محمد منصور
لم يكن “الطرح النووي” من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ أيام قليلة، والذي لوح فيه باستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا، جديدًا في مضمونه، لكن من حيث الشكل كان والتصريح التالي له والمطابق في مضمونه على لسان نائب رئيس مجلس الأمن القومي ديمترى مدفيديف، يرتبطان بشكل أكبر بما يمكن أن نعده “مرحلة جديدة” تحاول موسكو نقل عملياتها في أوكرانيا إليها.
هذه المرحلة تقتضي تحويل القتال في أوكرانيا -في الذهنية الشعبية الداخلية في روسيا- من إطار “مواجهة التهديد الاستراتيجي الذي يمثله حلف الناتو على روسيا”، إلى “حرب وطنية للدفاع عن الأراضي الروسية”، بشكل يشبه إلى حد بعيد الوضع إبان العمليات العسكرية الألمانية ضد الاتحاد السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية. تحقق هذا التحول يتضمن قرارات أخرى، على رأسها إعلان التعبئة الجزئية لقوات الاحتياط، وتسريع عملية انضمام الأقاليم الأوكرانية المسيطر عليها حاليًا من جانب روسيا، وهي مناطق إقليم الدونباس، بجانب إقليمي خيرسون وزابوريجيا.
الارتباط الوثيق بين التلويح باستخدام الأسلحة النووية وملف ضم بعض الأراضي الأوكرانية إلى الاتحاد الروسي، ظهر بشكل أوضح خلال تصريحات نائب رئيس مجلس الأمن القومي ديمتري مدفيديف، الذي أكد على استخدام موسكو كل سلاح في ترسانتها، بما في ذلك الأسلحة النووية الاستراتيجية، لحماية الأراضي التي ستنضم إلى الاتحاد الروسي. من هذه الزاوية يمكن تفكيك الحديث المتكرر من جانب موسكو عن الأسلحة النووية، والذي يمكن وضعه في إطار “الردع”، رغم وجود احتمالية غير قليلة لاستخدام هذه الأسلحة، لكن عبر شكل مغاير تمامًا لما يقفز إلى الأذهان حين نتحدث عن “سلاح نووي”.
السلاح النووي ضيف دائم في الذهنية العسكرية الروسية
رغم أن دور “السلاح النووي” كقوة ردع قد تراجع بشكل معتبر خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة، الا أن موسكو كانت دومًا تضع هذا الأمر ضمن أولوياتها الاستراتيجية، وهذا اتضح بشكل كبير منتصف عام 2018، حين أعلن الرئيس الروسي عن خمسة أنواع جديدة من المنظومات القتالية، من بينها ثلاثة أنظمة ذات طبيعة نووية، هي الصاروخ العابر للقارات “سارمات”، والطوربيد النووي “بوسايدون”، وصواريخ “كينزال” الجوالة. اللافت أنه بعد هذا الإعلان بشهر واحد، شهد الشمال الروسي حادثًا إشعاعيًا في منشأة عسكرية روسية في منطقة “أرخانجيلسك”، اتضح أنه طرأ خلال تجربة على محرك صاروخي يعمل بالنظائر المشعة.
مع بداية العمليات العسكرية في أوكرانيا، كان ملحوظًا بشكل كبير تناول كلا الطرفين الروسي والأوكراني ملفات تتعلق بالموضوع النووي، حيث لوح الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بانسحاب بلاده من “مذكرة بودابست”، التي وقعتها كييف مع أوكرانيا والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة في ديسمبر 1994، وتنازلت بموجبها عن ترسانتها النووية الموروثة عن الاتحاد السوفيتي، مقابل مجموعة من الضمانات الأمنية التي تعهدت بها موسكو. ورغم أن كلام زيلينسكي جاء في سياق اتهام موسكو بانتهاك بنود هذه الاتفاقية -وهو ما حدث تقنيًا منذ السيطرة على شبه جزيرة القرم عام 2014- إلا أن كلامه تضمن الحديث عن إمكانية استخدام موسكو لقنابل نووية في أوكرانيا، وهو حديث يحمل في طياته مبالغات بكل تأكيد، لكنه ليس بعيد بشكل أو بآخر عن الاحتمالات القائمة.
موسكو من جانبها ردت حينها على حديث زيلينسكي، بإعادة طرح مسألة “اعتزام أوكرانيا حيازة أسلحة نووية”، حيث أشار الرئيس الروسي بوتين إلى أن كييف لا ينقصها الخبرة الفنية أو الإمكانات اللوجيستية للوصول إلى هذا الهدف، بل تحتاج فقط إلى منظومة لتخصيب اليورانيوم، وهي مسألة تقنية يمكن التوصل إلى حلول لها عبر المساعدة الغربية.
حقيقة الأمر أن روسيا تناولت المسألة النووية بشكل متكرر وملحوظ منذ انطلاق العمليات في أوكرانيا، بداية من تصريحات الرئيس الروسي خلال لقائه مع الرئيس الفرنسي أوائل فبراير الماضي، حين قال نصًا “بالطبع لا يمكننا مقارنة القدرات العسكرية الروسية مع قدرات دول الناتو مجتمعة، لكننا نفهم أن روسيا قوة نووية تتجاوز الباقين، ولن يكون لديكم حتى الوقت للرد علينا”، مرورًا بتفعيل موسكو في نفس الشهر، حالة الجاهزية القصوى لقوة الردع النووية الخاصة بها، وهي القوة التي تفاخر بها لاحقًا، المدير العام لوكالة الفضاء الروسية “روسكوزموس”، ديمتري روجوزين، الذي تحدث عن إمكانية استخدام السلاح النووي، لإلحاق أضرار جسيمة بدول حلف الناتو خلال نصف ساعة فقط.
الحديث الروسي في هذا الصدد، شمل تركيزًا واضحًا على ملف “المفاعلات النووية الأوكرانية”، خاصة مفاعل “زابوريجيا”، الذي تحدثت موسكو عدة مرات عن تعرضه لقصف أوكراني وعن احتمالات حدوث “كارثة نووية”. في المجموع، هناك 15 مفاعلًا نوويًا منتشرة في جميع أنحاء أوكرانيا، تعتمد كييف عليها في إنتاج نصف احتياجاتها من الكهرباء، وقد بدأت كييف خلال السنوات الأخيرة في محاولة البحث عن بدائل أخرى لليورانيوم الخاصة بهذه المفاعلات لتقليل الاعتماد على موسكو.
لم تكتفِ موسكو بهذه التصريحات، بل قامت طائراتها الحربية أوائل مارس الماضي، بالتحليق نحو جزيرة “جوتلاند” السويدية، التي تعد مرتكزًا أساسيًا يطمح حلف الناتو إلى استغلاله لمراقبة تحركات موسكو في بحر البلطيق، خاصة في ظل رغبة السويد في الانضمام للحلف. وبرغم أن مثل هذه التحليقات تعد معتادة، حيث دأبت الطائرات الروسية على الإقلاع من إقليم “كالينجراد” بشكل دوري، لاختبار مدى جاهزية واستجابة الوحدات الجوية التابعة لحلف الناتو والسويد وفنلندا، إلا أن هذا التحليق كان لافتًا للغاية، حيث اكتشفت السلطات السويدية نهاية نفس الشهر، أن هذا التشكيل الذي تكون من مقاتلتين من نوع “سوخوي-27” وقاذفتين من نوع “سوخوي-24″، كان يتضمن ذخائر نووية حملتها القاذفتان الأخيرتان.
هذه الخطوة، جنبًا إلى جنب مع إقرار بيلاروسيا أواخر فبراير الماضي، اتفاقية تسمح بوجود القوات الروسية -بما في ذلك القدرات ذات الطبيعة النووية- على الأراضي البيلاروسية، ضاعفت بشكل كبير من احتمالات استخدام أسلحة ذات طبيعة نووية في أوكرانيا.
وصل الأمر إلى حد تناول الإعلام الروسي سيناريوهات تعرض المدن الأوروبية الرئيسة لضربات نووية، كما حدث في إحدى حلقات برنامج “60 دقيقة”، الذي تبثه القناة الأولى الروسية، وتحدث فيه رئيس حزب “رودينا” ذو التوجه القومي، أليكسي زورافليوف، صراحة عن إمكانية إطلاق صواريخ نووية روسية نحو الأراضي البريطانية، وتضمنت هذه الحلقة أيضًا عرضًا لرسوم بيانية حول المسار المتوقع ومدة تحليق اللازمة لوصول الصواريخ النووية إلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا، في حالة إطلاقها من إقليم كالينجراد، وقد أشارت هذه الرسوم إلى أن الحيز الزمني المتوقع لوصول هذه الصواريخ إلى أهدافها لا يزيد على 200 ثانية فقط.
القدرات النووية الاستراتيجية الروسية في الميزان
تمتلك موسكو حسب أحدث التقديرات 4.447 رأسًا نوويًا، منها 1500 كانت في طور التجهيز لإتلافها، و2.889 رأسًا نوويًا مخزنًا. من ضمن هذا المجموع، نحو 1588 رأسًا نوويًا موضوعًا في المناوبة القتالية الفعلية. وبغض النظر عن حقيقة أن العدد الدقيق لهذه الرؤوس النووية يعد فعليًا معروف بشكل يقيني، إلا أن القدرات الروسية النووية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: الصواريخ العابرة للقارات المطلقة من صوامع ثابتة أو منصات ذاتية الحركة، والصواريخ المطلقة من على متن الغواصات الاستراتيجية، والصواريخ الجوالة المطلقة من على متن القاذفات الاستراتيجية.
تمتلك روسيا حاليًا خمسة أنواع من الصواريخ العابرة للقارات، تعمل ضمن المناوبة القتالية لأفواج الصواريخ الاستراتيجية الموجودة في الخدمة حاليًا، بإجمالي 1185 رأسًا نوويًا مخصصًا لهذه الصواريخ، تخدم ضمن ثلاثة جيوش صاروخية أساسية، بمجموع 12 فرقة صاروخية، تتألف من 40 فوج صاروخي، هذه الأنواع هي:
- صاروخ “SS-29/Yars”: وقد دخل إلى الخدمة عام 2010، ويتم إطلاقه من صوامع ثابتة أو منصات ذاتية الحركة، وهو عامل بالوقود الصلب على ثلاث مراحل، ومزود بثلاثة رؤوس حربية منفصلة مزودة بتقنية “إعادة الدخول”، وإمكانية توجيه كل منها بشكل منفصل نحو أهداف مختلفة، وتبلغ زنة هذه الرؤوس مجتمعة 1200 كيلو جرام، وإجمالي قوتها في حالة ما إذا كانت نووية تصل إلى 200 كيلو طن. يصل المدى الأقصى لهذا الصاروخ 10.500 كيلو متر. تمتلك روسيا 153 منصة إطلاق ذاتية الحركة مخصصة لهذا النوع من الصواريخ، بجانب 20 صومعة إطلاق تحت أرضية، وتمتلك إجمالي رؤوس حربية نووية مخصصة لهذا النوع من الصواريخ يبلغ 692 رأسًا نوويًا.
- صاروخ “SS-19/Stiletto”: يعمل في الخدمة الآن الجيل الثالث من هذا الصاروخ منذ عام 1980، ويطلق حصرًا من صوامع تحت أرضية، ويعمل على مرحلتين بالوقود السائل، ومزود بستة رؤوس حربية منفصلة مزودة بتقنية “إعادة الدخول”، مع إمكانية توجيه كل منها بشكل منفصل نحو أهداف مختلفة. تبلغ زنة هذه الرؤوس مجتمعة 3.355 كيلو جرام، وإجمالي قوتها هذه في حالة ما إذا كانت نووية تصل إلى 750 كيلو طن. يبلغ المدى الأقصى لهذا الصاروخ 10.000 كيلو متر. يعتقد أن هذا الجيل من الصواريخ أصبح خارج الخدمة حاليًا، حيث تم تحويل 20 حاوية إطلاق تحت أرضية، لتصبح خاصة بالجيل الرابع من هذه الصواريخ والمسمى “أفانجارد”.
- صاروخ “SS-18/Satan”: دخل الجيل السادس من هذه الصواريخ إلى الخدمة عام 1988، ويطلق حصرًا من صوامع تحت أرضية، يعمل على مرحلتين بالوقود السائل، وهو مزود بعشر رؤوس حربية منفصلة مزودة بتقنية “إعادة الدخول”، مع إمكانية توجيه كل منها بشكل منفصل نحو أهداف مختلفة. يبلغ مداه الأقصى 11.000 كيلو متر، وتمتلك روسيا حاليًا 40 حاوية إطلاق تحت أرضية مخصصة لهذا النوع، بإجمالي رؤوس نووية يبلغ 400 رأس.
- صاروخ “SS-25/Topol”: دخل إلى الخدمة عام 1988، ويطلق حصرًا من منصات ذاتية الحركة، ويعمل على ثلاث مراحل بالوقود الصلب، وتبلغ قوة رأسه النووي ما بين 600 إلى 800 كيلو طن. يصل مداه الأقصى إلى 11.000 كيلو متر. تخطط موسكو لإخراج ما تبقى منه في الخدمة بحلول نهاية العام الجاري لصالح النسخة الأحدث “Topol-M”.
- صاروخ “SS-27/Topol-M”: دخل إلى الخدمة عام 1997، ويتم إطلاقه من صوامع تحت أرضية ومن منصات ذاتية الحركة، ومزود برأس حربي واحد تبلغ زنته 1200 كيلو جرام. يعمل هذا الصاروخ على ثلاثة مراحل بالوقود الصلب، وتقدر قوة رأسه النووي بنحو 500 كيلو طن. يبلغ مداه الأقصى 11.000 كيلو متر.
على المستوى البحري، تمتلك البحرية الروسية نوعين أساسيين من انواع الصواريخ العابرة للقارات المطلقة من الغواصات، وتشغل 10 غواصات تعمل بالطاقة النووية مخصصة لإطلاق هذه الصواريخ، بواقع خمس غواصات من الفئة “Delta IV”، وخمس من الفئة “Borei-A”. يمكن لكل غواصة أن تحمل 16 صاروخًا عابرًا للقارات، وتتركز قوة الغواصات التي تمتلك القدرة على إطلاق هذه الصواريخ في ثلاثة قواعد بحرية رئيسية.
النوع الأول من هذه الصواريخ هو الصاروخ “R-29RM Shtil”، الذي دخل الخدمة عام 1986، ويمتلك رأس حربي نووي يضم أربعة مركبات انزلاقية، ويعمل على ثلاث مراحل بالوقود السائل، ويصل مداه إلى 8.000 كيلو متر، وتمتلك روسيا 320 صاروخًا من هذا النوع. الصاروخ الثاني هو “RSM-56 Bulava”، الذي دخل الخدمة عام 2013، ويعمل على ثلاث مراحل بالوقود الصلب، ويحمل رأسًا حربيًا نوويًا تبلغ زنته 1.150 كيلو جرام، ويستطيع احتواء عشر مركبات انزلاقية، وتبلغ قوته نحو 150 كيلو طن، ويصل مداه إلى 8.000 كيلو متر. تمتلك روسيا 480 صاروخًا من هذا النوع.
جويًا، تمتلك القوات الجوية الروسية نوعين من أنواع القاذفات الثقيلة ذات القدرة النووية، الأول هو “توبوليف-160” والثاني “توبوليف-95”. يمتلك سلاح الجو الروسي ثلاث عشرة قاذفة من النوع الأول و55 قاذفة من النوع الثاني. يستطيع كلا النوعين حمل الصواريخ الجوالة ذات القدرات النووية AS-15، التي تعرف أيضًا باسم “KH-55″، وقد دخل هذا الصاروخ إلى الخدمة عام 1986، ويبلغ مداه 2500 كيلو متر، وزنة رأسه الحربي النووي 410 كيلو جرام، تبلغ قوته 250 كيلو طن. تقدر الأعداد التي تمتلكها روسيا من هذا النوع بنحو 500 صاروخ.
على مستوى القاذفات المتوسطة والمقاتلات، تستطيع القاذفات المتوسطة “Tu-22″، والمقاتلات “MIG-31” والقاذفات “SU-24” و”SU-34″، إطلاق الأنواع التالية من الصواريخ ذات القدرات النووية:
- KH-102: الذي دخل الخدمة عام 2012، وتبلغ زنة الرأس الحربي الخاصة به 450 كيلو جرام، ويصل مداه إلى 2800 كيلو متر، وتصل قدرة رأسه النووي إلى 250 كيلو طن.
- KH-32: الذي دخل الخدمة عام 2016، ويبلغ مداه 1000 كيلو متر.
- Kinzhal: يصل مداه إلى نحو 2000 كم، وتصل سرعته القصوى إلى 10 ماخ. منصة إطلاقه الأساسية هي مقاتلات “ميج-31” مع إمكانية زيادة مداه إلى نحو 3000 كم في حالة تم استخدام القاذفة الاستراتيجية “TU-22” في إطلاقه، وتصل زنة رأسه الحربي إلى 480 كيلو جرام.
- Kalibr: صاروخ جوال يطلق من كافة المنصات جوا وبحرًا وبرًا، يعتقد أن النسخة الأحدث منه (SS-N-30A) يمكن أن تحمل رأس نووي.
جدير بالذكر أن هذه الأنواع السابقة تضاف إلى منظومتين صاروخيتين تحت التطوير، الأولى هي صواريخ “SS-28/Sarmat”، التي دخلت إلى الخدمة عام 2021، ويتراوح مداها بين 10.000 و18.000 كيلو متر، ويتم إطلاقها حصرًا من صوامع تحت أرضية، وتستطيع حمل ذخائر تصل زنتها إلى 10 طن، سواء على شكل رؤوس حربية أو على شكل عشر مركبات انزلاقية أو مركبات إعادة دخول.
يعمل هذا النوع على ثلاث مراحل بالوقود السائل، ولم يتم تسليح أية كتائب صاروخية به بشكل رسمي حتى الآن. الصاروخ الثاني هو “SS-19/Avangard”، الذي يعد تطويرًا للصاروخ “SS-19/Stiletto”، بهدف حمل المركبة الانزلاقية الجديدة “أفانجارد”. يحمل هذا الصاروخ شحنة نووية تبلغ قدرتها 2 ميجا طن، وتستطيع مركبة “افانجارد” التحليق بسرعة تصل إلى 20 ضعف سرعة الصوت، ويبلغ مدى هذه المركبة بعد إطلاقها من الصاروخ 6.000 كيلو متر. دخل إلى الخدمة من هذا النوع ستة مركبات انزلاقية بمجموع ستة رؤوس حربية نووية.
السلاح النووي التكتيكي… الأقرب إلى الاستخدام في أوكرانيا
رغم أن بعض التحليلات الاستراتيجية والعسكرية تنظر إلى الأسلحة النووية “كوحدة واحدة لا تتجزأ”، إلا أن الواقع العملياتي يشير إلى أن السلاح النووي يمكن تقسيمه إلى قسمين “استراتيجي – تكتيكي”. السلاح النووي التكتيكي كان حاضرًا منذ عقود في الذهنية العسكرية السوفيتية والأمريكية، حيث كان كلا الطرفين يتجهزان لاحتمالية حدوث مواجهات على جانبي جدار برلين خلال مرحلة الحرب الباردة، وكانت الحاجة تدعو إلى وجود ذخائر نووية محدودة القدرة التفجيرية “أقل من 20 كيلو طن”، لتحقيق تدمير آني وكامل للقطاعات المدرعة المعادية، دون إحداث تأثير إشعاعي مستدام.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، عادت موسكو للاهتمام بهذا الطرح، وقد صرح الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين إبان توليه منصب سكرتير مجلس الأمن القومي عام 1999 أن الرئيس الروسي آنذاك بوريس يلتسين قد صادق على خطة قدمها بوتين، تتضمن خطط لتطوير واستخدام أسلحة نووية غير استراتيجية، بهدف تحقيق أكبر قدر من التدمير، دون إحداث تأثيرات بيئية مستدامة.
وظيفيًا، تختلف الأسلحة النووية الاستراتيجية عن الأسلحة النووية التكتيكية، فالأولى تستهدف جعل القوات المعادية عاجزة عن المقاومة أو غير مُستعدة لها، وذلك بتدمير بنيتها التحتية الأساسية وقوتها البشرية، أما الأسلحة النووية التكتيكيّة فمُصمَّمَة لإضافة قوة نارية للمعارك المحدودة في نطاقها الجغرافي. من أهم ميزات الأسلحة النووية التكتيكية، هي أنها تتفادى بعض العيوب التي تتسم بها الأسلحة النووية الاستراتيجية؛ إذ إن لها نطاق تدمير أوسع، ولو أنه ليس أكبر من اللازم، بما يقلل بشكل كبير من المخاطر التي قد تتعرض لها منصات الإطلاق.
حددت معاهدة الحد من التسلح، التي يطلق عليها “نيو ستارت”، والتي تفاوض عليها الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، والرئيس الروسي آنذاك دميتري ميدفيديف عام 2010، عدد الرؤوس الحربية النووية الذي يمكن لكل من موسكو وواشنطن تحميله على صواريخها الباليستية وقاذفاتها الجوية، بنحو 1550 رأسًا نوويًا، ومع ذلك، فإن الأسلحة النووية التكتيكية غير مشمولة فعليًا بهذه المعاهدة ولا أي اتفاق دولي آخر.
ذلك علمًا بأن هذه الأسلحة -رغم أن معظمها تقل قدرته التدميرية عن 20 كيلو طن- بعضها يفوق في قوته قوة قنبلتي هيروشيما وناغازاكي. جدير بالذكر هنا، أن موسكو كانت قد اعترضت عام 2020، على خطة أمريكية لتزويد صواريخ “ترايدنت-2” العابرة للقارات المطلقة من الغواصات، برؤوس نووية تكتيكية منخفضة القدرة التدميرية.
إذًا، يمكن عمليًا استخدام الرؤوس النووية الروسية في أوكرانيا، عبر وسائط قتالية غير نووية في الأساس، بما في ذلك الصواريخ والذخائر التي يقل مداها عن 500 كم، والمهم في هذا الصدد أن كافة الوسائط التي تنضوي تحت هذا التصنيف، تستخدم في الأساس لتنفيذ هجمات بذخائر تقليدية غير نووية، وهو ما يجعل من الصعب تتبع حركتها أو تحديد ما إذا تم استبدال شحنات نووية محل شحناتها التقليدية أم لا.
المفارقة هنا أن الميدان الأوكراني قد شهد فعليًا استخدام وسائط قتالية تقليدية “تستطيع” إطلاق ذخائر وشحنات نووية، وهو ما يجعل إمكانية استخدام السلاح النووي التكتيكي في أوكرانيا رهنًا فقط بتغيير الذخائر المستخدمة من تقليدية إلى نووية. المثال الأول من أمثلة هذه الوسائط هي مدفعية الميدان، فقد استخدمت موسكو وكييف خلال العمليات العسكرية ثلاثة أنواع من المدفعية التي تمتلك القدرة على إطلاق قذائف ذات شحنة نووية تكتيكية تتراوح قدرتها بين 2 و4 كيلو طن، النوع الأول هو المدفعية الثقيلة ذاتية الحركة من عيار 203 ملم “مالكا”.
هذا النوع يعد نسخة مطورة ظهرت منتصف ثمانينيات القرن الماضي من المدفع ذاتي الحركة “بايون”، ويقترب مداها الأقصى من 50 كيلو متر، وتعد من أكبر أنواع المدفعية ذاتية الحركة من حيث المدى في الترسانة الروسية. هذا النوع من المدافع بعيدة المدى كان نتيجة لمساعي سوفيتية لإنتاج مدافع قادرة على إطلاق قذائف نووية تكتيكية، وقد تم تحديث الترسانة الروسية من هذه المدافع بحلول عام 2019، وتستطيع إطلاق قذائف نووية من نوع “ثري بي في تو”، يصل مداها الأقصى إلى 30 كيلو متر.
النوع الثاني هو مدفع الهاون الثقيل ذاتي الحركة من عيار 240 ملم “توليبان”، والذي بدأ إنتاجه أيضًا منتصف سبعينيات القرن الماضي، ويتراوح مداه الأقصى بين 10 و20 كيلو متر حسب الذخيرة المستخدمة، ويمتلك القدرة أيضًا على إطلاق القذائف النووية التكتيكية، حيث خصص له قذائف هاون من نوع “ثري بي في فور”، يصل مداها الأقصى إلى 18 كيلو متر.
اما النوع الثالث فهو مدفع الهاون الثقيل ذاتي الحركة من عيار 152 ملم “جيات سينت”، والذي بدأ تصنيعه أيضًا في سبعينيات القرن الماضي، ويستطيع إطلاق قذائف نووية من نوع “ثير بي في ثري”، قدرتها تبلغ 1 كيلو طن، ويصل مداها إلى 18 كيلو متر. جدير بالذكر أن هذا النوع من القذائف يصلح أيضًا للإطلاق من مدافع الميدان والمدافع ذاتية الحركة الروسية الأخرى، من عيار 152 ملم، مثل مدفع “دي-20” ومدفع “ميستا” ذاتي الحركة، وقد تم استخدام هذه الأنواع أيضًا في الميدان الأوكراني.
المثال الثاني من أمثلة الأسلحة التي يمكن استخدامها في مهام نووية تكتيكية، هي الصواريخ الباليستية قصيرة المدى. استخدم الجيش الروسي خلال العمليات العسكرية الحالية نوعين من أنواع الصواريخ الباليستية التكتيكية القادرة على حمل رؤوس نووية، الأول هو الصواريخ التكتيكية “توشكا” -التي استخدمتها أوكرانيا أيضًا- وهي صواريخ يمكن تزويدها برأس نووي تبلغ قدرته 100 كيلو طن، ويمكن إيصاله إلى مدى يصل إلى 200 كيلو متر.
النوع الثاني استخدمه الجيش الروسي حصرًا، وهو الصاروخ التكتيكي “إسكندر-إم”، الذي يصل مداه إلى 500 كم. وسرعته تصل إلى سبعة أضعاف سرعة الصوت، ويمكن تحميله برأس حربي نووي، تتراوح زنته بين 5 و50 كيلو طن. استخدمت موسكو كلا النوعين انطلاقًا من غرب روسيا، وهي تحتفظ أيضًا في إقليم “كالينجراد”، بعدة بطاريات من صواريخ “إسكندر – إم”.
المثال الثالث يتعلق بسلاح الجو، فقد استخدم الجيش الروسي خلال العمليات في أوكرانيا عدة أنواع من الطائرات القادرة على تنفيذ ضربات نووية تكتيكية، مثل القاذفات الاستراتيجية “تي يو-22″، وقاذفات “سوخوي-24” و”سوخوي 34″، وتستطيع هذه الأنواع إطلاق عددًا من أنواع الصواريخ التي توجد منها نسخ ذات رؤوس نووية، منها الصاروخ المضاد للسفن “KH-22″، الذي تم تسجيل استخدامه في المعارك الحالية في أوكرانيا بنسخته التقليدية.
تم تصنيع نسختين من هذا الصاروخ تحملان قدرات نووية، الأولى تمت تسميتها “KH-22N” زودت برأس نووي زنته تتراوح بين 350 و1000 كيلو طن، والثانية هي الأحدث وسميت “KH-32″، وهي مزودة في الأساس برأس حربي تقليدي، لكن يمكن استبدال رأس حربي نووي محله، ويبلغ مدى هذا الصاروخ الذي يمكن إطلاقه من قاذفات “تي يو-22” نحو 1000 كيلو متر، وتصل سرعته إلى خمسة أضعاف سرعة الصوت.
نوع آخر هو الصاروخ المضاد للسفن “KH-35″، الذي يمكن إطلاقه من القاذفات أو من منظومات الدفاع الساحلي “بال”، وقد تم رصد استخدام النسخة التقليدية منه التي يصل مداها إلى 300 كيلو متر في أوكرانيا. يوجد من هذا النوع نسخة ذات رأس حربي نووي تسمى “KH-37”.
الصاروخ الجوال ذو الرأس النووي “KH-102″، يعد أحد تطويرات صواريخ “KH-55” الجوالة، وقد دخل هذا التطوير الخدمة عام 2012، وهو يتسلح عادة برأس حربي تقليدي زنته 450 كيلو جرام، لكن يمكن تزويده برأس حربي نووي قدرته التدميرية تصل إلى 250 كيلو طن. جدير بالذكر ان النسخة التقليدية من هذا الصاروخ – المسماة “KH-101″، تم تسجيل استخدامها في أوكرانيا.
يضاف إلى ما سبق، استخدام الجيش الروسي لنوعين من أحدث أنواع الصواريخ التي يمتلكها في ترسانته، الأول هو أحد أهم الصواريخ التي تم استخدامها في أوكرانيا حتى الآن، وهو الصاروخ الجوال “Kalibr”، الذي يطلق من كافة المنصات جوا وبحرًا وبرًا. يعتقد أن النسخة الأحدث منه “SS-N-30A” يمكن أن تحمل رأسًا نوويًا تتراوح زنته بين 400 و500 كيلو طن، ويصل مداها إلى 2500 كيلو متر.
