أثار انقطاعُ خدمات شبكة فيسبوك وتطبيقات واتساب وإنستغرام، يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول (2021)، جدلًا إعلاميًّا وسياسيًّا وتشريعيًّا وقانونيًّا واسعًا لنفوذها المطرد في بيئة الإعلام الاجتماعي، وهيمنتها المتنامية على مصادر الأخبار والمعلومات. وقد باتت هذه الشبكة تمثِّل بجانب المواقع الاجتماعية المنافسة لها (يوتيوب، تيك توك، تليغرام، سناب شات، تويتر…) وسائل الإعلام السائدة، التي تنشر المحتوى المتدفق عبر المنصات الأكثر انتشارًا اليوم، وتقوم الوسائل التقليدية أيضًا بتوزيعه وبثه ونشره بل تخصِّص برامج ونشرات إخبارية تفاعلية مع بيئة الإعلام الاجتماعي، وهو ما يشير إلى تأثير هذه المنصات في هندسة أولويات مستخدميها ومركب تفضيلاتهم.
وعلى الرغم من سيل الأسباب والتفسيرات التي كشف عنها جدلُ انقطاع خدمات فيسبوك وتطبيقاته، والإشكاليات التي يطرحها كما أوردها مسؤولون سابقون في الشبكة، فإن انقطاع هذه الخدمات أعاد التفكيرَ في قضايا اتصالية متعددة لافتًا النظر إلى ما يمكن تسميته “حالة الانغمار الرقمي”، التي نعيشها اليوم في البيئة الرقمية والمجتمع الشبكي، وقد جعلت الإنسان كائنًا اتصاليًّا رقميًّا؛ حيث يُبرِز نفاذُه إلى المنصات الاجتماعية (الحضور والغياب) نمطَ ومستوى علاقته بمحيطه، ويحدد أيضًا عضويته (وهويته) الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية في المجتمع الشبكي. كما أعاد هذا الانقطاعُ طرح قضايا أخلاقية تتعلق بحالة الضبط والتعديل الذاتي للمحتوى في منصات التواصل الاجتماعي، والأجندة التي تحكم عمل هيئات الإشراف والرقابة على هذا المحتوى عندما يكون الضبط والتعديل خادمين لسياسات المنصات وأهدافها. وسنركز النقاش في هذا التعليق على هاتين النقطتين (الانغمار الرقمي الشبكي، والضبط والتعديل الذاتي)، باعتبار الحالة الإعلامية التي باتت تشكِّلها وسائل التواصل الاجتماعي في المشهد الإعلامي الدولي، وتعاظم دورها في استهلاك المحتوى وإشباع احتياجات المستخدمين المعرفية والسياسية والترفيهية…إلخ.
الانغمار الرقمي الشبكي
تشير حالة الانغمار الرقمي الشبكي إلى سيولة وانفجار البيئة الاتصالية الرقمية التي أصبح فيها الإنسان كائنًا اتصاليًّا رقميًّا، وهو ما يعني أن وجوده في الفضاء الرقمي بات أكثر أهمية من وجوده المكاني/المحلي؛ حيث يتشكَّل موقعه وعلاقته بمحيطه من خلال حضوره في هذا الفضاء، وأيضًا عبر شبكة علاقاته التي تمتد لمجموعات متعددة وفي منصات مختلفة. وقد أدى ذلك إلى تغيُّر علاقة المستخدمين بالمفهوم التقليدي للزمن -باعتباره حلقات أو محطات ودورات حياتية- وبات الاتصال يجري داخل الزمن نفسه؛ حيث “تتحول تجربة الزمان والمكان إلى زمن لا زمني وإلى مكان للتدفقات”، وهو ما يحفز مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي على الحضور في البيئة الاتصالية الرقمية وامتلاك وسائل إعلامهم الخاصة؛ حيث يصبح المستخدم قادرًا على إنتاج المحتوى وتوزيعه ونشره بأشكال مختلفة، وقد يكون صانعًا للحدث أو الخبر بحضوره الآني لنقل تفاصيله وتطوراته ليصبح المصدر الأول، أو الوسيلة الإعلامية ذاتها، أي إن صانع المحتوى يتحوَّل إلى منصة رقمية لتسييل الأحداث والوقائع.
وتشير بعض الإحصائيات لمستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي (يوليو/تموز 2021) إلى واقع حالة الانغمار الرقمي/الشبكي؛ حيث يستخدم أكثر من نصف سكان العالم وسائل التواصل الاجتماعي (4.48 مليارات شخص) بنسبة 56.8% من مجموع سكان العالم البالغ عددهم 7.87 مليارات نسمة. وقد يمتلك الشخص العادي حسابات على أكثر من 9 شبكات تواصل مختلفة. لذلك عندما انقطعت خدمات فيسبوك (2.85 مليار مستخدم نشط شهريًّا) وإنستغرام (1.38 مليار مستخدم نشط شهريًّا) وواتساب (2 مليار مستخدم نشط شهريًّا) برزت حركة نزوح رقمي واسعة باتجاه شبكات التواصل الاجتماعي المنافسة؛ إذ سجل مثلًا موقع تويتر زيادة في عدد متابعيه بلغت 59 مليون مشترك جديد حول العالم. كما أعلن تطبيق تليغرام للتراسل الفوري انضمام أكثر من 70 مليون مستخدم جديد خلال فترة الانقطاع.
وتشير حالة النزوح الرقمي -على مستوى تواصل الأفراد، وربما أيضًا على المستوى الاتصالي للمؤسسات والمنظمات التي يرتبط نشاطها في المجتمع الشبكي بهذه الوسائل- إلى الدور المتعاظم لوسائل التواصل الاجتماعي في البيئة الاتصالية الرقمية، حيث لم تعد فقط جزءًا من النشاط الاتصالي اليومي للكيانات المختلفة، وإنما تمثِّل الوسائل المتدفقة السائدة، كما ذكرنا آنفًا، التي يسعى كل طرف، أو جهة (أفراد وجماعات ومؤسسات ودول)، إلى امتلاكها والتوسع في نشاطها الاتصالي في حقول ومجالات مختلفة (إنسانية، اجتماعية، سياسية، اقتصادية…). وتصبح أحيانًا هذه الوسائلُ السلاحَ الرقمي الذي يمتلكه المستخدم الفلسطيني مثلًا لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي عبر فضح الممارسات التطهيرية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني -كما حصل خلال هبَّة القدس وأحداث الشيخ جراح- وإبراز روايته التي تؤكد حقه الوجودي في أرضه الفلسطينية وجذوره التاريخية والثقافية والاجتماعية، باعتبار أن “من يكتب حكايته يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تمامًا”. كما تُستخدَم هذه الوسائل سلاحًا رقميًّا لمواجهة أي شكل من أشكال التجاوز والشطط في استعمال السلطة، وانتهاك الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية للأفراد والجماعات.
ونظرًا لموقع وسائل التواصل الاجتماعي، وحضورها المتزايد في المشهد الإعلامي والسياسي والاجتماعي والثقافي المحلي والدولي، فإن حالة الانغمار الرقمي الشبكي ستصبح كلية وشاملة في الأعوام القليلة المقبلة مع استمرار نشاط وحركة انفجار البيئة الاتصالية الرقمية بظهور شبكات اجتماعية لا يمكن متابعتها، ومما يؤشر على دينامية الانغمار النمو المتسارع لعدد مستخدمي فيسبوك مثلًا، وغيره من المنصات الاجتماعية الأخرى؛ إذ لم يكن عدد مستخدمي منصة فيسبوك، في العام 2004، يتجاوز مليون مستخدم، وبعد أقل من خمسة أعوام تضاعف هذا العدد إلى 145 مليون مستخدم، ثم وصل العدد في العام 2013، بعد مرور عقد واحد، مليارًا و230 مليون مستخدم، ثم 2.85 مليار مستخدم في يوليو/تموز 2021. أما موقع تويتر الذي تأسس عام 2006 فلم يكن عدد مستخدميه يتجاوز 5 ملايين مشترك حتى عام 2008، ثم 49 مليون مستخدم عام 2010، ثم تضاعف العدد بأكثر من 100% ليصل إلى 100 مليون مستخدم عام 2012، ثم 397 مليون مستخدم في يوليو/تموز 2021. كما شهدت البيئة الاتصالية الرقمية في المنطقة العربية ظهور منصات اجتماعية عربية لا تزال في بدايتها، مثل: موقع صراحة، وعرب فيس، والوصلة، ثم موقع باز الذي انطلقت نسخته التجريبية عام 2017. وسيصبح انتشارها واستخدامها وامتلاكها لا يختلف عمَّا كان عليه الوضع مع جهاز الراديو، الذي يمكن الاستماع إلى بثه في كل الأمكنة والفضاءات بما في ذلك السيارة، أو الهاتف المحمول الذي أصبح وسيلة لإدارة الأعمال والخدمات وليس التواصل فقط.
أجندات الضبط الذاتي
في حالة الانغمار الرقمي الشبكي التي يمتلك فيها الأفراد وسائل إعلام خاصة (الإعلام الفردي)، وتستخدم فيها المؤسسات والجماعات وحتى الدول منصات اجتماعية، تزداد مخاطر التلاعب بالمحتوى والتضليل وبث الدعاية والأخبار المفبركة، ومحاولة الهيمنة على المجتمع الشبكي وتوجيه الرأي العام الإلكتروني لتعظيم النفوذ وزيادة التأثير. وعلى الرغم من المبادرات الذاتية التي تقوم بها هذه المنصات في الإشراف على المحتوى (فيسبوك نموذجًا)، ومراقبة الآثار والسلوك الاتصالي للمستخدمين، وتحديد القواعد والمعايير الأخلاقية والضوابط القانونية والاجتماعية لضبط هذا السلوك، فإن سجل وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأعوام الماضية يؤكد أن نشاطها الاتصالي كان حافلًا بالخروقات والانتهاكات المتعمدة والمنظمة، ولم تستطع آليات الضبط والتعديل الذاتي، وهيئات الإشراف على المحتوى التي اعتمدتها هذه المنصات، أن تساعد في تنزيل تلك القواعد والضوابط لضمان نزاهتها.
وكشفت انتقادات كثيرة -بعضها لمسؤولين تنفيذيين في شبكات اجتماعية، مثل مهندسة البيانات السابقة في فيسبوك، فرانسيس هوغن- “تضارب المصالح بين ما هو مفيد للجمهور وما هو مفيد لفيسبوك”؛ حيث تضع الشبكة مصالحها أولًا، أي كسب المزيد من المال دون مراعاة القواعد والضوابط الأخلاقية في خدمة المستخدمين وتلبية احتياجاتهم المعرفية والثقافية. وقد برزت “سياسة المصلحة أولًا” في مناسبات مختلفة كان أبرزها الفضيحة التي ارتبطت بشركة الاستشارات السياسية “كامبريدج أناليتيكا”، في العام 2018؛ إذ أظهرت تحقيقات وتقارير ودراسات كثيرة تلاعب المؤسسة بتوجهات الناخبين في دول مختلفة؛ حيث عملت في أكثر من مئتي استحقاق انتخابي بأنحاء العالم (أميركا، بريطانيا، إيطاليا، كينيا، نيجيريا…) على تقديم خدماتها الدعائية. وتستخدم كامبريدج أناليتيكا المعلومات الشخصية التي تحصل عليها من منصة فيسبوك من دون موافقة المستخدمين لتوظيفها في تصميم برامج يمكنها التنبؤ بخيارات الناخبين في محاولة للتأثير على مواقفهم الانتخابية عبر الرسائل الموجهة.
وظهر انحياز شبكة فيسبوك وتجاوزها للقواعد الأخلاقية في النشر عندما أفسحت المجال لخطاب الكراهية والعنصرية الذي يمارسه المستخدمون الإسرائيليون ضد الشعب الفلسطيني، كما رصدت ذلك تقارير “شبكة السياسات الفلسطينية”، ولاحظت في أحد تقاريرها أن فيسبوك هو أكثر منصة ينتشر فيها التحريض ضد الفلسطينيين بنسبة 66% متبوعًا بموقع تويتر بنسبة 16% (مايو/أيار 2019). وفي الوقت نفسه، بَنَى فيسبوك خوارزميات تقوم بحذف عدد كبير من مشاركات المستخدمين الفلسطينيين التي تضم مصطلحات بعينها، مثل: حماس، القسام، الجهاد، السرايا، وهو ما اعتبره البعض “قمعًا وتمييزًا عنصريًّا رقميًّا ممنهجًا” ضد الفلسطينيين تُستخدَم فيه هندسة الخوارزميات لمساعدة إسرائيل في محاصرة الرواية الفلسطينية للأحداث ومنعها من الانتشار.
كما وفرت منصة فيسبوك مجالًا عامًا رقميًّا لجماعات اليمن المتطرف لنشر أفكارها وحملاتها العنصرية والقومية دون تنقيح؛ حيث ينبني خطابها على الخوف من المهاجرين، خاصة في أميركا وبعض الدول الأوروبية، ومشاركة الأخبار التي تنتجها المواقع المناهضة للهجرة وعرضها ضمن تفضيلات الأخبار، والتمييز ضد الأقليات الإثنية والدينية، خاصة المسلمة، في الهند والصين وميانمار، ونشر الأخبار المضلِّلة والمعادية للإسلام والمسلمين.
وتُظهِر هذه المشكلات أزمةَ سياسةِ حالة الضبط والتعديل الذاتي والعمل الانتقائي لهيئة الإشراف والرقابة على المحتوى في فيسبوك. وسيتفاقم هذا الوضع مع انفجار البيئة الاتصالية الرقمية في الأعوام المقبلة، وامتلاك الأفراد لأكثر من منصة رقمية خاصة (مكتوبة وسمعية وبصرية)، واستمرار شركات التكنولوجيا العملاقة في العمل بمقتضى سياسة “المصلحة أولًا” لتعظيم الثروة والنفوذ، وتمكين الأفراد من منصة إعلامية رقمية دون حسيب أو رقيب، ما يفتح الباب لفوضى التدفق المعلوماتي خارج القواعد والمعايير الأخلاقية التي يمكنها أن تضبط السلوك الاتصالي في منصات الإعلام الاجتماعي. وهنا، يصبح التفكير وإعادة النظر في التشريعات المحلية والدولية ضروريًّا لإلزام هذه المنصات وكبرى شركات التكنولوجيا بقواعد السلوك الاتصالي المنضبط للمعايير الأخلاقية لاسيما فيما يتعلق بمبادئ التمسك بالدقة والحقائق والشفافية والنزاهة واحترام الآخرين والإقرار بالأخطاء حتى تصبح هذه المعايير سلوكًا طوعيًّا للمستخدمين، وهو ما يحتاج أيضًا إلى مداخل كثيرة تربوية وثقافية. ولن يكون هذا العمل وحده كافيًا في غياب دور الشبكات والمنظمات المدنية التي يمكنها المساعدة والمساهمة في ترسيخ ثقافة الالتزام بالقواعد الأخلاقية للإعلام الاجتماعي.
.
رابط المصدر: