عقيل سعيد محفوض
في هذه المقالة مقاربة نقدية لتفاعلات كورونا على بنية النظام الاجتماعي في أوروبا والغرب بوجه عام. ويركز الباحث في مقاربته هذه على ما قدمه رهطٌ من المفكرين الغربيين من نقود صارمة لسلوكيات الإدارات السياسية وكيفية مواجهتها للوباء، لكنه يشير بصفة أساسية إلى الأعطال البنيوية التي أصابت المجتمع الغربي في الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والتي كشفت الجائحة ومكامنها وعيوبها الكبرى.
المحرر
مَثَّلَ فايروس كورونا حدثًا صادمًا وجرحًا نرجسيًّا لدى الغرب والعالم، واهتزازًا أو صدعًا آخر لفكرة الغرب عن نفسه وفكرته عن عالمه، وفكرة العالم عنه. وبعد أن كان الحديث عن «نهاية العالم كما نعرفه»، حسب إيمانويل والرشتين، أصبح الحديث عن «إعادة التفكير» في الحياة والإنسان والاقتصاد والسياسة والدولة والتفاعلات الدولية، باعتبار فايروس كورونا. وفي القلب من ذلك حالة الخطر أو الهلع التي أصابت العالم، والعلاقة بين الإنسان وعوامل الطبيعة والبيئة والحيوان.
يحاول هذا النصّ مقاربة الحدث وتأثيراته، القريبة والبعيدة، الواقعيّة والمحتملة، باعتبار آراء عدد من المفكرين الأوروبيين ومواقفهم، مثل: إدغار موران وسلافوي جيجيك وجاك أتالي ويورغن هابرماس ومارسيل غوشيه وآلان باديو وميشيل مافيزولي جورجيو أغامبين وريجيس دوبريه.
غير أنّ النّص لا يمثّل تقصّيًا أو تتبّعًا لآراء المفكرين المذكورين أعلاه ومواقفهم، إنّما هو محاولة في تحليل حدث كورونا وتفكيكه، باعتبار فكرة الحدث لدى جاك دريدا، والتي كان قد ذكرها أو طبّقها في تحليله وقراءته لأحدث 11 أيلول/سبتمبر 2001، أو لنقل إنّه سوف يعمل على قراءة ظاهرة كورونا وتفكيكها، وذلك في أفق فكرة «الحدث» وليس تطبيقًا لها.
يأتي «حدث كورونا» مصدّقًا لتحذيرات وإشارات وتنبيهات سابقة من قبل عدد من المفكرين والفلاسفة في الغرب، حول سيرورة الخطر والتهديد والمخاطرة في حياة الإنسان وعوالمه المختلفة، بدءًا من الفرد ووصولاً إلى الجماعات والدول والبيئة والمناخ والغذاء والدواء…إلخ، فضلاً عن أنّه كان نقطة تَحَوُّلٍ غير مسبوقةٍ – على الأقل بالكيفيّة التي جرت فيها والصدمة التي أحدثتها- في «المحيط الحيوي» للإنسان، سيرورة «الخطر الفايروسي» الكوني الداهم، وخاصّة مع بدايات القرن الحادي والعشرين[2].
ومع حدث كورونا عادت مجدّدًا مدارك التهديد عن إمكانيّة «فناء الإنسان» و«نهاية البشرية»، ليس بفعل فاعل تقليدي أو مباشر، وإنّما كنوعٍ من «الفعل من دون فاعل»،[3] أو «عدو غير مرئي»،[4] يمكن تحميله المسؤوليّة الأخلاقيّة وربّما الجنائيّة عمّا يجري، ذلك أنّ القاتل هنا، وهو «فايروس»، لا يمكن إنزال العقاب به، ولا تنفع معه الضغوط والتهديدات السياسية، ولا أجهزة الأمن والاستخبارات، ولو أنّ ثمّة تجاذبات بين عدد من الفواعل الدولية عن المسؤولية السياسية والأخلاقية لانتشاره، وقد عدّه سلافوي جيجيك «فايروسًا إيديولوجيًّا حميدًا»،[5] بالنظر إلى قدرته التحفيزيّة المحتملة لدى النّاس وتأثيراته على السياسة والثقافة والاجتماع والنظام العالمي برمّته.
هل «انتهى العالم كما نعرفه»،[6] لنكون أمام عالم جديد أو نظام عالمي جديد، أم إنّ فايروس كورونا كان أقرب لحدث «كاشف» عن تحوّلات في العالم وتغيّرات، «لم يكن موعى بها» أو كان «مسكوتًا عنها» أو «لا مفكّر فيها»، «كشف» عمّا كان من ذلك، أكثر منه حافزًا أو خالقًا مباشرًا لمشروع في جديد، وأيّ تأثير للفايروس على السياسة والاقتصاد والاجتماع البشري، وعلى عدد من المقولات والأفكار التي كانت سائدة بخصوص السياسة والدولة والتفاعلات الدولية والصراع على المعنى والقوّة في العالم؟
تُقرُّ البشريّة اليوم بما يشبه الإجماع بأنّ النّظام العالمي «أخفق» في أن يُبرّر نفسه، لكن وعلى الرغم من هول الصّدمة التي أحدثها فايروس كورونا، إلّا أنّها لم تكن القاضية، ومن المحتمل أن يتمكّن النّظام الرأسمالي العالمي من أن «يتكيّف» مع الحدث، وقد يتمكّن من تجديد نفسه، بكيفيّة أو بأخرى، وهذا ما نجح فيه مرارًا، لكنّه لن يعود كما كان، وقد يكون دخل في مرحلة أو أفق تغيير جديد.
أوّلاً: حدث كورونا
يُمثّل فايروس كورونا «حدثًا كونيًا»، حدث بالمعنى الذي يورده مثلاً «جاك دريدا»،[7] ويحيل ذلك إلى «أمر ما» يطرأ بشكل «مباغت» و«لا متوقّع»، و«غير مسبوق» أو «فريد»، في بيئة ما، أو في مكان وزمان محدّدين، ويكون له «وَقْعٌ» في الذاكرة، و«رَوعٌ» في الخاطر.
ويبدو الحدث، وفق «دريدا»، كأنّما هو «خارج السياق»، فلم تسبقه مؤشّرات تمهيديّة مثلاً. وسوف يكون أمرًا «من المستحيل نسيانه» أو «مَحوُه» من الذاكرة الجمعيّة،[8] كما أنّ بَوَاعِثَهُ وربّما مُحرِّكاته افتراضية وإدراكية «أكثر» منها واقعية، أو أنّ الوزن النسبي للعوامل الرقميّة والميديائيّة والمخيال السياسي ربما يكون «أكبر» من العوامل الحدثية والواقعيّة أو الموضوعيّة.
والحدث هنا «يستحدِثُ تاريخًا»، ويكون «حدًّا فاصِلًا»، ليس في مجريات الأمور فقط، وإنّما أيضًا في المدارك والأفكار حولها، وليس فقط أنّ ما بعده مختلف عمّا قبله، وإنّما أيضًا في «أنّه خلقٌ جديدٌ و نشأةٌ مُستأنَفَةٌ وعالمٌ مُحدَث» – بتعبير ابن خلدون – فضلاً عن أنّه يثير أو يشكّل تحديًا معرفيًّا أيضًا لجهة الصعوبات في «تعريفه وتحديده»[9].
ويرى «دريدا» أنّ الحدث العظيم يجب «أن يكون طارئًا ومباغتًا لدرجة أنّه يجعل أفق المفهوم نفسه يهتزّ كما أنّه يشوّش أيضًا الجوهر الذي بمقدوره أن يتيح لنا التعرّف على الحدث ذاته باعتباره حدثًا»[10].
ويتعلّق الأمر بتحديد المقصود بـ «الحدث» عندما نتحدّث عن «فايروس كورونا»، وتحديد أبعاده كمفهوم، وكيف أنّ ما جرى في العالم معه هو «حدث» بـ «كل» أو «كثير» من المضمون أو المخزون الدلالي للكلمة بالمعنى «الدريدي» (نسبة لـ جاك دريدا)، ويزيد على ذلك ما يمكن أن يتوصّل إليه الدارسون والمعنيون من تحديدٍ لـ فواعله وعوامله ومحدّداته، و«ما يَعِدُ به» أو «ما يحيل إليه».
ويمكن تركيز الأبعاد العامّة للحديث عن «حدث كورونا» و«مفهومه» في النّقاط الرئيسة الآتية: (1) «لا متوقع»، (2) «غير مسبوق»، (3) «صادم»، (4) «حدًّا فاصلاً»، (5) «خلافي»، (6) ارتيابي؟ (7) الضغوط المخيالية، (8) لُجِّيٌّ؟
ثانيًا: لا متوقّع!؟
لم يكن حدث كورونا مُتَوَقَّعًا، لا من حيث بدايته، ولا من حيث مساراته اللّاحقة.[11] لا يُغيّر من ذلك القراءات والتقديرات التآمريّة للحدث، كما لا يُغيّر منه وجود بعض الاستبصارات الفكريّة والتحذيرات لدى عدد من مفكري الغرب وغيره، مثل: أولريش بيك وإدغار موران وجاك أتالي ونعوم تشومسكي، وبرتران بادي، حول دخول العالم مرحلة جديدة من مصادر التهديد، ومنها مصادر التهديد البيئيّة والفايروسيّة…إلخ.
في كتابه «أين يسير العالم؟»،[12] يقول إدغار موران: إنّ «الخطر الذي يتهدّد البشريّة لن يكون نوويًّا، بل سيكون تهديدًا للصحّة، خطر كوني لفايروس ما، له قدرة عالية على الانتقال والعدوى». ويقول في حوار صحفي إنّه «كان من الأقليّة التي توقّعت سلسلة من الكوارث من بينها كوارث دمار البيئة ودمار المجتمعات»، ويضيف: «لا أقصد أنّني توقّعت الوباء الحالي، ولكنّي أقصد بأنّه منذ سنوات، ومع تدهور محيطنا الحيوي، كان علينا أن نستعدّ للكوارث. وفعلًا هذا جزءٌ من فلسفتي: «توقّع ما ليس متوقعًا»[13].
ويمكن النّظر إلى «اللا مُتوقَّع» كمفهوم يحاول تقصِّي العوامل والفواعل والمُحدِّدَات المُرَكَّبَة والمُتداخِلة للظاهرة الإنسانية، وخاصّةً في الحالات غير الاعتيادية، مثل الاضطرابات والثورات وتقلّبات الأسواق والأوبئة والكوارث…إلخ.
وثمة أيضاً منظوران أو مستويان لـ «اللا متوقع»:
الحدث الذي لم يخطر على بالِ أحدٍ حدوثُه حتى لحظة الابتداء، إذ لم تكن جائحة كورونا متوقعة، على الأقل بالكيفية التي حدثت فيها.
ما أَعقَبَ ذلك، وما أصبح تحت النظر والتدخُّل والتأثير ولكن -حتى الآن- ليس تحت «التحكُّم»، بمعنى أن أثرها وانتشارها وتداعياتها لم يكن متوقعةً أيضًا.
وهكذا، قد يكون حدث كورونا «لا متوقّعًا» ليس بسبب «طبيعة» و«حجم» الوقائع نفسها فحسب، وإنّما لـ «الكيفيّة» التي جرت بها، و«السيرورات» و«الاستجابات» التي تبعت ذلك أيضًا، ومنها القراءات والمداولات والأسئلة التي أثارتها. انظر مثلاً آراء واستجابات:
ريجيس دوبريه، الذي بدا مصدومًا من «هشاشة أوروبا» و«إخفاق فكرة أوروبا عن نفسها»[14].
وَعَدَّ جورجيو أغامبين ظهور الفايروس فرصة بالنسبة له؛ لإعادة تأكيد أفكاره عن «حالة الاستثناء»، محذّرًا من «توجهات نكوصية» على صعيد الحريات وحقوق الإنسان، ومن تغوُّل السلطات حتى في بلدان مثل إيطاليا ودول أوربية أخرى[15].
وأمّا سلافوي جيجيك فقد وجدها فرصة أيضًا لإعادة طرح مقولاته حول إعادة التفكير في العالم، وضرورة العودة إلى ماركسية أو اشتراكية معدلة/محدثة كأساس لنظام عالمي جديد بدلاً من النظام الرأسمالي العالمي الراهن [16].
وأمّا يورغن هابرماس فيقول إنّ حدث كورونا وحالة الهلع الناتجة عنه يمكن أن تغري بـ«انتهاك مبدأ المساواة الصارمة في المعاملة، من دون النّظر إلى الوضع الاجتماعي والأصل والسن وما إلى ذلك، وبالتالي الإغراء بمساعدة الشباب على حساب المسنين، وحتى ولو وافق المسنّون في موقف أخلاقي من نكران الذات، فمن ذا الذي يمكن أن «يفاضل» بين حياة إنسان وآخر؟ وكيف يعطي الطبيب نفسه الحقّ في اتّخاذ قرار الحياة والموت؟»[17].
أمكن لـ «حدث كورونا» أن يكشف اختلالات وتطوّرات في الوعي البشري، لم يكن موعى بها بالتمام، أو لم تؤخذ بعين الاعتبار حتى لدى أكثر فواعله نباهة وحذرًا واستبصارًا، وخاصّة أنّ الرأسماليّة المتوحّشة أغرقت في «تسليع» كلّ شيء في العالم، من دون أدنى اعتبار للمخاطر المتأتية عن ذلك.
ظهر «حدث كورونا» كما لو أنّه نوعٌ من «مكر التاريخ»، إذ تأتي الأزمات من مصادر وجهات غير متوقّعة، وبكيفيّات مفاجئة. وقد تبيّن أنّ «مكر كورونا» كان مركّبًا، فهو «مكر الحدث» أو «الشرارة الأولى»، و «مكر» سوء التلقي والفهم والتقدير، ومكر «فرط الثقة»، و«وهم القوّة»، و«وهم القدرة» على الاستجابة والحسم، وأمّا الإخفاق في ذلك كلّه تقريبًا فقد كان له وقع الكارثة.
ثالثاً: غير مسبوق؟
نحن أمام «حدث» جعل المشهد الغربي والعالمي على مستوى الوعي ـ وأحيانًا السلوك ـ «مختلفًا بشكلٍ كبيرٍ» عمّا كان عليه قبله، وكاد أن يكون حدثًا «محضًا»، بالمعنى الذي يرد لدى جان بودريار مثلاً،[18] أي عصياً على الفهم، وخاصةً عندما يطال تأثيره كل شيء وفي كل مكان تقريباً، من دون القدرة على «ضبطه» أو «الإمساك به».
عندما نصف «حدث كورونا» بأنّه «غير مسبوق» و«فريد»، فإنّنا نميّزه بكيفيّة مباشرة عن إطار أو مسار تطوّر الظواهر الاجتماعية والثقافية والفكرية، وحتى السياسية ذات «المنشأ الفايروسي»، والتي أسهمت في «إنتاج» النّظام العالمي «الذي كنّا نعرفه»، حسب تقديرات جارد دايموند الانثروبولوجي الذي تقصّى أثر الجراثيم والفايروسات في تطوّر خرائط المعنى والقوّة في النظام العالمي.[19] وهو ما أشار إليه أيضًا جاك أتالي وآلان باديو ارتباطًا بـ«حدث كورونا» مباشرة[20].
ويبدو الحدث كما لو أنّه «خارج السياق»، وذلك بالنسبة للتاريخ القريب، أي منذ عقود عدّة فقط. إلّا أنّ النّظر في فترات زمنيّة مديدة –على طريقة فرنان بروديل- فإنّه يجعل الحدث كما لو أنّه نوع من «التصحيح» في نظرة الإنسان رؤيته، وموضعه وموقعه في العالم، إذ إنّ حدث الفايروس يكشف عن وضع الإنسان أمام نفسه، وعجزه أو إخفاقه في «تدبير التهديد»، قبل أن يكشف (الإنسان) أمام الطبيعة والعالم.
ومع ذلك، فإنّ ما يجري في عالم كورونا «لا منوال» له و«لا نموذج» لـ«الاستجابة»، صحيح أنّ تجربة العالم مع «فايروس إيبولا» مثلاً حقّقت بعض النجاح، إلّا أنّها لم تمثّل «منوالاً»، فقد كانت الظاهرة محدودة تقريبًا، ولم تثر الهلع الذي أثاره فايروس كورونا، كما لم تتطلّب استجابة على مستوى عالمي،[21] إذ إنّ العالم لم يختبر وباء أو جائحة بهذا القدر من الانتشار والخوف والتهديد.
تَحَوَّلت مدارك التهديد الناتجة عن فايروس كورونا إلى جائحة نفسيّة وتدفقات أو تخلّقات مخياليّة حكمت العالم تقريبًا، حالة من «الهلع» لدى الاجتماع البشري، وإلى قوّةٍ ماديّةٍ شديدة التأثير، جعلت من الفايروس «قوّة متعاكسة» التأثير:
فهو «قوّة تحريك» و«تأثير» هائلة لفواعل السياسة والإعلام والصحّة والأمن والميديا والاتّصال… إلخ.
«قوّة عطالة» و«إغلاق» و«كساد» كبيرة، حول العالم، وخاصّة لدى الغرب.
رابعًا: صادم
يكاد مفهوم «الصدمة» أن يكون مفهومًا تفسيريًّا لجوانب عديدة من تفاعل الغرب والعالم مع حدث كورونا،[22] هل إنّ الإنسان، والمقصود هنا الغرب كونه –بنظره ونظر غيره- مركز العالم وعقله ومختبره، مهدّد إلى هذه الدرجة، وهل هو عاجز عن فعل شيء، سوى الحجر والتباعد الاجتماعي (أو المكاني) والإغلاق للأسواق والفضاء العام، والعودة إلى مقاربات داروينية (اجتماعية) ومالتوسية تمثّلت بمقولات ـ قل سياسات ـ «مناعة القطيع» التي تمّ الإشارة إليها صراحة من قبل سياسيي عدد من الدول الكبرى؟[23].
أين النّظم الصحيّة والدوائيّة ومراكز البحوث وسياسات الأمن والدفاع التي كانت تتطلّع لغزو الفضاء، بعدما ظنّت أنّها تجاوزت مصادر التهديد على الأرض، ولكنّها لم تستطع أن تحدّ من تأثير جائحة فايروسيّة، بل لم تستطع حتى الأن أن تتوصّل إلى قراءة أو تفسير حاسم أو مستقرّ بشأن الفايروس وطبيعته وكيفيات انتقاله، أو بروتوكولات علاجه أو احتواء تأثيراته؟
تحدّث يورغن هابرماس في حوار صحفي عن أنّ «جائحة كورونا فرضت على العالم التصرّف عن جهل صريح، حيث يرى النّاس حكوماتهم تتّخذ قراراتٍ مبنيّة على استشارة خبراء علم الفيروسات المعترفين بجهلهم»، وتوقّع هابرماس «أنّ هذه التجربة غير العادية ستترك بصمتها على الضمير العام»[24].
وذهب ريجيس دوبريه إلى القول إنّ وباء كورونا عرّى المجتمعات الأوروبيّة أمام نفسها وأمام العالم، ذلك «أنّ الملوك صاروا عُراة، هل نحن في حلم؟»، يضيف: «إنّ الحُلم يكمن في كوننا كنّا دائمًا نعيش وهم وجود دولة تُخطّطُ وتحمي، فاكتشفنا اليوم أنّها تختبئ وراء جبال من الأكاذيب»[25].
الاستجابات الأوّليّة
الصدمة لم تكن من الفايروس، بالمعنى المباشر، إنّما من حالة العجز أو الإخفاق شبه التام حياله، والتي أعقبت حالة الإنكار والتخلّي والاستخفاف بالفايروس في البداية، ذلك أنّ الغرب والعالم لم يدرك ما كان فيه وعليه، الأمر الذي فتح الباب أمام تساؤلات وتقديرات كان «مسكوتًا عنها»، والأهم أنّها كشفت استعداد الغرب والعالم، لأن يعود إلى تصرفات وتقديرات وخطط استجابة ما قبل حديثة وربّما ما قبل إنسيّة، كما سبقت الإشارة.
تنطوي فكرة – أو مبدأ – الصدمة لدى الغرب على مصدر تأثير خارجي، ذلك أنّ مصادر التهديد كانت بمعظمها خارجيّة، ومنها مصادر التهديد الفايروسية، وحتى البيئية مثل الجفاف والتصحّر والأعاصير وغيرها، ولكن المشهد اليوم مختلف إلى حدّ كبير، إذ إنّ انتقال ما هو «خارجي» إلى «الداخل» حدث بسرعة فائقة، حملته بالمعنى المادي (أي الفايروس تحديدًا) والمعنوي (أي الخوف والهلع والتأثيرات الأخرى) حركة الإنسان والتكنولوجيا، هنا لم يعد ثمّة وجه للحديث عن «داخل-خارج»، عن الغرب وباقي العالم، ذلك أنّ العالم كلّه دائرة فعل وتأثير للفايروس.
يقول ريجيس دوبريه إنّ الوباء وجّه رسالة شديدة القسوة للبشرية: «في الملك أوديب، أرسل أبولو الطاعون إلى طيبه، في القرون الوسطى أرسل الله الطاعون لعقاب البشر على خطاياهم. اليوم نحن نقول إنّها رسالة من (سيدتنا الطبيعة) حتى تُذكّرنا بواجباتنا البيئيّة. نحن في النهاية ننال ما نستحق من عصر إلى آخر»[26].
أدّى الحدث إلى اهتزاز شديد في المدارك والكيفيات والمسارات العامة للسياسات في العالم، بحيث «قَلَبَ» الأوراق و«فَكَّكَ» النمطيات السائدة والمقولات وحتى الاستعارات والمسميات السياسية والرمزية، وكان ثمة حالة من «الدهشة» و«الذهول»، وانكشاف الغرب والعالم على مصادر تهديد عديدة، وبروز انقلاب أو تغير مفاجئ في تقديرات الأمن في العالم.
ولعلّ الأهمّ في الصدمة والهلع هو الجوانب الرمزية والإدراكية والمخيالية حيال الأنا الهووية والدولتية والحضارية والتاريخية، وخاصة الغرب، وقد تحدّث ريجيس دوبريه عن ذلك قائلاً: «نحن في الحروب نموت من أجل شيءٍ ما، وثمّة معسكران، ولكن اليوم نجد أنفسنا أمام فيروس محايد، يحارب العالم بأجمعه: ”ليست له راية، إنّه لا يكره، ولا هدف له من حربه. إنّ المأساوي المؤلم في الأمر هو غياب المعنى، إنّه يكمن في العبث. وهذا ما يجعلنا نعود إلى عبث (ألبير) كامو»[27].
هل هو جرح نرجسي؟
يعدّ حدث كورونا جرحًا نرجسيًّا، أصاب العالم، الغرب على نحو خاص، في أعمق بناه النفسيّة والفكريّة والمخياليّة، فقد كشف أو هتك مدارك المركزية والتفوّق، وهذا قريب من الجرح النرجسي الذي أصاب الغرب نفسه عندما كشف غاليليو أنّ الأرض ليست مركز الكون، على ما ذكر فرويد[28].
ويرى ميشال أونفري أنّ أوروبا أصبحت «العالم الثالث الجديد»، وأنّ الفيروس «عرّى الخيارات الاقتصادية القائمة فيها، سيما وأنّ إرسال الصين مليون كمّامة إلى أوروبا، على شكل مساعدات، أظهر ضعف الأوروبيين الشديد»[29].
رسالة أو صدمة الفايروس لدى الغرب والعالم، أنّه حَطَّمَ أو هَزَّ «مركزيّة الإنسان» في العالم، و«أزاح» الحدود والفواصل بين عوالم الإنسان والحيوان، في مفاهيم الصحّة والمرض، والأثر المتبادل على الوجود البيولوجي، ذلك أنّ حلقة داروين المفقودة التي تتحدّث عن انتقال من القرد إلى الإنسان، تعود إلى دائرة النّقاش والجدال، وربّما تمّ «الكشف عنها»، إنّما بمعنى الاتّصال أو الوصل الوبائي هذه المرّة، صحيح أنّ ثمّة «أمراض مشتركة» بين الإنسان والحيوان، إلا أنّها لم تتّخذ في السابق هذا الأثر أو الخطر الوجودي الصارخ.
يتحدّث آلان باديو عن عودة أمراض أو فايروسات اعتقد الإنسان أنّه تجاوزها، أجيال من الفايروسات لم تعد الاستجابات الطبية قادرة على «احتوائها»، مثل الحصبة والأنفلونزا، بالإضافة إلى ظهور فايروسات جديدة، يقول: «نحن نعلم أنّ السّوق العالميّة من جهة، ومن جهة أخرى وجود مناطق شاسعة تعاني نقص الرعاية الطبيّة وغياب الانضباط العالمي فيما يخصّ التلقيحات اللازمة، ذلك كلّه ينتج حتمًا أوبئة خطيرة ومدمّرة»[30].
إنّ الإنسان هشّ وضعيف حيال أبسط مصادر التهديد في الطبيعة، وإنّ مجرّد فايروس يمكن أن يشكّل تهديدًا وجوديًّا بالفعل، وإنّ ما يحدث في «أطراف العالم» يمكن أن يصل سريعًا إلى «مركزه»، بل إنّ استجابة تلك «الأطراف» –بالإشارة إلى الصين مثلاً- بدت أكثر نجاعةً حيال ذلك التهديد، وإنّ الأوروبيين والغرب عمومًا أخفقوا في تحقيق أدنى قدر من «التضامن» أو «الاستجابة النشطة» حيال الفايروس.
عندما تحدث الصدمة على هذا النحو، فإنّ «بردايغم» التفكير يتعرّض لاختلالات خطيرة، قد تودي به كليًّا، ليس بسبب إخفاقه في تدبير الحدث فحسب، وإنّما بسبب الافتقار إلى أفق للتفكير حيال مصادر تهديد من هذا النّوع، وهو ما يتطلّب إعادة النّظر فيه (البراديغم)، وربّما تفكيكه بكيفيّة أو أخرى، طالما أنّه لم يعد «شغّالاً»، أو لم يعد متناسبًا مع الواقع.
يتحدّث جاك أتالي عن «موجات تسونامي صحيّة واقتصاديّة تضرب العالم»، ويدعو إلى «اقتصاد الحياة»،[31] مثلما يدعو جيجيك إلى تطبيق شيوعيّة أو اشتراكية محدثة،[32] ومثله إدغار موران كذلك[33].
لكن ردَّات الفعل الأهم والأوسع نطاقًا، ربّما أدّت ـ بفعل احتدام الصّراع والتحريض ـ إلى «تنبيه» أو «استثارة» ديناميات «الدفاع الذاتي» أو «التمركز حول الذات»:
الأفراد حيال بعضهم البعض، وحيال المجتمع.
المجتمعات حيال الدول.
المستهلكون أو الزبائن حيال المنتجين والأسواق.
الأسواق حيال المستهلكين والزبائن.
الدول حيال المجتمع.
الدول حيال بعضها أو حيال العالم.
وذلك ليس في مواجهة «الحدث الفايروسي» نفسه، وإنّما بتداعياته الاجتماعيّة والصحيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والقيميّة والسياسيّة والأمنيّة…إلخ، بما يمكن أن يمثّله الإخفاق بالنسبة للشرعية والمكانة، وكذلك الأمر بالنسبة للتداعيات الاقتصادية القائمة والمحتملة[34].
يقول جاك أتالي أيضًا: «إنّ ثبت عجز السّلطات القائمة في الغرب عن التحكّم في المأساة التي أطلّت برأسها، فإنّ منظومات الحكم كلّها، ومعها أسس السلطة الأيديولوجية كلّها، ستكون موضع مراجعة جذريّة، ومن ثمّ سيقعُ استبدالها، ما أن تنتهي الفترة الحرجة، بنماذج جديدة قائمة على نوع آخر من السّلط، وقائمة على الثّقة في نوع آخر من المنظومات القيميّة»[35].
النمط الأكثر سلبيّة من بين أنماط الاستجابة المحتملة أو المفترضة لصدمة كورونا والجرح النرجسي الناتج عنها، وهو الاستجابة النكوصيّة والمتوتّرة. بمعنى الانغلاق على الذّات، وبروز الأفكار الشعبوية،[36] والتمركز حول الدولة، وعودة السياسات التسلّطيّة.
وثمة أنماط أخرى:
الأوّل، هو «إنكار» الأزمة أو بالأحرى إنكار المخاطر المحتملة، أو التقليل من شأنها، الأمر الذي أدّى إلى التغافل عنها، ومن ثم تفاقمها.
الثاني هو إلقاء التبعات على «الآخر»، ومن ذلك حديث الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن «الفايروس الصيني»، واتّهامه الصين بـ«عدم الشفافيّة» و«التباطوء» في معالجة الوباء… إلخ.
أمّا النّمط الثالث، فهو الأقلّ حضورًا، ويتمثّل بمحاولة القيام باستجابة نشطة وفعّالة، باعتبار أنّ ما يجري هو فرصة – تهديد في الآن نفسه، وأنّه سيرورة وعمليّة، وأنّ الأمور تتوقّف على حصيلة عدد من العوامل والفواعل، في مقدّمها «تضامن عالمي» لـ«احتواء» الوباء، ومحاولة تقديم مقاربات «لا نمطية» حياله. وقد تحدّث كلّ من ريجيس دوبريه وجاك أتالي وسلافوي جيجيك عن خطوط تفكير أو خطوط استجابة بهذا الخصوص، كما يريد في غير موضع من هذا النص.
خامساً: حدًّا فاصلاً
يمثّل حدث كورونا «حدًّا فاصلاً» في حياة الإنسان وفي العالم اليوم، وما كان «مناسبًا» أو «صالحًا» للعالم بالأمس لم يعد كذلك اليوم. ويمكن أن نركّز على أبعاد رئيسة لمفهوم «الحدّ الفاصل» وتتمثّل في الآتي:
البُعد الزمني، ويتعلّق بالزمن البدئي كنقطة (أو لحظة) فاصلة بين ما قبل وما بعد.
البُعد المادي، ويتعلّق بالآثار والتداعيات الاجتماعية والاقتصاديّة… إلخ.
البُعد الرمزي المتعلّق بأنّ ما جرى حتى الآن هو «تفكيك» لبنى نفسيّة ورمزيّة وأنماط قيم وسياسات وتنظيمات، وبروز بنى جديدة أو نهوضها.
وقد شكّل الحدث «حدًّا فاصلاً»، بمخاطره الوجوديّة، وإشاراته وتنبيهاته الخلاصيّة، وإنّ بعده الارتدادي أو النكوصي، لا يمثّل قطعيّة بالمعنى المعرفي والسياسي والقيمي، ومن ثمّ فهو حتى الآن «حدٌّ فاصلٌ» بالمعنى التّطوّري والانتقالي، وبتعبير أدق، بالمعنى الاحتمالي. وهكذا:
أثار حدث كورونا ـ في بعض جوانبه ـ أنماطًا من الاستجابات أو التطوّرات الارتدادية نحو الماضي، بالمعنى القيمي والاجتماعي والسياسي، وعلى مستوى الدول، وبالطبع على مستوى التفاعلات الدوليّة والنّظام العالمي.
اتّجاهات انثروبولوجيا وجنيالوجيا الحياة والبقاء. سلوك أنوي فردي وجمعي مفاجيء، وخاصّة في مجتمعات أوروبيّة… استهلاك الخوف والهلع في السعي إلى الحصول على المنتجات الأساسية.
اتّجاهات شعبويّة ونزعات محافظة على مستوى الدول.
أثارت ردود أفعال واستجابات عبّرت عن عقد أو اختناقات قديمة في إذلال واحتقار كذا، الصين حيال الغرب، كما يرد في مواضع أخرى من الدراسة.
لا نتحدّث عن «حدّ فاصل»، وإنّما «مرحلة فاصلة»، وهذا ينسحب على معنى الفترة الانتقالية أو السيرورة التي تبدأ بكيفيّة ما، ولكنّها لا تكون مكتملة، وأيُّ قول باكتمالها هو نوع من البتر والقطع لمسارها، وهذا يذهب بها مذاهب حديّة كالتي سبق الحديث عنها، خلاصيّة أو نكوصيّة، ولا تكون المرحلة الفاصلة خارج هذين الاحتمالين، وإنّما في حالة «بينهما».
سادسًا: خلافي
لم يتمكّن الخبراء، حتى الآن، من التوافق على طبيعة الفايروس، وأنماط انتشاره، وكيفيّات التعاطي معه، وليس ثمّة تعيين دقيق حول أيّ من النقاط المذكورة، ولا حتى «بروتوكول علاجي» أو «بروتوكول» لـ«التخفيف من آثاره»، وكلّ يوم يقرأ المتابعون أفكارًا وتقديراتٍ وملاحظاتٍ جديدةً. ويمكن أن تتدرّج أو تتشكّل الطبيعة الخلافية للحدث بين خلافيّة بسيطة وخلافيّة مركّبة:
الخلافيّة البسيطة أو الطبيعيّة أو التي يمكن تفهّمها، هي ما ذكرناه للتو، أي الجانب الطبّي والتشخيصي، وبروتوكولات العلاج، وتدابير الاحتواء أو الحدّ من انتشاره والحدّ من تأثيراته الصحيّة والطبيّة.
أمّا الخلافيّة الحادّة، فتتعلّق أيضًا بمنشأ الفايروس، هل هو طبيعي أم نتيجة مختبر، وهل انتشر بشكل طبيعي وتلقائي أم ثمّة رهانات قصديّة وسياسات بهذا الخصوص.
