الكاتب: سيمون تلفورد وهاس كونداني (Simon Tilford and Hans Kundnani)
الناشر: مجلة فورن أفيرز (Foreign Affairs) /واشنطن، 28 /تموز/2020
ترجمة: د. حسين أحمد السرحان/مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
في ستينيات القرن الماضي، اكد وزير المالية الفرنسي فاليري جيسكار ديستان (Valéry Giscard d’Estaing) أن هيمنة الدولار الأمريكي أعطت الولايات المتحدة “امتيازًا باهظًا” للاقتراض بثمن بخس من بقية العالم والعيش بما يتجاوز إمكانياتها. وغالبًا ما ردد حلفاء الولايات المتحدة وخصومها على حد سواء صدى المشاعر منذ ذلك الحين.
لكن الامتياز الباهظ ينطوي أيضًا على أعباء باهظة تلقي بظلالها على القدرة التنافسية التجارية والتوظيف داخل الولايات المتحدة والتي من المرجح أن تزداد ثقلًا ويزيد من زعزعة الاستقرار مع تقلص حصة الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي. تعود فوائد أولوية الدولار بشكل أساس على المؤسسات المالية والشركات الكبرى، ولكن يتحمل العمال التكاليف بشكل عام. لهذا السبب، فإن استمرار هيمنة الدولار يهدد بتعميق عدم المساواة، وكذلك الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة.
هيمنة الدولار لم يتم تحديدها مسبقا. لسنوات، حذر المحللون من أن الصين وقوى أخرى قد تقرر التخلي عن الدولار وتنويع احتياطياتها من العملات لأسباب اقتصادية أو استراتيجية. حتى الآن، لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن الطلب العالمي على الدولار اتجه نحو النضوب. ولكن هناك طريقة أخرى يمكن أن تفقد بها الولايات المتحدة مكانتها كمُصدر للعملة الاحتياطية المهيمنة في العالم: يمكن أن تتخلى طواعية عن هيمنة الدولار لأن التكاليف الاقتصادية والسياسية المحلية قد تزايدت بشكل كبير.
لقد تخلت الولايات المتحدة بالفعل عن التزاماتها الأمنية والمتعددة الأطراف خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب، مما دفع علماء العلاقات الدولية الى مناقشة ما اذا كانت البلاد تتخلى عن الهيمنة بالمعنى الاستراتيجي الأوسع. يمكن للولايات المتحدة أن تتخلى عن التزامها بالهيمنة على الدولار بطريقة مماثلة: حتى لو أراد الكثير من دول العالم أن تحافظ الولايات المتحدة على دور الدولار كعملة احتياطية -تمامًا كما يريد الكثير من العالم أن تستمر الولايات المتحدة لتوفير الأمن- يمكن لواشنطن أن تقرر أنها لم تعد قادرة على القيام بذلك. إنها فكرة تلقت القليل من النقاش بشكل مفاجئ في دوائر السياسة الاميركية، لكنها يمكن أن تفيد الولايات المتحدة، وفي النهاية، بقية العالم.
كلفة هيمنة الدولار
تنبع هيمنة الدولار من الطلب عليه في جميع أنحاء العالم. يتدفق رأس المال الأجنبي الى الولايات المتحدة لأنها مكان آمن لوضع الأموال ولأن هناك القليل من البدائل الأخرى. تدفقات رأس المال هذه تقزم تلك اللازمة لتمويل التجارة عدة مرات، وتتسبب في عجز كبير في الحساب الجاري للولايات المتحدة. بعبارة أخرى، لا تعيش الولايات المتحدة بما يتجاوز إمكانياتها بقدر ما تستوعب رأس المال الفائض في العالم.
للهيمنة الدولارية أيضًا عواقب توزيعية محلية – أي أنها تخلق رابحين وخاسرين داخل الولايات المتحدة. الفائزون الرئيسيون هم البنوك التي تعمل كوسطاء ومتلقين لتدفقات رأس المال، والتي تمارس تأثيرًا مفرطًا على السياسة الاقتصادية الأمريكية. والخاسرون هم المصنعون والعمال الذين يتم توظيفهم. كما ان الطلب على الدولار يرفع قيمته، مما يجعل الصادرات الأمريكية أكثر تكلفة ويحد من الطلب عليها في الخارج، مما يؤدي الى الحصول على اموال مكتسبة (ارباح)، وفقدان الوظائف في التصنيع.
وقد تحملت الولايات تلك التكاليف في مناطق مثل حزام الصدأ (مصطلح يشير الى منطقة في شمال الولايات المتحدة، وهي في الغالب الولايات القريبة من البحيرات العظمى، وبعضها يعتبر من ولايات الغرب الأوسط، وكانت هذه المنطقة معروفة في السابق بإنتاج الصلب والصناعات الثقيلة). وهي نتيجة أدت بدورها الى تعميق الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية وغذت الاستقطاب السياسي. وتم نقل وظائف التصنيع – التي كانت ذات يوم مركزية في اقتصادات هذه المناطق إلى الخارج، تاركة الفقر والاستياء في أعقابها. لذلك ليس من المفاجئ أن تصوت العديد من الولايات الأكثر تضررًا لصالح الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية السابقة.
من المرجح أن تزداد التكاليف المحلية لاستيعاب التدفقات الرأسمالية الكبيرة وتصبح أكثر زعزعة لاستقرار الولايات المتحدة في المستقبل. مع استمرار الصين والاقتصادات الناشئة الأخرى في النمو واستمرار تقلص حصة الولايات المتحدة من الاقتصاد العالمي، ستنمو تدفقات رأس المال الداخلة الى الولايات المتحدة مقارنة بحجم الاقتصاد الأمريكي. وسيؤدي هذا الى تضخيم العواقب التوزيعية لهيمنة الدولار، مما سيفيد الوسطاء الماليين الأمريكيين على حساب القاعدة الصناعية للبلاد. ومن المرجح أيضًا أن يجعل السياسة الأمريكية أكثر خطورة.
بالنظر الى هذه الضغوط الاقتصادية والسياسية المتزايدة، سيصبح من الصعب -بشكل متزايد- على الولايات المتحدة تحقيق نموا أكثر توازناً وإنصافاً مع بقاء الوجهات المفضلة لرأس المال الفائض في العالم، ومع ارتفاع قيمة العملة وتراجع التصنيع. في مرحلة ما، قد يكون لدى الولايات المتحدة القليل من البدائل غير الحد من واردات رأس المال لصالح الاقتصاد الأوسع – حتى لو كان ذلك يعني التخلي طواعية عن دور الدولار باعتباره العملة الاحتياطية المهيمنة في العالم.
السبق البريطاني
لن تكون الولايات المتحدة الدولة الأولى التي تتنازل عن الهيمنة المالية. من منتصف القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى، كانت المملكة المتحدة هي الدائن المهيمن في العالم، وكان الجنيه الإسترليني هو الوسيلة المهيمنة لتمويل التجارة الدولية. خلال هذه الفترة، استندت قيمة النقود الى قابليتها للاسترداد مقابل الذهب بموجب ما يسمى بمعيار الذهب. واحتفظت المملكة المتحدة بأكبر احتياطي من الذهب في العالم، واحتفظت دول أخرى باحتياطياتها من الذهب أو الجنيه.
في النصف الأول من القرن العشرين تراجع الاقتصاد البريطاني، وأصبحت صادراته أقل قدرة على المنافسة. ولكن نظرًا لالتزام المملكة المتحدة بمعيار الذهب، فان عجزًا تجاريًا يعني نقل الذهب إلى الخارج، مما قلل من كمية الأموال المتداولة ودفع الأسعار المحلية الى الانخفاض. علقت المملكة المتحدة المعيار الذهبي خلال الحرب العالمية الأولى، الى جانب عدة دول أخرى. ولكن بحلول نهاية الحرب، كانت دولة مدينة، وحلت الولايات المتحدة، التي تراكمت لديها احتياطيات ضخمة من الذهب، محلها باعتبارها الدائن الرئيس للعالم.
عادت المملكة المتحدة إلى معيار الذهب في عام 1925، لكنها فعلت ذلك بسعر الصرف قبل الحرب، مما يعني أن الجنيه الإسترليني كان مبالغًا في تقدير قيمته، مع احتياطيات الذهب المستنفدة كثيرًا. استمرت الصادرات البريطانية في المعاناة، وتضاءلت حيازات الذهب المتبقية في البلاد، مما أجبرها على خفض الأجور والأسعار، وتراجعت القدرة التنافسية الصناعية للبلاد، وارتفعت معدلات البطالة، مما تسبب في اضطرابات اجتماعية. في عام 1931، تخلت المملكة المتحدة عن معيار الذهب من أجل مصالحها – وهو ما يعني في الواقع التخلي عن هيمنة الاسترليني.
في عام 1902، وصف جوزيف تشامبرلين، وزير الدولة لشؤون المستعمرات آنذاك، بأن المملكة المتحدة “عملاق مرهق”. اليوم، يناسب المصطلح الولايات المتحدة التي ترى قدرتها الاقتصادية تتضاءل مقارنة بالقوى الأخرى، ولا سيما الصين. ويناقش منظرو العلاقات الدولية ومحللو السياسة الخارجية درجة ومدى الانحدار الأمريكي وحتى التوقعات لعالم “ما بعد أمريكا”.
يجادل البعض بأنه في عهد ترامب، تخلت الولايات المتحدة عن عمد عن مشروع “الهيمنة الليبرالية” -على سبيل المثال، من خلال خلق حالة من عدم اليقين بشأن الالتزامات الأمنية الأمريكية. ويصف آخرون تراجع الولايات المتحدة عن الهيمنة على أنه جزء من تراجع هيكلي طويل المدى، يجعل من المتصور تمامًا أن الولايات المتحدة ستتبع السابقة البريطانية وتتخلى طواعية عن الهيمنة النقدية. من المدهش أن مناقشة ما إذا كان هذا قد يحدث وكيف حدث ذلك.
قضية فرض ضرائب على رأس المال الضريبي
في الوقت الحالي، يبدو الدولار أكثر هيمنة من أي وقت مضى. حتى في الوقت الذي انغمس فيه الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود وخسر ملايين الوظائف، فقد زاد الطلب على الدولار -تمامًا كما حدث بعد الأزمة المالية لعام 2008. باع الأجانب أعدادًا كبيرة من سندات الخزانة الأمريكية في مارس، لكنهم استبدلوها بالدولار الأمريكي. ضخ الاحتياطي الفيدرالي تريليونات الدولارات في الاقتصاد العالمي من أجل منع الأسواق المالية الدولية من الانهيار، مما أدى إلى توسيع نظام خطوط المقايضة مع البنوك المركزية الأخرى التي استخدمها في عام 2008. حتى مع سوء إدارة ترامب لوباء كوفيد_19 عزز وجهة النظر أن الولايات المتحدة هي قوة متراجعة، وقد أكدت تصرفات الاحتياطي الفيدرالي والمستثمرين في جميع أنحاء العالم على مركزية الدولار في الاقتصاد العالمي.
لكن هذا لا ينبغي أن يطمئن الولايات المتحدة. اذ سيستمر تدفق رأس المال في إلحاق الضرر بالمصنعين الأمريكيين، ولن يؤدي الانكماش الناجم عن الوباء إلا الى تفاقم الألم الذي يشعر به العمال. ومن أجل تخفيف الضغوط الاقتصادية والسياسية المتصاعدة في مناطق مثل حزام الصدأ، يجب على الولايات المتحدة التفكير في اتخاذ خطوات للحد من واردات رأس المال. يتمثل أحد الخيارات في توفير عدد أقل من الدولارات للاقتصاد العالمي، مما يؤدي الى ارتفاع قيمة العملة الى درجة يرفض فيها الأجانب شرائها. ومع ذلك، فإن القيام بذلك من شأنه أن يجعل التجارة الأمريكية أقل قدرة على المنافسة، ويثقل كاهل التضخم المنخفض بالفعل.
سيستمر تدفق رأس المال في إلحاق الضرر بالمصنعين الأمريكيين
بدلاً من ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تستدعي خدعة تلك القوى، بما في ذلك الصين والاتحاد الأوروبي، التي دعت الى تقليص دور الدولار العالمي. ولا يوجد وريث واضح للولايات المتحدة كمزود للعملة الاحتياطية المهيمنة في العالم. للسماح لرأس المال بالتدفق بحرية داخل وخارج الصين، على سبيل المثال، سيتطلب إعادة هيكلة أساسية -وصعبة سياسياً -لاقتصاد ذلك البلد. ولا يمكن لمنطقة اليورو أن تتولى زمام الأمور طالما أنها تعتمد على النمو الذي تقوده الصادرات وما يقابله من تصدير لرأس المال. لكن عدم وجود خليفة واضح لا ينبغي بالضرورة أن يمنع الولايات المتحدة من التخلي عن هيمنة الدولار.
يمكن للولايات المتحدة أن تفرض ضريبة أو ضريبة تعاقب الاستثمارات الأجنبية قصيرة الأجل والمضاربة ولكنها تستثني الاستثمارات طويلة الأجل. مثل هذه السياسة ستصل إلى أصل الاختلالات التجارية عن طريق تقليل تدفقات رأس المال (تصطدم الحواجز التجارية بالأعراض وليس السبب)، كما أنه سيخفف من رد الفعل الحالي ضد التجارة الحرة ويقلل من الأرباح غير المنتجة اقتصاديًا للمؤسسات المالية.
في سيناريو متفائل، ستوافق المحاور الاقتصادية الثلاثة في العالم -الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي- على إنشاء سلة عملات على غرار حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي ومنها تمكين صندوق النقد الدولي من تنظيمها أو إنشائها. مؤسسة نقدية دولية جديدة للقيام بذلك. والنتيجة المتشائمة ولكن الأكثر احتمالية هي أن التوترات -خاصة بين الصين والولايات المتحدة- ستجعل التعاون مستحيلاً وتزيد من احتمالية الصراع بينهما حول القضايا الاقتصادية.
حتى لو كان من المستحيل إيجاد حل تعاوني، فقد يكون من المنطقي أن تتخلى الولايات المتحدة من جانب واحد عن هيمنة الدولار. وسيؤدي القيام بذلك إلى إجبار الصين ومنطقة اليورو على نشر مدخراتهما الفائضة في الداخل، الأمر الذي سيتطلب منهما إجراء تعديلات كبيرة على نماذجهما الاقتصادية بحيث تنتج نموًا أكثر توازناً وإنصافاً. كما أنه سيحد من الأرباح المفرطة للوسطاء الماليين الأمريكيين ويفيد العمال الأمريكيين من خلال خفض قيمة الدولار وجعل الصادرات الأمريكية أكثر تنافسية. باختصار، قد يفتح التخلي عن هيمنة الدولار الطريق أمام اقتصاد أمريكي واقتصاد عالمي أكثر استقرارًا وإنصافًا.
رابط المصدر: