في العالم العربي، يتذكر الناس دور الرئيس الأميركي في اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ومحاولاته إعادة حقوق الشعب الفلسطيني. لمناسبة ذكرى ميلاده في 1 اكتوبر 1924، هذه جولة في سيرته
جلست مع الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر أربع مرات في حياتي، كانت الأولى للتعارف قبل الجلسة الثانية المخصصة لإجراء مقابلة معه لصالح مجلة “Forward” السورية الناطقة باللغة الإنجليزية سنة 2009. كنت أول كاتب سوري يجري لقاء مع رئيس أميركي، وقد تم اللقاء يومها في جناحه الخاص بفندق الفور سيزونز في دمشق، ودار حوارنا عن أخطاء السياسة الخارجية الأميركية التي أدت إلى غزو العراق واحتلاله في عهد الرئيس جورج بوش الابن سنة 2003. وكانت المرة الثالثة أثناء حوار أجراه الرئيس مع طلابي في جامعة القلمون الخاصة.
وبعد عام من هذا اللقاء، دُعيت إلى مائدة الرئيس كارتر- أيضا في دمشق- وأجلِستُ إلى يمينه. نظر الرئيس إلى قائمة الطعام “المنيو” أمامه، ثم التفت إلى النادلة وقال: “لا أرغب بأي من هذه الحلويات، هل يمكنك أن تأتيني بطبق من البوظة بدلا عنها لو سمحت؟”. عادت الصبية ومعها طبق كبير من البوظة، بكل الألوان والنكهات، وكان حجمه أكبر بكثير مما يريده الرئيس، فأخذ ملعقته وأخرج منها مغرفة من البوظة، ثم التفت إليّ وقال: “هذه أكثر من حاجتي بكثير… سامي، هل ترغب بقليل من البوظة؟”. لسبب أجهله تماما– وكلنا يرتكب حماقات في حياتنا– اعتذرت منه بلطف، ولكنه عاد وأصر والملعقة ترتجف في يده. وهنا انتبهت سيدة من معاوني كارتر، الجالسة على مقربة منا، وتدخلت لإنقاذ الموقف ومنع مزيد من الحرج، قائلة: “سيدي الرئيس، هل يمكنني تذوق القليل من بوظتكم الشهية؟”. لا زلت أخجل من موقفي هذا- غير المبرر- وفخور جدا باللقاء الذي أجريته مع الرئيس كارتر، وبالهديتين الثمينتين اللتين قدمهما إلي: صورة موقعة منه، وكتاب موقع بقلمه.
ولد جيمس أيرل كارتر في مدينة “بلاين” بولاية جورجيا، يوم 1 أكتوبر/تشرين الأول 1924 لأب ثري من أصول أيرلندية وأم كانت تعمل في التمريض. كان شديد الاعتزاز وفخورا بأصوله الريفية وبأن معظم أجداده كانوا فلاحين. في شبابه المبكر منحه والده قطعة أرض لكي يقوم عليها بزراعة وبيع الفستق، قبل التحاقه بالأكاديمية الحربية أولا ثم بمعهد جورجيا للتكنولوجيا في مدينة أتلانتا، حيث تعرف على شريكة حياته، روزلين سميث، التي أصبحت زوجته سنة 1946. خدم ضابطا في البحرية الأميركية وفي سنة 1952، كان عضوا في فريق سري وخاص يعمل على تطوير برنامج نووي للغواصات، قبل تسريحه من الجيش سنة 1961.
انتسب إلى الحزب الديمقراطي بعدها بعام وانتخب نائبا في مجلس ولاية جورجيا، وكان ذلك في أوج “حركة الحقوق المدنية” التي قادها زنوج أميركا لإنهاء نظام التمييز العنصري ضدهم. كانت أفكاره جريئة جدا وتحررية، مقارنة مع أبناء جيله من الأميركيين، وقد طالب بإنهاء التمييز العنصري، متأثرا بأولاد الفلاحين الزنوج الذين عرفهم عن قرب في طفولته المبكرة بمدينة “بلاين”. وعند انتخابه حاكما على جورجيا سنة 1971، قال كارتر إن عهد التمييز العنصري “قد ولى”.
بعدها بخمس سنوات، أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية، جاعلا “المساواة والتغيير” عنوانا لحملته الانتخابية. وعلى عكس من سبقه في البيت الأبيض، لم يكن كارتر يرى العالم من منظار الحرب الباردة الضيق، ما قلل من فرص نجاحه وصعب من فوزه كونه كان في منافسة أولية مع 16 عضوا من الحزب الديمقراطي، جميعهم أكثر خبرة منه وشهرة، وأكثر انضباطا وتماشيا مع السياسة الأميركية الكلاسيكية، سواء في الداخل أو بما يتعلق بالحرب الباردة.
تزامن وصول كارتر إلى البيت الأبيض مع أزمة الطاقة العالمية التي جاءت في أعقاب حرب أكتوبر وكانت آثارها لا تزال موجودة سنة 1977
خاض الحملة الانتخابية بشغف، بالتعاون مع زوجته، وزار خلالها 37 ولاية وألقى أكثر من 200 كلمة أمام الناس. ومع حلول شهر مارس/آذار من عام 1976، كان كارتر قد تقدم ليس فقط على كل منافسيه في الحزب الديمقراطي، بل على مرشح الجمهوريين أيضا، الرئيس جيرالد فورد الذي كان قد دخل البيت الأبيض بالصدفة بعد استقالة سلفه ريتشارد نيكسون سنة 1974. ويعود الفضل في تنامي شعبية كارتر إلى أنه كان بريئا من كل الأخطاء والمخالفات التي ارتكبت في عهد الجمهوريين، وكان الناخب الأميركي يومها لا يزال غاضبا من العفو الرئاسي الذي منحه فورد لنيكسون، وهذا ما جعل الناخبين يصوتون لكارتر ووعود “التغيير” التي جاءت معه. فاز كارتر على فورد وفي 20 يناير/كانون الثاني 1977، أصبح الرئيس التاسع والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية.
كارتر في البيت الأبيض (1977-1981)
تزامن وصول كارتر إلى البيت الأبيض مع أزمة الطاقة العالمية التي جاءت في أعقاب حرب أكتوبر، وكانت آثارها لا تزال موجودة سنة 1977. اتسمت المرحلة بنقص حاد في الوقود داخل الولايات المتحدة، وارتفاع عالمي في أسعار الطاقة، علما أن المقاطعة العربية رُفعت منذ سنة 1974. طالب الرئيس كارتر بترشيد الاستهلاك ويعود له الفضل في إنشاء ألواح طاقة بديلة على سطح البيت الأبيض، ولمحاربة البرد في شتاء واشنطن القارس، كان يرتدي سترة من الصوف أثناء العمل، آملا أن يكون قدوة لكل موظفي البيت الأبيض. وفي 4 أغسطس/آب 1977، أصدر مرسوما بإنشاء وزارة الطاقة الأميركية، وهي أول حقيبة مستحدثة في أميركا منذ 11 سنة. إضافة إلى أنه كانت له عين ثاقبة تهتم بأدق التفاصيل، وكثيرا ما كان يُعيد الأوراق والمراسلات إلى موظفيه وفي حاشيتها تصحيحات لغوية وضعها بقلمه. كما أنه كان يرفض تلقي الاتصالات من أعضاء الكونغرس، ويغضب شديد الغضب من أي طلبات تُرفع له من باب “الخدمات السياسية المتبادلة”، وكثيرا ما كان ينهر الطالب ويغلق الهاتف في وجه المتصل.
وفي عالمنا العربي، الناس يتذكرون جيمي كارتر لمحاولاته المتكررة الوصول إلى سلام عادل يعيد الحقوق إلى الشعب الفلسطيني. وبعد أشهر قليلة من انتخابه، دعا عددا من زعماء المنطقة لزيارته في البيت الأبيض، كان من ضمنهم الرئيس المصري أنور السادات، والعاهل الأردني الحسين بن طلال، ورئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين، وولي عهد السعودية الأمير فهد بن عبد العزيز آل سعود. ووجه دعوة مماثلة إلى الرئيس السوري حافظ الأسد، وعندما رفض الأخير السفر إلى واشنطن، دعاه كارتر إلى لقاء في مدينة جنيف السويسرية في مايو/أيار 1977.
إسحاق رابين كان أحد المتمرسين في السياسة الأميركية، وهو الذي خدم في واشنطن طيلة تسع سنوات، وقد خرج من لقائه مع كارتر قلقا ومتوجسا مما سمع منه، عن ضرورة تقديم تنازلات “مؤلمة” إلى الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها التخلي عن الضفة الغربية.
لم يكن جيمي كارتر معاديا لإسرائيل كما صوره البعض، ولكنه كان على يقين تام بأن للفلسطينيين حقا في الحياة ولهم مطالب محقة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. وبعد تحرره من قيود المنصب سنة 1981، أصبح كارتر أكثر جرأة في دعمه للشعب الفلسطيني، فقد أدان مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان سنة 1982 وفي سنة 2006، وضع كتابا جريئا بعنوان “Palestine: Peace Not Apartheid” (فلسطين: سلام وليس فصلا عنصريا). وفي هذا الكتاب، الذي عدته جريدة “نيويورك تايمز” من أكثر الكتب مبيعا، وصف كارتر سياسات إسرائيل في الضفة والقطاع بـ”الفصل العنصري”، قائلا إنه “فصل أسوأ من جنوب أفريقيا”.
وعندما اتهمه البعض بمعاداة السامية، رد قائلا إنه يحاول فتح حوار حول القضية الفلسطينية في واشنطن، وهو حوار لم يكن موجود أصلا (بحسب قوله)، مضيفا أن “الأراضي المقدسة” لن تنعم بالسلام ما دامت إسرائيل مستمرة في احتلالها للأراضي العربية. وأخيرا، أضاف: “أعظم مهمة في حياتي هي محاولة إحلال السلام”.
أنور السادات وجيمي كارتر يتحدثان، في 6 سبتمبر 1978 في كامب ديفيد، المنتجع الرئاسي الأمريكي في ميريلاند
لم يكن جيمي كارتر معاديا لإسرائيل كما صوره البعض، ولكنه كان على يقين تام بأن للفلسطينيين حقا في الحياة ولهم مطالب محقة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار
وهذا ما فعله عندما أقنع الرئيس السادات بزيارة القدس في نوفمبر/تشرين الثاني 1977 وبتوقيع اتفاقية كامب ديفيد مع مناحيم بغين في سبتمبر/أيلول 1978. صحيح أن هذه الاتفاقية لم تحقق شيئا للشعب الفلسطيني، ولكنها أنهت حالة الحرب بين مصر وإسرائيل، القائمة منذ سنة 1948.
وبعد خروجه من الحكم، اجتمع كارتر مع بيغن في سبتمبر 1981، ومع ممثلين عن “منظمة التحرير الفلسطينية” في مصر، قبل عدة لقاءات جمعته مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. كما دعاه الرئيس بيل كلينتون لحضور توقيع اتفاقية أوسلو سنة 1993، بصفته عراب السلام في الشرق الأوسط. وفي مذكرته يقول المفاوض الأميركي دينيس روس إن الفضل في مصافحة عرفات التاريخية مع إسحاق رابين يومها يعود لكارتر وحده وليس كلينتون. وعند وفاة عرفات في أحد مستشفيات باريس في نوفمبر 2004، نعاه الرئيس كارتر قائلا: “كان أبا للحركة الوطنية الفلسطينية”.
العلاقة مع الصين وإيران
وفيما يتصل بالعلاقات الأميركية- الصينية، استمر كارتر في سياسة الانفتاح التي أطلقها الرئيس نيكسون قبل سنوات، آملا أن ينجح ذلك في خلق شرخ في علاقة بكين مع موسكو. وفي سنة 1979 أقام علاقة دبلوماسية كاملة مع الصين، ودشن مرحلة تعاون استخباراتي وعسكري بين البلدين. وأخيرا، قام في يناير 1980 بإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع تايوان، ما رفع من رصيده كثيرا في أروقة الحكم في جمهورية الصين الشعبية.
كان الملف الإيراني هو الأخطر في عهد الرئيس كارتر، وبسببه خسر الانتخابات الرئاسية سنة 1980. وقد كانت العلاقة الثنائية بين واشنطن وطهران متينة للغاية يومها على كل المستويات العسكرية والسياسية الاقتصادية، وقد وصف كارتر إيران في عهد الشاه بأنها “جزيرة من الاستقرار”. حل كارتر ضيفا على شاه إيران ليلة رأس السنة، يوم 31 يناير 1977، ولكنه رفض تقديم أي دعم له عند اندلاع الثورة الإسلامية التي أطاحت به وبحكمه سنة 1979. وبعد تنحيه عن الحكم وهروبه خارج البلاد، طلب محمد رضا بهلوي إذنا للسفر إلى أميركا وتلقي العلاج في مستشفياتها، بعد إصابته بمرض السرطان، ولكن الرئيس كارتر رفض ذلك بداية ولم يقبل إلا بعد تردد شديد وتهديد مباشر من وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر بعدم تأييد اتفاقية “SALT II” مع الاتحاد السوفياتي، في حال مُنع الشاه من دخول أميركا. وكانت هذه الاتفاقية قد وقعت من قبل كارتر والزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف في 18 يناير 1978 وكانت تهدف للحد من الأسلحة الاستراتيجية في الحرب الباردة.
جيمي كارتر يحمل نسخة من كتابه الجديد “الإيمان: رحلة للجميع” في حفل توقيع الكتاب في مكتبة بارنز آند نوبل في وسط مانهاتن، 26 مارس 2018 في مدينة نيويورك
وفي سنة 2011، صدر كتاب مرجعي عن حياة الشاه، للمؤرخ الأميركي-الإيراني عباس ميلاني، قال فيه إن جيمي كارتر غضب كثيرا من اتصال كسينجر وأغلق سماعة الهاتف في وجهه قائلا: “تبا للشاه”. ولكنه تراجع وقبل استضافته تحت ضغط كبير جدا من الجمهوريين، وفي 22 أكتوبر 1979، سمح له بدخول الأجواء الأميركية وتلقي العلاج في مدينة نيويورك. ويعتقد كثير من المؤرخين أن هذا القرار– السماح للشاه بدخول أميركا– هو ما شجع على اقتحام السفارة الأميركية في طهران وأطلق ما بات يُعرف بأزمة الرهائن. أما الشاه وفي مذكراته، فيقول إن إدارة كارتر لم تمنحه الرعاية الصحية المطلوبة، وعلى العكس تماما، طلبت منه مغادرة الأراضي الأميركية، ولم تحرك ساكنا عندما قرر الرحيل في 15 يناير 1979.
كان الملف الإيراني هو الأخطر في عهد الرئيس كارتر، وبسببه خسر الانتخابات الرئاسية سنة 1980
قبل سبع سنوات، نشرت قناة “BBC” البريطانية تقريرا مبنيا على “وثائق أميركية سرية”، جاء فيه أن إدارة كارتر كانت على اتصال مع روح الله الخميني أثناء وجوده في فرنسا، ولم تعارض عودته إلى طهران. إحدى هذه الوثائق كانت بتاريخ 9 نوفمبر 1978، وهي عبارة عن رسالة وصلت إلى وزارة الخارجية من السفير الأميركي المقيم في طهران وجاء فيها تحذير بأن عهد الشاه “انتهى” ومن غير المجدي أبدا الدفاع عنه. وفي يناير 1979 أرسل كارتر الجنرال الأميركي روبرت هايسر إلى طهران، بهدف الرفع من معنويات الشاه ودعمه، ولكن التقارير السرية تقول إن الهدف الحقيقي من زيارته كان لتحييد الجيش الإيراني ومنعه من تقديم أي دعم للشاه.
إدارة الرئيس كارتر نفت كل هذه الاتهامات بشدة، وأنكرت مفاوضة الخميني على ترحيل الشاه مقابل إنهاء أزمة الرهائن وإطلاق سراح 52 دبلوماسيا أميركيا محتجزا في السفارة الأميركية في طهران منذ 4 نوفمبر 1979. بقي هؤلاء الرهائن محتجزين لمدة 444 يوما، ولم يُطلق سراحهم إلا بعد خروج كارتر من البيت الأبيض، في مطلع عهد الرئيس رونالد ريغان. كان موقف كارتر الأولي رافضا لأي تدخل عسكري في أزمة الرهائن، معتبرا أن ذلك سيهدد حياة المواطنين الأميركيين في السفارة، ولكنه سرعان ما غير من موقفه وأمر بتنفيذ عملية “مخلب العقاب” يوم 7 أبريل/نيسان 1980، التي فشلت فشلا ذريعا وأدت إلى مقتل ثمانية من الرهائن. جاء هذا الفشل المدوي قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية وكانت نتيجته المباشرة استقالة وزير الخارجية سايروس فانس، أحد أقرب الناس من الرئيس كارتر.
أفغانستان والمجاهدون
بعد 15 شهرا من تولي إدارة كارتر زمام الأمور في أميركا، أحكم الشيوعيون قبضتهم على أفغانستان ووقعوا اتفاقية صداقة مع الاتحاد السوفياتي. جاء بعدها انقلاب داخلي استوفى تدخلا عسكريا من موسكو وخلق حالة من الذعر في واشنطن. كانت الاستخبارات الأميركية يومها تدعم المجاهدين في أفغانستان بشكل لوجستي وخجول، لا تتعدى قيمته 696 ألف دولار، ولكن كارتر قرر رفع القيمة والنوعية، وأمر بتقديم السلاح للمجاهدين العرب والأفغان في ديسمبر 1979، بهدف مقارعة السوفيات وطردهم. وفي 23 يناير 1980، فرض كارتر حزمة من العقوبات الاقتصادية على موسكو، وأوقف العمل باتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية، مع رفع الميزانية الحربية بنسبة 5 في المئة في أميركا. تدفق السلاح الأميركي إلى أفغانستان ووصل مع الوقت إلى أيدي أسامة بن لادن وتنظيم “القاعدة”، ومع ذلك لم يخرج السوفيات من أفغانستان إلا سنة 1989، أي بعد ثماني سنوات من خروج كارتر من البيت الأبيض.
ألقت أزمة الرهائن بظلها الثقيل على الانتخابات الرئاسية الأميركية سنة 1980، والتي تنافس فيها جيمي كارتر مع المرشح الجمهوري رونالد ريغان. كان ريغان ذا كاريزما خاصة، وهو ممثل سابق في هوليوود، خطيب مفوه قريب من القلب، عكس كارتر، الجاد إلى أبعد الحدود. وتمكن ريغان من هزيمة كارتر بسهولة، ليجعله أول رئيس يُخفق في تجديد ولايته منذ سنة 1932 (وهذا ما سيتكرر لاحقا مع الرئيس جورج بوش الأب ومع دونالد ترمب). بدأ كارتر حكمه بنسبة تأييد من الناخبين وصلت إلى 66 في المئة، ولكنه في آخر إحصاء أجري في عهده، تبين أنها تدنت إلى 34 في المئة، وذلك بسبب سوء إدارته لأزمة الرهائن.
حاول البعض إقناع الرئيس كارتر بخوض انتخابات عام 1984 ضد ريغان مرة ثانية ولكنه رفض
حاول البعض إقناع الرئيس كارتر بخوض انتخابات عام 1984 ضد ريغان مرة ثانية ولكنه رفض، وقال إنه يفضل العمل بشكل مستقل، بعيدا عن قيود البيت الأبيض. أسس سنة 1982 “مركز كارتر” لحل النزاعات والدفاع عن حقوق الإنسان في العالم، وفي سنة 1994 لعب دور الوسيط بين إدارة الرئيس كلينتون وكوريا الجنوبية. وفي سنة 1999 زار تايوان واجتمع بالرئيس لي تنغ هوي، كما عارض احتلال العراق بشدة، وهاجم إدارة جورج بوش الابن قائلا إنها غزت العراق بناء على “أكاذيب وسوء فهم”. وفي مايو 2007 رأى أن الرئيس بوش كان “الأسوأ في التاريخ”. وبعدها بشهرين، تعاون مع صديقه نيلسون مانديلا وأطلقا معا منظمة الشيوخ (The Elders) لنزع الخلافات والدفاع عن حقوق الإنسان والمستضعفين، ما جعله يزور عددا من الدول ومناطق النزاعات في العالم، ومنها دارفور وقبرص وسوريا ولبنان.
عارض كارتر الرئيس دونالد ترمب عند انتخابه ولكنه سرعان ما تصالح معه، ليشب الخلاف بينهما مجددا بعد اقتحام مبنى الكابيتول من قبل أنصار ترمب في يناير 2021. وأيد حملة جو بايدن الانتخابية بتسجيل صوتي، ولكنه لم يتمكن من حضور مراسم تنصيبه رئيسا بسبب تقدمه في السن ومرض السرطان الذي أصابه منذ سنة 2015. وفي سنواته الأخيرة، ظل نشيطا ضمن المستطاع، يُدرس في جامعة إيموري في أتلانتا، ويعمل واعظا دينيا في كنيسته المحلية صبيحة كل يوم أحد، والتي نصب بها شماسا.
جيمي كارتر وزوجته روزالين وجهاً لوجه بعد لحظات من أداء اليمين الدستورية في الكابيتول هيل
وقد ظلت الإنجيلية المسيحية دافعا رئيسا في حياته منذ الصغر وحتى الشيخوخة المتقدمة، وكان لا يتردد في الصلاة عدة مرات في اليوم الواحد أثناء وجوده في المكتب البيضاوي، ويقول دوما إن حاميه وراعيه وملهمه هو السيد المسيح.
كان الرئيس كارتر أكبر الرؤساء عمرا في حفل تنصيب دونالد ترمب سنة 2017، وقد حضرها وهو في الثانية والتسعين من عمره. وفي آذار 2019 أصبح أكبر الرؤساء الأميركيين السابقين والحاليين على قيد الحياة، بعد الرئيس جورج بوش الأب الذي توفي عن عمر ناهر 94 عاما في نوفمبر 2018. وفي لقاء أجرته معه مجلة “People” الأميركية، سئل كارتر عن سر حياته المديدة، فقال إن ذلك بفضل إيمانه المطلق وزواجه الناجح، وذلك قبل أن يحتفل بمرور 77 سنة على عقد قرانه على “روزلين” في شهر يوليو/تموز الماضي.