إنّ المهمّ هو في المنعكس السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقيمي للظاهرة؛ وأمّا الجانب الأهم فيتعلّق بما يكشف عنه وما يعد به في السياسات الدولية، وفي رهانات وتجاذبات القوة والمعنى في العالم، وحول النموذج السياسي الأصلح الأكفأ في التفاعل معه.
عزّز حدث كورونا نوعًا من الصداميّة في السياسة، وحفّز مدارك تهديد-فرصة اتّجهت للتمركز حول «الأنا» في مواجهة «الآخر»، الأمر الذي رفع الجدران وباعد بين مختلف الفواعل الدولية، الدول الكبرى بصفة خاصّة، والولايات المتحدة والصين بصفة أخص. وقد تذهب الأمور بين الدولتين المذكورتين إلى المزيد من التوتّر والاحتدام في الصراع على القوّة والمكانة في النظام العالمي.
يمكن الإشارة إلى مستوى آخر من الخلافيّة النشطة حول ما يُسمّيه برتران بادي «سياسات الإذلال» في العالم،[37] مصدره الغرب وفواعله الكبرى، ومحلّه أو موضوعه «باقي العالم»، وخاصّة الفواعل الناهضة فيه مثل الصين وروسيا على نحو خاص، إذ إنّ الولايات المتحدة أخذت تنظر إلى روسيا بوصفها «عقبة» أمام تفرّدها على قمة النظام العالمي، وإلى الصين بوصفها دولة تريد أن تخرج من أسر «الإذلال» و«الاستخفاف» الأميركي والغربي بها.
ويبدو أنّ الصين أخذت بالفكرة نفسها، إنّما بمنطق معكوس، إذ إنّها أرادت أن تقول للعالم إنّ لحظة أو زمان «الإذلال» و«التقليل من شأنها» لم تعد مقبولة، ورفعت سقف خطابها السياسي والرمزي والقيمي حيال الضغوط الأميركية عليها، وضدّ محاولة واشنطن تحميلها المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن انتشار الفايروس.
سابعًا: «ارتيابي» أو «لا يقيني»
وضع الحدثُ العالم أمام حالة من «اللّا يقين» أو «الارتياب»، يقول إدغار موران: «نحن لا نعلم شيئًا عن مصدر الفايروس، سوق الحيوانات بمدينة ووهان أو مختبر مجاور، ولا علم لنا بالتحوّلات التي حدثت أو ستحدث على هذا الفايروس خلال انتشاره، ونحن لا نعلم متى تتراجع الجائحة وما إذا كان هذا الفايروس سيظل قاتلاً».[38]
ومن ثمّ فإنّ الغموض واللا يقين المُلازم للحدث يتطلّب العمل عليه أو النظر إليه، ليس باعتباره موضعًا للشكوك والهواجس، وهذا ما يحدث عادةً، وإنّما باعتباره موضوعًا للتقصي، وتفكيك الغموض من خلال تقليب الأمور والحفر في طيّاتها وطبقاتها والتراكمات الحَدَثِيَّة والعملية والإدراكية، إلخ، بشأنها؛ ولعلّ أهمّ ما يجب التركيز عليه هو الطابع الارتيابي للحدث بمعنى عدم القدرة على «الإمساك» به وإحكام الرأي بشأنه.
الحدث هو فعل مصحوب باتّجاه، وكلّ فعل مصحوب باتّجاه. ولكن السؤال هو: إذا تمكنّا من تحديد الفعل، فهل يوصلنا ذلك إلى معرفة الاتّجاه والمقصد؟ وهل يكون ذلك بتأثير تطوري (في الواقع) أم تأويلي (في التحليل)؟
نتحدّث عن ارتياب الحدث «الأوّل» أو «البدئي» في مدينة ووهان (الصين)، والأسئلة المثارة حول ذلك، بدء من الحديث عن خطأ في عمل أحد مراكز الأبحاث، إلى ما يقال عن محاولة السلطات التستّر عليه وتجاهل التحذيرات الطبية الأولى، وثمة سرديات عديدة حول مؤامرة ما تكمن خلف ما حدث، من القول بأنّ الفايروس من صنع مراكز أبحاث استخباراتيّة… إلخ.
ثمّة «ارتياب» بخصوص التوقيت، وعلى افتراض أنّ انتشار الفايروس كان نتيجة فعل قصدي أو مدبر، وثمة من يتحدّث بيقين كبير عن ذلك، لماذا حدث ذلك في نهاية العام 2019، وليس قبله أو بعده؟ ليس ثمة مقاربات يمكن التعويل عليها بهذا الخصوص.
ارتياب المكان، لماذا أماكن بعينها؟ ذلك أنّ انتشار الفايروس رسم خطوطًا وخرائط جغرافية معقّدة حول العالم، من دون القدرة على تقديم تفسيرات جديّة حولها؛ ويبدو من الصّعب توقّع أيّ مسارات أو خرائط انتشار للفايروس في المرحلة المقبلة.
ثامنًا: لُجِّي؟
اللُّجَّيّة هنا هي غموض الحدث وصعوبة البحث عن أسبابه وتبين مساراته، وانفتاحه الحدث على الاحتمالات كلّها، بكيفيّة لا يمكن توقّعها، وهذا أمر يخصّ كلّ فواعل الحدث تقريبًا، وليس فقط ما يرتبط بالفايروس نفسه.
والمشهد «لُجِّيّ» بمعنى «اختلال» النواظم الذاتيّة لدى الفاعل، وصعوبة المحافظة على تماسكه واتّجاهه، والواقع أنّ وجود دولة أو دول مركزية، مثل الولايات المتّحدة وعدد من الدول الأوروبيّة، والتي تمثّل «قمة» النّظام العالمي، لم يكن ذا فعاليّة حيال الفايروس، بل لعلّ أنماط التلقّي والاستجابة من قبل تلك الدول، ربّما كان سببًا في الإخفاق العالمي حيال الفايروس.
وثمّة مستوى آخر لـ اللجيّة، ويتمثّل باختلال نظام التفاعل والتراسل بين عدد من الفواعل الدولية نفسها حيال الحدث، وقد أخذت دول مثل الولايات المتحدة من الفايروس مادة أو مناسبة لاستهداف الصين، كما سبقت الإشارة.
واللّجّة هنا ليست استمرارًا ميكانيكيًّا للأزمة الراهنة، أو انسحابًا خطيًّا لها على المستقبل، حتى لو كان ذلك محتملاً لفترة من الزمن، وهي بمعنى أدقّ استمرار المشهد بين أخذ وردّ، تنافر وتجاذب، حال متغيّرة ومفتوحة على آفاق غير منضبطة، إنّها بمعنًى أدقّ التخبّط في اللّجّة (Through Mudding).
خاتمة
«كلّ أزمة في المجتمع يترتّب عنها عمليّتين متناقضتين، الأولى تحفّز الخيال والإبداع للبحث عن حلول، وأمّا الثانية تتنوّع بين البحث عن طريق للعودة إلى الاستقرار كما كان في الماضي، أو التماس العناية الإلهية وكذلك شجب المذنب أو التضحية به». موران. غير أنّ الأزمات الكبرى تحدث فرقًا، قد لا يكون نهائيًّا أو حاسمًا، إلا أنّ الأمور بعدها لا تعود كما كانت قبلها، يكون التغيير أمرًا واقعًا، لكن الفارق ليس فيما يستجدّ أو يقع فحسب أو أساسًا، وإنّما في اتّجاهه وأفقه أيضًا وأوّلاً.
ليس واضحًا ما إذا كانت التغيّرات الملازمة لحدث كورونا سوف يكتب لها النجاح في دفع النظام العالمي ليكون أكثر أمانًا وأكثر توازنًا، حيال مصادر التهديد المستجدّة، ولا ما إذا كانت ستحدث قطيعة فيه لصالح نظام عالمي جديد، «أم إن النّظام المهتزّ سوف يستعيد مكانته»،[39] وربّما يرتدّ إلى حالة أكثر عنفًا وتوحّشًا، لجهة انفجار الصراعات بين فواعله، وبين قوى الثبات-التغيير فيه.
وفي الوقت الذي يلحظ مارسيل غوشيه فيه حاجة العالم إلى «نموذج سياسي جديد»، يبدو إدغار موران غير متفائل، يقول: «ستكون مرحلة ما بعد الوباء مغامرة غير محسوبة العواقب، حيث ستتطور قوى الشرّ وقوى الخير، ولا تزال هذه الأخيرة ضعيفة ومتفرّقة».
ولا يتخوّف جيجيك من ظهور «بربريّة صريحة» أو صراع وحشي على البقاء، وإن كان هذا ممكنًا، وإنّما من ظهور «بربرية بوجه إنساني»، تقوم على فرض معايير وشروط للحفاظ على الحياة، وتستند في تبرير نفسها على «سلطة الخبراء».
ثمة مخاطر «تنطوي على قيمة تحثّ على الفعل»،[40] وهكذا فإنّ إدراك المخاطر المحتملة أو الماثلة يصبح هو سببًا للفعل في الحاضر. وقد نشَّطَ حدثُ كورونا التفكير وكَشَفَ تحولات كثيرة وكبيرة في العالم، لكنّه لم يفعل الكثير حيالها.
ثمة حالة من التردّد والإحجام عن دفع الأمور إلى الأمام، وتردّد وإحجام حتى عن مجرّد الحديث فيها، بل حالة من «النزعة المحافظة» في النظام العالمي، لا تحبّذ تغييره، ولا حتى التخلّص من دينامياته العتيقة والمجهَدة. وهكذا فإنّ في العالم اليوم فواعل عديدة ترغب بالتغيير، إلا أنّها تتهيّب من مجرّد التفكير فيه، فكيف الشروع به!
في الختام،
إنّ العالم اليوم يشهد تمركزًا متزايدًا للثروات والموارد، وانتشارًا متزايدًا للمخاطر،[41] إلّا أنّ رسالة أو درس كورونا الرئيس هو العكس، أي أنّ العالم بحاجة إلى انتشار أكبر للموارد أو توزيعها، وتركيز أكبر للمخاطر أو احتوائها.
——————————-
[1]*ـ باحث وأستاذ العلوم السياسية ـ جامعة دمشق ـ سوريا.
[2]– يخالف المفكر الفرنسي آلان باديو هذا التقدير، يقول «من الواضح أن الوباء الحالي [فايروس كورونا] لا يتعلق بأي حال من الأحوال بظهور شيء جديد بشكل جذري أو غير مسبوق»، متحدثًا عن أنماط أو أجيال سابقة له، وان السلطات لم تخصّص الموارد اللازمة لتمويل الأبحاث التي كان من المؤمل أن تتمكن من احتواء سارس2. انظر: آلان باديو، «حول جائحة كورونا فايروس»، ترجمة: جميلة حنيفي، ملفات تادلة، 26 أذار/مارس 2020،
https://milafattadla24.com/22711.html
[3]– انظر: اولريش بيك: السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة، ترجمة: جورج كتورة وإلهام الشعراني، ط1، بيروت، المكتبة الشرقية، 2010.
[4]– Giorgio Agamben, “Clarifications”, European Journal of PHyoanalysis, 17 -3- 2020.
http://www.journal-psychoanalysis.eu/coronavirus-and-philosophers/
[5]– سلافوي جيجيك: «كورونا فايروس، فايروس الإيديولوجيا»، موقع مونت كارلو، 6 شباط/فبراير 2020.
http://mc-d.co/1SWM
[6]– انظر: إيمانويل والرشتين: نهاية العالم كما نعرفه: نحو علم اجتماعي للقرن الحادي والعشرين، ترجمة: فواز الصياغ، مراجعة: المنامة، ط1، هيئة البحرين للثقافة والتراث، 2017.
[7] – عن مفهوم «الحدث»، انظر مثلاً: جاك دريدا: ما الذي حدث في حدث في 11 سبتمبر؟، ترجمة: صفاء فتحي، مراجعة: بشير السباعي، ط1، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2003، ص 51 وما بعد.
[8] – م.ن، ص 51 – 62.
[9] – جاك دريدا، ما الذي حدث في حدث في 11 سبتمبر؟، م.س، ص 51 – 62.
[10]– م.ن، ص 59.
[11]– الـ «لا مُتوقَّع» هو بالأساس مفهوم فيزيائي يتناول الظواهر «غير المنضبطة» في الطبيعة مثل حركة الغيوم، ودوَّار المياه، وتَقَلُّبَات الطقس، الخ، التي تبدو فوضوية محضة، ويتقصّى وجود «أنماط تحليلية» أو «قوانين كامنة» في تلك الظواهر. جايمس غليك: نظرية الفوضى، علم اللا متوقّع، ترجمة: أحمد مغربي، ط1، بيروت، دار الساقي، 2008.
[12]– إدغار موران، إلى أين يسير العالم؟ ترجمة: أحمد العلمي، باريس: المركز الثقافي، 2007.
[13]– إدغار موران: حوار حول كورونا، 27 أيار/مايو 2020، https://intelligentcia.ma/29468.html
[14]– ريجيس دوبريه: لسنا في حرب مع كورونا، حوار، مجلة Journal du Dimanche، 3 أيار/مايو 2020، الترجمة العربية في:
https://attounisiyoun.com
[15]– Giorgio Agamben, The Invention of an Epidemic, European Journal of Psychoanalysis, 26- 2- 2020.
http://www.journal-psychoanalysis.eu/coronavirus-and-philosophers/ Published in Italian on Quodlibet,
https://www.quodlibet.it/giorgio-agamben-l-invenzione-di-un-epidemia).
[16]– Slavoj Zizek, “Barbarism with a Human Face”, Welt, 19.03.2020,
https://www.welt.de/kultur/literarischewelt/article206829259/Slavoj-Zizek-on-Corona-Barbarism-with-a-Human-Face.html?fbclid=IwAR1UDflSWZJt28MYJgQy25KIVIhMjDCVAKibdVjtBVT6fStEFMKIU82jo2o
[17]– حوار مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس – لوموند الفرنسية / ترجمة: نوفل الحاج لطيف، حكمة، 14 نيسان/أبريل 2020،
[18]– بودريار، جان: المصطنع والاصطناع، ترجمة: جوزيف عبد الله، ط1، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008.
[19]– دايموند، جارد: أسلحة، جراثيم، فولاذ: مصائر المجتمعات البشرية، ترجمة: مازن حماد، مراجعة: محمود الزواوي، ط1، عمان، الأهلية للنشر، 2007.
[20]– قال جاك أتالي إن للأوبئة والأمراض دورًا كبيرًا في التاريخ.
جاك أتالي: «ما الذي ستلده Covid-19؟ هل سيتغير النظام الغربي؟»، العربية نت، 22 آذار/مارس 2020،
https://www.alarabiya.net/ar/politics فيما قال آلان باديو إنّ دور الفايروسات والأوبئة ليس استثنائيًّا في حياة البشر، انظر: آلان باديو، «حول جائحة كورونا فايروس»، ترجمة: جميلة حنيفي، ملفات تادلة، 26 أذار/مارس 2020،
https://milafattadla24.com/22711.html
[21]– يتحدث نعوم تشومسكي عن ان فايروس كورونا هو تطور لفايروسات أخرى مثل سارس كذا. وان إدارة ترامب أجرت تخفضيات في موازنات القطاع الصحي ومكابحة الأوبئة في شباط/فيراري في وقت كان فايروس كورونا يطل برأسه مهدداً العالم. انظر : نعوم تشومسكي، «كيف سيغير كورونا العالم؟»، الحرة، 2 نيسان/أبريل 2020،
https://www.alhurra.com/arabic-and-international/
وانظر: عيسى، سامية: «نعوم تشومسكي: ما بعد كورونا أخطر من الوضع الراهن»، انبدبندنت عربية، 13 نيسان/أبريل 2020.
https://www.independentarabia.com/node/111151
[22]– في العلاقة بين الصدمة والحدث، يقول دريدا، أي حدث جدير بهذه التسمية، حتى لو كان حدثاً «سعيداً»، لا بد له أن يحتوي بشكل أو بآخر على جانب من الصدمة». دريدا، ما الذي حدث؟، ص 70.
[23]– فكرة مناعة القطيع، بريطانبا، وتفويض السلطات الطبية في رسم مسار السياسات، وتفويض الطبيب سلطة تقرير من هو الأصلح لتلقي الرعاية الطبية، انظر: يورغت هابرماس، حوار: حوار مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس – لوموند الفرنسية / ترجمة: نوفل الحاج لطيف، حكمة، 14 نيسان/أبريل 2020.
[24]– حوار مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس – لوموند الفرنسية / ترجمة: نوفل الحاج لطيف، حكمة، 14 نيسان/أبريل 2020.
[25]– ريجيس دوبريه، لسنا في حرب مع كورونا، حوار، مجلة Journal du Dimanche، 3 أيار/مايو 2020، الترجمة العربية في:
https://attounisiyoun.com/
[26]– ريجيس دوبريه، لسنا في حرب مع كورونا، حوار، مجلة Journal du Dimanche، 3 أيار/مايو 2020، 3 أيار/مايو 2020، الترجمة العربية في: https://attounisiyoun.com/
[27]– ريجيس دوبريه، لسنا في حرب مع كورونا، م.س.
[28]– طرابيشي، جورج: من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة، ط1، بيروت: دار الساقي، 2000، ص 9.
[29]– «مراجعات صادمة لفيلسوف فرنسي، هل ستنهار أوروبا وحضارتها العريقة؟»، الجزيرة نت، 20 أيار/مايو 2020،
https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2020/5/20
[30]– باديو، آلان: «حول جائحة كورونا فايروس»، ترجمة: جميلة حنيفي، ملفات تادلة، 26 أذار/مارس 2020،
https://milafattadla24.com/22711.html
[31]– أتالي، جاك: «ما الذي ستلده Covid-19؟ هل سيتغير النظام الغربي؟»، العربية نت، 22 آذار/مارس 2020،
https://www.alarabiya.net/ar/politics/2020/03/22
[32]– Slavoj Zizek, “Barbarism with a Human Face”, Welt, 19.03.2020,
https://www.welt.de/kultur/literarischewelt/article206829259/Slavoj-Zizek-on-Corona-Barbarism-with-a-Human-Face.
[33]– إدغار موران، حوار حول كورونا، 27 أيار/مايو 2020،
https://intelligentcia.ma/29468.html
[34]– بقول جاك أتالي، أن الإفلات من أكبر كساد في التاريخ والخروج من الكابوس الذي يتمكن من العالم، يبقيان رهينَين بالانتقال من “اقتصاد البقاء إلى اقتصاد الحياة». في: جاك أتالي يتبنى «اقتصاد الحياة» للإفلات من أكبر كساد في التاريخ»، العربي الجديد، 28 نيسان/أبريل 2020.
وانظر النص الكامل لنص أتالي في: جاك أتالي، «ما الذي ستلده Covid-19؟ هل سيتغير النظام الغربي؟»، العربية نت، 22 آذار/مارس 2020، https://www.alarabiya.net/ar/politics/2020/03/22
[35]– م.ن.
[36]– يقول المفكر الألماني يورغن هابرماس، ان هذه الأزمة العالمية قد تعطي دفعا للقوى الشعبوية الوطنية التي تهدد أوروبا، بتأثير إخفاق الدول الوطنية، وردة فعل حدسي للتحدي؛ أما الشعبوية «اليمينية» فلها أساب عديدة، ويجب أخذ الظاهرة على محمل الجد. انظر: «كورونا من منظور فلسفي.. هابرماس يرى تصرفا عالميا ينم عن جهل صريح»، الجزيرة نت، 15 نيسان/أبريل 2020.
https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2020/4/15/
وانظر الحوار كاملاً في: حوار مع الفيلسوف الألماني هابرماس – لوموند الفرنسية / ترجمة: نوفل الحاج لطيف، حكمة، 14 نيسان/أبريل 2020، https://hekmah.org
[37]– بادي، برتران: زمن المذلولين: باثولوجيا العلاقات الدولية، ترجمة: جان جبور، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015.
[38]– إدغار موران، حوار حول كورونا، 27 أيار/مايو 2020،
https://intelligentcia.ma/29468.html
[39]– إدغار موران، حوار حول كورونا، 27 أيار/مايو 2020،
https://intelligentcia.ma/29468.html
[40]– بيك، أولريش، السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة، م.س، ص68.
[41]– بيك، أولريش، السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة، م.س، ص 71.
رابط المصدر: