اعتدنا أن نرى بداية شهر محرم الحرام من كل عام مصادمات ومواجهات بعضها كلامية وبعضها أشد بين مؤيدي (التطبير) ومعارضيه ، وأصبحت تنظم القصائد واستخدمت الردات الحسينية وبرامج تلفزيونية ومحاضرات دينية لتصفية الحسابات بدل أن تكون لإيضاح نهج الإمام الحسين عليه السلام ، وهذا بالتأكيد ما لا يرضاه الحسين عليه السلام ولا جده ولا أباه ولا الله جل شأنه ، فبدل أن نستثمر ثورة الإمام الحسين عليه السلام لإصلاح أنفسنا ومجتمعنا ونصلح الآخرين أصبحت نهضة الإمام الحسين عليه السلام عبارة عن (التطبير) فقط فمن ينصره يعتقد أنه حقق ما أراده الحسين عليه السلام ، ومن يعارضه يعتقد أنه لبى نداء الحسين عليه السلام .
لذلك وحتى لا نشغل أنفسنا بالقشور وننسى اللب الذي من أجله ضحى الأمام الحسين عليه السلام بنفسه وعياله ونسائه وأصحابه ، علينا أن نضع خارطة طريق تحفظ لكل طرف قناعته ووجهة نظره وتحترم بها جهة نظر الآخر وقناعته ، وأساس هذه الخارطة هي أن مسألة (التطبير) مسألة اجتهادية بحتة اختلف في حكمها الفقهاء أيدهم الله ، مثلها مثل أي مسألة خلافية بينهم ، فكما يختلف العلماء في رؤية الهلال وتحديد الأول من كل شهر قمري ويختلفون في بعض مناسك وأحكام الحج ويختلفون في بعض المفطرات ويختلفون في وجوب صلاة الجمعة تخييري أم عيني وغيرها من الاختلافات ، اختلفوا في مسألة (التطبير) ، فبعض يراها مستحبة وفيها إظهار لعزة المذهب ولقضية الإمام الحسين عليه السلام وآخرون يرونها محرمة لأن فيها توهين للمذهب إضافة الى إيذائها للنفس .
فإذا تعاملنا مع (التطبير) كمسألة فقهية اعتيادية مختلف في حكمها بين الفقهاء وليست مسألة عقائدية من يؤمن بها يدخل الى المذهب ومن لا يؤمن بها يخرج عنه ، أو بالعكس من لا يؤمن بها يدخل للمذهب ومن يؤمن بها يخرج عنه ، فإذا تعاملنا بهذا المعيار سوف تنطفئ نار الفتنة التي أشعلها الجهال بين ابناء المذهب الواحد .
فمن كان يقلد فقيهاً يرى (التطبير) مستحباً فإن شاء طبّر وإن شاء يترك – باعتباره مسحب – وأما من كان يقلّد مرجعاً يقول بحرمة (التطبير) فليمتنع عن التطبير ويحذر من كان يقلد نفس المرجع أو مراجع آخرين لهم نفس الفتوى من باب (النهي عن المنكر) ، وبالتالي فكل طرف يؤدي تكليفه الشرعي وفق تقليده المبني على أسس شرعية ، وكلاهما – إن شاء الله – مثابان ولهما الأجر والثواب وفي عملهما إن كان خالصاً لله مواساة للنبي وآله صلوات ربي عليهم أجمعين .
ويحق للطرفين وفق هذه المنهجية أن يروج لفكرته ووجهة نظره من باب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ولكن بشرط اتباع أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة ، فمؤيدو (التطبير) يرونه مستحباً وفيه إعزاز للثورة الحسينية الخالدة فيدعون له من باب (الأمر بالمعروف) ، ومعارضو (التطبير) يرونه محرماً وفيه توهين للمذهب وإيذاء للنفس فيدعون الناس لتركه من باب (النهي عن المنكر) .
ولكن المشكلة حقيقة ليس عند هؤلاء المتشرعين الذين يرجعون الى علمائهم ويلتزمون بفتاواهم ، وإنما المشكلة في أولئك الذين لا يرجعون في هذه المسألة (أي التطبير) الى فقيه أو مرجع تقليد – وهم الأغلبية – وإنما يرجعون فيها الى العرف السائد والعاطفة ، فبعضهم إما أن لا يقلّد أصلاً في باقي أمور دينه أو أنه لا يعرف رأي مرجعه في موضوع (التطبير) أو أنه يرجع الى رأي مرجع معين يرى بجواز التطبير فيتبعه حتى وإن كان رأي مرجعه ضد (التطبير) .
لذلك إن كان ولا بد من المواجهة فينبغي أن تكون بين مؤيدي (التطبير) ومعارضيه من جهة وبين من يطبّر من دون دليل شرعي من جهة أخرى ، لأن الطرف الأول وإن كانا مختلفين في حلية وحرمة (التطبير) إلا أنهم متفقون على أنهم ملتزمون بالتكليف الشرعي المبرئ للذمة أمام الله ، أما الطرف الثاني فهم يعملون بلا تقليد وكل عمل بلا تقليد باطل ويجب أن يعارضهم الجميع كي ينتبهوا الى أن عملهم هذا غير مقبول عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام بما فيهم الحسين عليه السلام ، فإما أن يتركوا التطبير وإما أن يتثبتوا من توفر شروط المرجعية عند من يفتي بجواز (التطبير) فيقلده .
وأما آراء بعض الفقهاء المبهمة بخصوص (التطبير) وغير الواضحة فينبغي أن يلتزم مقلدوهم الاحتياط لأن ترك الحرام أولى وأحوط من عمل المستحب ، وإلا سيوقع نفسه في حرج شديد إذا تبيّن أن مرجعه يحرم (التطبير) ولا يجوّزه ، وتحريم مثل هذه الأعمال جاء بسبب آثاره ، لذلك فهي ليس كحرمة عمل ليس له تبعات وآثار ، وبما أن أغلب الفقهاء الذي يحرمون التطبير هو بسبب تهوين المذهب فإن هذا الشخص المسكين ساهم في توهين المذهب الذي شخّصه مرجعه الذي يقلده .