى التغيير الجذري في ممارسات الولايات المتحدة السائدة منذ نهاية الحرب الباردة. فلن تنظر أمريكا إلى نفسها بعد الآن على أنها “الشرطي الذي يؤدي مهمة عالمية”، كما يود أن يفعل المحافظون الجدد، ولن تُقلّص مصالحها الأساسية للدفاع ضد تهديدات الصين وروسيا، كما اقترح بعض الواقعيين. ستؤدي هذه التغييرات إلى تبني سياسة إعادة التوازن بين الأدوات العسكرية وغير العسكرية؛ بحيث تكون أكثر تحفظا في شن التدخلات العسكرية وأكثر حكمة في تنفيذها؛ وأكثر إدراكا للحاجة إلى الأدوات متعددة الأطراف وإمكانيتها؛ وأقل عرضة للأعمال أحادية الجانب – التي غالباً ما تدمر الذات؛ وأكثر عقلانية في موقفها تجاه الديمقراطية في أماكن أخرى. إنها تعني، باختصار، إنهاء فوضى الهيمنة التي طالما تمسّكت بها الولايات المتحدة.
.
رابط المصدر: