- دفعت أزمة الطاقة التي خلّفها الغزو الروسي لأوكرانيا، وخطط مواجهة التغيرات المناخية التي أطلقها الاتحاد الأوروبي، إلى عودة قوية للطاقة النووية بوصفها خياراً بديلاً وعملياً يمكن أن يحلّ معضلتي استقلال الطاقة والحياد المناخي.
- مع ذلك، يفتقر خيار الطاقة النووية للإجماع حوله داخل المؤسسات الأوروبية بسبب معارضة كتلة من الدول بزعامة ألمانيا في مقابل تحالف تقوده فرنسا، يسعى إلى تحويل الخيار النووي إلى أحد مكونات الاستراتيجية الأوروبية لتحول الطاقة في أفق العام 2050.
- تبدو المسارات المستقبلية للطاقة النووية في أوروبا واعدةً من حيث توقعات زيادة الاستثمار في المفاعلات الصغيرة والآمنة، وعلى مستوى توحيد اللوائح التنظيمية وتبسيطها، فضلاً عن زيادة الاستثمار في الأبحاث المتعلقة بالمفاعلات التجريبية المخصصة لإنتاج النظائر الطبية المشعة.
- سيكون للعودة القوية للطاقة النووية إلى أجندة السياسات الأوروبية –اتحادياً، ووطنياً– تداعيات إيجابية وسلبية على أطر التعاون الأوروبي-الخليجي في مجال الطاقة.
عادت الطاقة النووية، في الآونة الأخيرة، إلى احتلال موقعٍ مركزي في سياسة الطاقة للاتحاد الأوروبي. ولأسبابٍ تتعلق بتحقيق الأهداف المناخية الأوروبية، وتعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية، وضمان استقلالية الطاقة في الاتحاد، توجهت دول كثيرة داخل الكتلة الأوروبية نحو إعادة بناء مشاريعها النووية أو تعزيزها، ضمن ما أصبح يعرف بـ”التحالف النووي الأوروبي”، مع استمرار وجود تناقضات جذرية مع كتلة أخرى من الدول، التي لا تريد إحياء هذا النوع من الطاقة. لكن هذه العودة لا تتعلق بالجوانب الفنية والاقتصادية للطاقة النووية بل بالآثار الجيوسياسية التي ستخلقها على مرونة نقل الطاقة وأمنها، وعلى الابتكار التكنولوجي، وكذلك على الاستخدامات في المجال الطبي.
تسعى هذه الورقة إلى تحليل الأبعاد الجيوسياسية لإحياء الطاقة النووية في أوروبا، والمسارات المستقبلية لهذا الانبعاث على سيادة الطاقة في أوروبا ونفوذ الاتحاد الأوروبي دولياً، وتداعيات ذلك على التعاون الأوروبي-الخليجي في مجال الطاقة.
التحالف النووي الأوروبي وأهدافه
يأتي 25% من الطاقة في الاتحاد الأوروبي من الطاقة النووية، وأكثر من نصف هذه الطاقة يُنتَج في فرنسا. وفي المجمل، هناك أكثر من 150 مفاعلاً نووياً تعمل في مختلف الدول الأعضاء السبع والعشرين. لكن شأنها شأن أغلب القضايا الاستراتيجية في الاتحاد الأوروبي، تبرز الطاقة النووية محور صراع وتناقض بين كتلتين داخل الاتحاد؛ الكتلة الأولى التي تضم ألمانيا والنمسا والدنمارك والبرتغال، والتي تشكك في فاعلية هذا النوع من الطاقة من ناحية السلامة العامة والصحية والتأثيرات البيئية، مُستشهدةً بالكوارث النووية في أوكرانيا واليابان، وكذلك من الناحية السيادية، إذ تتغذى المفاعلات الأوروبية على اليورانيوم المستورد أساساً من روسيا. في مقابل كتلة ثانية تقودها فرنسا، وتضم كلاً من بلغاريا وكرواتيا وفنلندا والمجر وهولندا وبولندا والتشيك ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا والسويد. وهذه الكتلة فضلاً عن تفوقها العددي، تملك مشروعاً مشتركاً يُسمى “التحالف النووي الأوروبي” الذي تأسس في فبراير 2023، كما تملك دوافع موضوعية أكثر قوةً لإثبات نجاعة إحياء الطاقة النووية بوصفها بديلاً أساسياً عن الطاقة الأحفورية في أوروبا.
شكَّلت صدمة الطاقة، التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، أزمةً بنيوية لأوروبا، وانهياراً لنموذج التصنيع والتشغيل الذي استقر في القارة منذ نهاية الحرب الباردة، والذي قام على أساس واردات الطاقة الروسية الرخيصة والقريبة. هذا التحول الهيكلي دفع بقوة نحو بروز أصوات داخل الكتلة الأوروبية تنادي بالعودة إلى الاعتماد على الطاقة النووية كبديل، وهي نزعة ذات طبيعة دولية، فمسار العودة إلى الطاقة النووية ما عاد مقتصراً على القارة الأوروبية، وبخاصة أن هذا النوع من الطاقة يحقق في الوقت نفسه الأهداف الاستراتيجية التي وضعتها المفوضية الأوروبية للتحول المناخي في أفق العام 2050.
وعلى رغم الانقسام الأوروبي الحاد حول المسألة، فقد أغلقت ألمانيا آخر محطة للطاقة النووية كانت في الخدمة في أبريل 2023، إلا أن التحالف النووي بقيادة فرنسا واصل نشاطه داخل مؤسسات الاتحاد مدفوعاً بطول أمد الأزمة، وقد انضمت إليه في مارس الماضي إيطاليا، التي تمثل ثقلاً سياسياً وصناعياً في الاتحاد، والتي أغلقت كل محطات الطاقة النووية في البلاد بحلول عام 1990 في أعقاب استفتاء الشعبي. ويعمل التحالف على أرضية “الاستراتيجية الجديدة لاستخدام الطاقة النووية للاتحاد الأوروبي”، وهي خريطة طريق تضم أهدافاً ومقترحاتٍ يسعى التحالف إلى تحويلها إلى استراتيجية أوروبية تلتزمها كل الدول الأعضاء.
أولاً، الأهداف
ينطلق “التحالف النووي الأوروبي” في مواجهة الكتلة المعارضة من معادلة مفادها أن الخفض السريع والموثوق للكربون لا يتوافق مع التخلص التدريجي من الطاقة النووية في الأمد البعيد، لذلك يُعد الهدف المناخي أساسياً في هذه الاستراتيجية، وحجةً قويةً لإقناع بقية الأطراف المعارضة، إذ تُعد التقنيات النووية ضرورية لتحقيق أهداف إزالة الكربون في الاتحاد الأوروبي. ويعد تحويل الطاقة في الصناعة وقطاع النقل والتدفئة إلى الكهرباء أمراً أساسياً لتقليل انبعاثات الكربون من طريق استبدال الوقود الأحفوري في هذه القطاعات. كما أن إزالة الكربون من إنتاج الكهرباء بحد ذاته يعد من أولويات الاتحاد، ذلك أن مستوى انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن إنتاج الطاقة النووية، عبر دورة حياتها الكاملة، يعد من بين أدنى المستويات بالمقارنة مع مصادر إنتاج الكهرباء الأخرى، وأكثر فعالية من الطاقة الشمسية والهيدروليكية. وحتى على مستوى المساحة، لا تتطلب المفاعلات سطحاً شاسعاً مثل الألواح الشمسية. وبالتالي، تسهم الطاقة النووية في تحقيق هدف الحياد المناخي بحلول عام 2050.
أما الهدف الثاني فهو تحقيق سيادة الطاقة في القارة عبر تخفيض مستوى التبعية التي يعانيها قطاع الطاقة التقليدية، والتي ظهرت بوضوح في خلال الحرب الأوكرانية. وهنا تُعد الطاقة النووية ركيزة أساسية لضمان تنوع مصادر إمدادات الطاقة وأنواعها، وتحقيق الاستقلالية، ودعم القدرة التنافسية. والهدف الثالث يتعلق بتوفير وسيلة مستقرة وموثوقة لإنتاج الكهرباء، مما يسمح بإدارة نظام الكهرباء بشكل يُعتمَد عليه، ويسهم في مستوى عالٍ من أمن الإمدادات، وهو ما يحتاج إليه النموذج الصناعي الأوروبي الجديد. فمع معدل إنتاج مستقر ومتوقع، تحمي الطاقة النووية الاقتصاد الأوروبي من تقلبات أسعار الطاقة، فقد كشفت الأزمة الأوكرانية عن ضرورة استقرار تكاليف الطاقة للحفاظ على القدرة التنافسية.
ثانياً، المقترحات
يقدم “التحالف النووي الأوروبي” مقترحاتٍ للمفوضية الأوروبية وللدول الأعضاء في سبيل تحويلها إلى استراتيجية أوروبية وتشريعاتٍ، وفق ما يأتي:
1. وضع استراتيجية واضحة لإدراج الطاقة النووية ضمن استراتيجية إزالة الكربون في الاتحاد، وبالتالي يجب أن تضمن السياسات واللوائح الأوروبية حوافز كافية لدعم الطاقة النووية من حيث الأهداف، وتبسيط إجراءات الترخيص، والوصول إلى التمويل، كما هو الحال بالنسبة للطاقة المتجددة. ويجب أيضاً الاعتراف بها مصادر طاقة مفيدة لجميع الاستخدامات ومحاور للطاقة، بما في ذلك إنتاج الهيدروجين بواسطة التحليل الكهربائي، وبخاصة أن عدداً متزايداً من الدول الأعضاء يعتزم نشر قدرات إضافية للطاقة النووية أو اتخذت بالفعل خطوات في هذا الاتجاه.
2. وضع إجراءات عملية تتعلق بمسألة التمويل، حيث يطالب التحالف، في سياق المفاوضات الجارية حول إصلاح سوق الكهرباء، بأن تحتفظ الدول الأعضاء بهامش كافٍ لدعم الاستثمارات في الطاقة النووية التي تسهم في أمن الطاقة على المدى الطويل؛ مقترحاً أن تؤسس المفوضية الأوروبية شراكةً بين الدول الأعضاء والمستثمرين الخاصين والمنظمات الدولية، بما في ذلك المنظمات الأوروبية مثل “البنك الأوروبي للاستثمار” و”البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير”، وجميع الأطراف المعنية الأخرى لمناقشة قضية التمويل. وكذلك أن تشجع المفوضية على مراجعة جميع قواعد صناديق الاستثمار لتشمل الطاقة النووية، وأن تكون جميع التقنيات المتوافقة مع التصنيف الأوروبي مؤهلةً للاستفادة من جميع صناديق الاستثمار، مثل “صندوق التحديث” و”صندوق الابتكار” و”صندوق التحول العادل” و”صندوق الاستثمار”، بالإضافة إلى ذلك يجب عدم تمييز التقنيات النووية في استراتيجيات الإقراض الخاصة بالمؤسسات المالية الأوروبية الرسمية. وفي المقترحات العملية والفنية يرى التحالف أن تشرع المفوضية الأوروبية في عملية لتحديد خطوط إرشادية في مجال المساعدات الحكومية، بالتعاون مع الدول الأعضاء، لتسهيل تطوير سلسلة التوريد النووية والمرافق النووية في أوروبا، وفي مجال دعم الابتكار والبحث والتطوير في مشاريع تجريبية، ودعم الصناعة الأوروبية في مجال المفاعلات المعيارية الصغيرة SMR والمفاعلات المعيارية المتقدمة. وفي ضوء المنافسة القوية التي تتزايد على المستوى العالمي، يدعو التحالف المفوضية الأوروبية إلى ضمان وجود ظروف تنافسية عادلة داخل السوق الموحدة لتطوير هذه التقنيات المتطورة لخفض الكربون، وكذلك تشجيع التعاون بين الهيئات التنظيمية الوطنية الأوروبية بشأن المفاعلات المعيارية الصغيرة في إطار مبادراتها ومع المنظمات الدولية.
وعملياً، حقق “التحالف النووي” نجاحاً يمكن قياسه من طريق استقطاب أعضاء جدد، فقد ارتفع عدد أعضائه من 11 دولةً إلى 15 في عام واحد، كما أنه نجح في بلورة أحد أهدافه وتحويله إلى استراتيجية أوروبية، بعد أن أدرجت المفوضية الأوروبية في فبراير الماضي “التحالف الصناعي الأوروبي الجديد للمفاعلات المعيارية الصغيرة” إطاراً رسمياً، وأطلقت دعوةً لتقديم طلبات الانضمام. ويراهن الأوروبيون على المفاعلات الصغيرة والمتوسطة، وهي أقل حجماً بكثير من محطات الطاقة النووية التقليدية، في إنتاج الطاقة في أفق 2030. كما نجح قبل ذلك في إدراج الطاقة النووية ضمن “توجيهات الطاقة المتجددة بالاتحاد الأوروبي”، بعد موافقة الدول الأعضاء على تصنيف الهيدروجين النووي ضمن الطاقات النظيفة.
المسارات المستقبلية
في المديين المتوسط والبعيد، ستكون الطاقة النووية لاعباً أساسياً في حزمة الطاقة الأوروبية. فبالإضافة إلى حالة الطوارئ يفرض الوضع الجيوسياسي الجديد على أوروبا، سواء بصفتها مجموعة أو دولاً وطنية، تعزيز أمن الطاقة، ما يوجب إدراج الطاقة النووية باعتبارها حلاً أساسياً، لأن المقامرة بتبني وسائل الطاقة المتجددة والهيدروجين فقط، يمكن أن يقود إلى استدامة تبعية الطاقة، وإلى عدم الوفاء باستراتيجية الحياد المناخي أيضاً.
من الناحية العملية، سيكون المسار الأبرز مستقبلاً هو ارتفاع حجم الاستثمار في قطاع المفاعلات النووية المعيارية الصغيرة، الفعالة من حيث التكلفة، والأكثر قدرة على التكيف مع مجموعة متنوعة من المواقع، وذات المخاطر الأقل على السلامة من المفاعلات النووية التقليدية، والتي يمكن أن توفر فرصة للدول الأوروبية للتعاون في التصميمات الموحدة وسلاسل التوريد المشتركة والأطر التنظيمية، ما من شأنه أن يخفّض التكاليف ويزيد من ثقة المستهلك والمستثمرين، فضلاً عن التوجه نحو بناء سلاسل توريد أكثر مرونة للوقود النووي، مع مبادرات للحصول على اليورانيوم من دول مستقرة ومحايدة جيوسياسياً، وهنا من المتوقع أن يزيد الاهتمام بأفريقيا بوصفها أحد المصادر الأساسية لليورانيوم.
وفي الجانب التشريعي، من المتوقع أن تشرع دول التحالف النووي في عملية تبسيط اللوائح وتوحيدها، مما يسمح بتبسيط التراخيص ومعايير السلامة وسياسات إدارة النفايات النووية، وقد يؤدي هذا إلى تيسير تنفيذ المشاريع النووية عبر الحدود. ومن المتوقع أيضاً أن يُجرى وضع لوائح جديدة لزيادة الدعم للطاقة النووية من طريق الإعانات المباشرة والحوافز الضريبية. وإذا تم تبني هذه الإعانات، فإنها ستساعد في جعل المشاريع النووية أكثر جاذبية للمستثمرين، وضمان بقاء الطاقة النووية قادرة على المنافسة مع مصادر الطاقة الأخرى المنخفضة الكربون.
أما في الجانب العلمي، فمن المتوقع أن يرتفع حجم الاستثمار في أبحاث الاندماج النووي، إذ يجسد مشروع المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي (ITER) في فرنسا التزام أوروبا بتطوير الاندماج النووي باعتباره حلاً طويل الأمد. وعلى رغم أن طاقة الاندماج النووي لا تزال في مرحلة تجريبية، فمن المتوقع أن تواصل الدول الأوروبية الاستثمار فيها بوصفها مساراً مستقبلياً محتملاً. وإذا أصبحت تكنولوجيا الاندماج النووي قابلة للتطبيق، فقد تتمكن أوروبا من إنشاء شبكة تعمل بالطاقة النووية، مما سيحقق نقلة نوعية، مناخياً وصناعياً وجيوسياساً بالنسبة للاتحاد. فضلاً عن زيادة الاستثمار في الأبحاث المتعلقة بالمفاعلات التجريبية المخصصة لإنتاج النظائر الطبية المشعة، التي تُستخدم بشكل أساسي لأغراض التشخيص والأغراض العلاجية (لعلاج السرطان).
على مستوى الاتحاد، من المرجح أن يُعمِّق الانقسام حول دور الطاقة النووية التناقضَ الفرنسي-الألماني، الذي أصبح المحور الأساسي للانقسام داخل الاتحاد الأوروبي. إذ تريد فرنسا، عبر ريادة نموذجها في التكنولوجيا النووية، توسيع نفوذها الأوروبي من طريق تأكيد التحالف النووي. فبالإضافة إلى توفير مصدر للطاقة منخفضة الكربون للبلاد، تمثل الطاقة النووية حالياً ثالث أكبر قطاع صناعي في فرنسا وسوقاً مهمة للصادرات والابتكار الصناعي، كما يوفر هذا القطاع 200 ألف وظيفة ماهرة غير قابلة للنقل، موزعةً على 2600 شركة في جميع أنحاء البلاد. وفي المقابل تريد ألمانيا بناء نموذج بديل يقطع مع جميع أنظمة الطاقة التقليدية، الأحفورية والنووية، وهي تخشى أيضاً من أن تطوير الطاقة النووية سيجعل فرنسا القوة الأبرز أوروبياً، اقتصادياً وتقنياً وجيوسياساً، لذلك فإن المسار المستقبلي لتطور دور الطاقة النووية وإنتاجها في أوروبا سيكون متصلاً بطبيعة التناقض الفرنسي-الألماني.
وعلى المستوى الجيوسياسي الأوسع، من المتوقع أن تتفوق الصين على أوروبا والولايات المتحدة بحلول عام 2030 تقريباً من حيث القدرة النووية، بالاعتماد بشكل أساسي على التقنيات المحلية. إذ تمتلك الصين، وروسيا، برامج تطوير نووي مستقبلية أكثر قوة وأفضل تحديداً من معظم الاقتصادات المتقدمة. وبحلول منتصف العقد المقبل سوف تتجاوز قدرة الإنتاج النووي لدى البلدان الناشئة والنامية أيضاً قدرات الاقتصادات المتقدمة، حتى لو جدّدت هذه الأخيرة كل قدراتها النووية الحالية؛ لذلك فإن تطور الطاقة النووية مستقبلاً سيكون له آثار جيوسياسية قوية. فمثلاً على مدى السنوات الماضية، اعتمد ثلثا السوق الدولية التقنيات الروسية، ومع المكانة التي ستحتلها الصناعة النووية الصينية فإنه يمكن لحصة الصينية أن تزداد هي الأخرى. لكن المساحة التي تجري فيها هذه المنافسة واسعة: فمن المتوقع بناء أكثر من 400 مفاعل جديد في جميع أنحاء العالم على مدى السنوات الثلاثين المقبلة، لذلك يسعى الأوروبيون اليوم إلى إدراك هذا التنافس.
التداعيات على التعاون الأوروبي-الخليجي في مجال الطاقة
سيكون للعودة القوية للطاقة النووية إلى أجندة السياسات الأوروبية –اتحادياً، ووطنياً– تداعيات إيجابية وسلبية على أطر التعاون الأوروبي-الخليجي في مجال الطاقة، وعلى نحو أكثر شمولاً للجوانب الاقتصادية والجيوسياسية.
من منظور التداعيات الإيجابية؛ سيُمكِّن تكثيف أوروبا للطاقة النووية من إنتاج المزيد من الهيدروجين منخفض الكربون بواسطة التحليل الكهربائي النووي، ويتماشى هذا مع طموحات دول الخليج في إنتاج الهيدروجين، وهذا يخلق سلسلة توريد منخفضة الكربون مفيدة للطرفين.
وقد تجد صناديق الثروة السيادية الخليجية، التي تسعى إلى تنويع استثماراتها بعيداً عن النفط، في المشاريع النووية الأوروبية عنصرَ جذب نظراً لعوائدها المستقرة وطويلة الأجل. ومن الممكن أن يؤدي الاستثمار في محطات الطاقة النووية، والتكنولوجيا النووية المتقدمة (مثل المفاعلات النووية الصغيرة)، وتخزين الطاقة إلى تعميق الروابط المالية بين الطرفين. ويمكن لدول الخليج الاستفادة من الخبرة الأوروبية المتقدمة في مجال التكنولوجيا النووية ومعايير السلامة، وتعزيز البحوث المشتركة في مجال السلامة النووية، وإدارة النفايات، وتكنولوجيا المفاعلات الصغيرة، ومن الممكن أن يدعم هذا التبادل المعرفي التطلعات النووية لدول الخليج، وبخاصة دولة الإمارات التي كانت أول دولة عربية تَبني وتُشغِّل محطة للطاقة النووية، والسعودية التي تطمح إلى تدشين برنامج للطاقة النووية.
كما أن الاستراتيجية النووية لأوروبا تسمح بالتعامل مع الخليج في سياسات الطاقة الأوسع نطاقاً، وبالتالي تعزيز الروابط الجيوسياسية. ومع تنويع دول الخليج لصادراتها من الطاقة، فإن توافقها مع أهداف الطاقة النووية في أوروبا يمكن أن يحسّن العلاقات الدبلوماسية ويعزز المصالح المشتركة في سياسة الطاقة.
أما من منظور التداعيات السلبية، قد يؤدي زيادة اعتماد أوروبا على الطاقة النووية إلى خفض الطلب على النفط والغاز من الخليج بمرور الوقت، وهو ما يعني فقدان جزء من السوق الأوروبية، وهي سوق أساسية. فضلاً عن المنافسة في سوق الهيدروجين الأخضر، نظراً لأن الهيدروجين الذي تنتجه أوروبا باستخدام الطاقة النووية قد ينافس الهيدروجين المنتج في الخليج، مما يؤثر في الحصة السوقية لدول الخليج. وإذا أصبح إنتاج الهيدروجين الأوروبي أرخص بسبب الطاقة النووية المستقرة، فقد يؤدي هذا إلى تقليل الطلب الأوروبي على الهيدروجين المنتج من منطقة الخليج.
ومن ناحية التعاون التقني، نجد القيود المفروضة على نقل التكنولوجيا، إذ تخضع التكنولوجيا النووية لقواعد تنظيمية صارمة، وقد يواجه نقل التكنولوجيا بين أوروبا ودول الخليج قيوداً بسبب معاهدات منع الانتشار النووي وغيرها من القيود. وقد يمنع هذا دول الخليج من الاستفادة الكاملة من التقدم النووي في أوروبا.
من الناحية الاقتصادية، قد تنطوي التكاليف المرتفعة للاستثمارات على مخاطر مالية طويلة الأجل، وبخاصة في ضوء المشهد التنظيمي المعقد في أوروبا. وقد يواجه المستثمرون الخليجيون تحديات إذا واجهت المشاريع النووية تأخيرات أو تجاوزات في التكاليف أو تحولات في السياسة. إلى جانب المخاطر الجيوسياسية الأمنية، فمن الممكن أن يؤثر الوضع الأمني غير المستقر في الشرق الأوسط على نسق وأمن التعاون في المجال النووي، الأمر الذي قد يؤثر في المصالح الأوروبية الطويلة الأجل في المنطقة، فضلاً عن التوترات التنافسية في أسواق الطاقة العالمية. ومع تكثيف قوى دولية، مثل الولايات المتحدة أو الصين، لنفوذها في قطاع الطاقة في الخليج، فقد يؤدي هذا إلى تعقيدات تنافسية، مما يؤثر في الشراكة الخليجية-الأوروبية.