النوع الثاني هو صواريخ “كينزال” الفرط صوتية، والتي دخلت الخدمة أواخر عام 2017، وتم استخدامها قتاليًا في أوكرانيا للمرة الأولى في مارس الماضي. يبلغ مدى هذا النوع من الصواريخ 2000 كيلو متر، وتصل سرعتها القصوى إلى 10 ماخ، وتمتلك القدرة على حمل رؤوس نووية، تتراوح زنتها بين 100 و500 كيلو طن.
هل تستخدم موسكو السلاح النووي في أوكرانيا؟
بالنظر إلى ما سبق، يمكن القول إن موسكو تمتلك القدرات العسكرية الكاملة لشن ضربات نووية على أوكرانيا. فيما يتعلق بالسيناريو الخاص باستخدام الأسلحة النووية الاستراتيجية، يمكن أن نتوقع أن يستهدف هذا الهجوم المدن الرئيسة والقدرات الصناعية والعسكرية؛ بهدف شل كييف بشكل كامل، في حين سيكون الهدف الأساسي لاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية، هو التدمير واسع النطاق للوحدات العسكرية الأوكرانية، خاصة تلك المنخرطة في الزخم الهجومي الحالي شمال الجبهة الشرقية وغرب الجبهة الجنوبية. بعض الآراء قد تطرح تنفيذ موسكو ضربات نووية على دول أوروبية أخرى، لكن في المدى المنظور تبقى هذه الاحتمالية أقل وجاهة مقارنة باحتمالية تنفيذ ضربات نووية تكتيكية على بعض المناطق الأوكرانية.
النقطة الأساسية في هذا الإطار أن احتمالات استخدام اسلحة نووية استراتيجية تبقى مقيدة بحقيقة أن أي تحرك روسي لتجهيز ونشر أسلحة نووية استراتيجية سيتم بشكل فوري رصده ومتابعته من جانب الولايات المتحدة والأقمار الصناعية، وبالتالي هذا قد يؤدي إلى استنفار القوة النووية الأمريكية، وتصاعد احتمالات تطور الموقف بشكل لا يمكن التراجع عنه. استخدام الأسلحة النووية التكتيكية ينطوي أيضًا على مخاطر أساسية، منها كيفية تحديد مستوى رد الفعل الغربي على هذه الخطوة، وما إذا كانت الدول الغربية سوف تعتبر هذه الاستخدام اعتداءً عليها، على أساس أن تأثير الأسلحة النووية يتجاوز الحدود ويؤثر على البلدان المحيطة بأوكرانيا أم لا.
خلاصة القول، إن الإمكانيات العسكرية النووية لا تنقص موسكو في هذه المرحلة، ولكن حتى الآن لا يمكن القول -رغم التراجع الميداني للقوات الروسية في عدة محاور قتالية في أوكرانيا- أنه توجد حاجة ماسة لاستخدام السلاح النووي التكتيكي أو الاستراتيجي على المستوى الميداني، لذا يُتوقع أن يظل التلويح بهذه الورقة جزءًا من التموضع الجديد لموسكو في الأزمة الأوكرانية، والذي يركز حاليًا على حشد الداخل للمشاركة في “الحرب الوطنية”، للدفاع عن المناطق الروسية التي ستنضم –حكمًا- إلى الاتحاد الروسي خلال الاستفتاءات القادمة.
هذا التلويح يمكن عدّه كذلك جزءًا من الاستراتيجية الدفاعية الروسية ضد الغرب، والتي كان أحدث فصولها هو عرض القنبلة النووية السوفيتية “RDS-4” خلال معرض “الجيش-2022” للصناعات العسكرية، بجانب ذخائر نووية تكتيكية أخرى من بينها قذيفة المدفعية النووية من عيار 152 ملم “RD4-1”. الأكيد أن العالم بات في موقع قريب من “نزاع نووي محتمل”، وهو موقع كان آخر تواجد للعالم فيه خلال ستينيات القرن الماضي.
.
رابط المصدر: