منذ بداية الحرب على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023 والتي خلفت ما زاد عن 38 ألف شهيد، برز العديد من الأسئلة عن مرحلة مع بعد الحرب ومستقبل قطاع غزة، حيث تعد عملية إعادة إعمار القطاع هي أبرز التحديات نظرًا لكمّ الدمار الهائل والذي ينعكس بالضرورة على حجم التمويل المطلوب. ولكن التمويل ليس آخر التحديات، بل هناك عدو خفي يهدد الأرواح حتى بعد انتهاء الحرب وهي الذخائر غير المنفجرة من مخلفات الحرب “UXO أو Unexploded ordinance”، أو ما يطلق عليها “حدائق الشيطان”.
مخلفات الحرب القابلة للانفجار: تهديد مستمر لعقود طويلة
عندما يتم استخدام أي سلاح سواء كان قذيفة أو صاروخًا أو قنبلة أو لغمًا أو خلافه، تظل هناك احتمالية لفشل عملية الانفجار والتي تتراوح ما بين 2% إلى 40% حسب العوامل المختلفة مثل عمر القذيفة وجودة التصنيع وطريقة التخزين والصيانة والظروف البيئية. وعندما يفشل التفجير، تظل هذه المخلفات الحربية متناثرة على الأرض قابلة للانفجار في أي لحظة ودون سابق إنذار. وبالتالي، تتحول تلك القنابل إلى ما يطلق عليه “مخلفات الحرب القابلة للانفجار – ERW – Explosive remnants of war) أو (الذخائر غير المتفجرة) Unexploded Ordnance (UXO).
تظل هذه الذخائر في وضع قابل للانفجار في أي لحظة دون أي عنصر أمان لسنوات طويلة في مناطق الصراع من مدن وخلافه، كما يزداد عدم استقرار تلك الذخائر بمرور الزمن نتيجة الظروف الجوية وعوامل التعرية وتآكل أجسام الذخائر؛ مما يزيد من خطورتها، ناهيك عن عمليات إعادة البناء والتي تتطلب إزالة المخلفات والبدء في عمليات البناء. وبالتالي، فتلك الذخائر تشكل تهديدًا على حياة العاملين في إعادة البناء بشكل كبير. ولعل جمهورية ألمانيا الاتحادية أحد أبرز الأمثلة، نظرًا لأنها تعاني حتى الآن من مخلفات الحرب العالمية الثانية، حيث يتم العثور على ما يقرب من 2000 طن من الذخائر غير المتفجرة سنويًا. ويعثر على أغلب تلك الذخائر خلال عمليات البناء، هذا ما يدفع بالسلطات الألمانية إلى تقييم أرض مشروعات البناء فنيًا والتأكد من خلوها من المتفجرات وذلك قبل الشروع في أي نشاط إنشائي. ومع ذلك، تقع حوادث الانفجار للذخائر الحربية غير المنفجرة في أثناء عمليات البناء.
مخلفات الحرب القابلة للانفجار: لا ينتهي الموت في غزة مع نهاية الحرب
يقدر عدد من الخبراء طبقًا لتصريحات صحفية كمية الذخائر التي تم بها قصف قطاع غزة منذ بداية الحرب وحتى نهاية شهر مايو 2024 بحوالي 60 ألف طن من المتفجرات، ونسبة لا تقل عن 10% من تلك الذخائر قد فشلت في الانفجار. هذا ما يعني وجود حوالي 6000 طن من الذخائر غير المتفجرة والتي لا تزال قابعة وسط حطام المباني والمنشآت وفي طرقات قطاع غزة. ويشكل وجود مخلفات الحرب المذكورة تهديدًا كبيرًا لحياة السكان الذين يرغبون في العودة إلى منازلهم في أعقاب انتهاء الحرب، فمن المتوقع أن تسبب تلك الذخائر المتناثرة في حصد أرواح المئات، كما ستدوم حوادثها الأليمة في الظهور حتى بعد انتهاء الحرب بسنوات.
وبالنظر إلى الخريطة المرفقة لقطاع غزة (مرفق خريطة رقم 1) والتي توضح أماكن القصف والدمار بالقطاع، وبناءً على انتشار مستوى الدمار على أغلب مساحة القطاع وخاصة في المدن الكبيرة مثل مدينتي غزة وخان يونس، يمكن استنتاج أن الذخائر غير المتفجرة تنتشر في كافة أرجاء قطاع غزة ذي المساحة المحدودة والتي تبلغ 361 كم2 والاكتظاظ السكاني (2.2 مليون نسمة).
تحديات إعادة إعمار غزة
يشكل إعادة إعمار قطاع غزة تحديًا كبيرًا أمام المجتمع الدولي نظرًا للدمار الشديد الذي لحق بالقطاع. فالبنك الدولي يشير إلى أنه حتى نهاية يناير 2024 قد بلغت خسائر البنية التحتية في غزة 18.5 مليار دولار. كما أن التحدي الرئيسي في إعادة الإعمار هو تطهير القطاع من مخلفات الحرب، فطبقًا لتقديرات غرفة الأمم المتحدة لعمليات الألغام فإن الأمر يحتاج إلى ما يقرب من 14 عامًا من أجل تطهير قطاع غزة من الركام والذخائر غير المتفجرة.
تكمن مشكلة إعادة الإعمار الأساسية في تطهير الأرض من مخلفات الحرب وخاصة الذخائر غير المتفجرة، والتي يمكن أن يتم حصر تلك التحديات في النقاط التالية:
- عودة سكان القطاع إلى بيوتهم أو مناطق سكنهم بعد وقف الحرب، فمن المرجح وجودهم بجانب هذه الذخائر؛ مما قد يعرضهم للخطر في حالة انفجارها.
- الخطورة على حياة العاملين في مجال إعادة الإعمار خاصة سائقي معدات الحفر واللوادر والمعدات الخاصة بأعمال البنية التحتية، والتي من الوارد أن تصطدم بإحدى الذخائر المدفونة أسفل الركام في أثناء إزالته.
- حالة الذخائر غير المتفجرة، فقد لا يستطيع خبراء المفرقعات إبطال مفعول بعض القنابل فيضطرون إلى إخلاء المنطقة وتفجيرها؛ مما يؤدي إلى دمار عدد من المباني سواء القائمة أو ما تم إعادة بنائه خاصة في حالة كبر حجم الذخائر.
- اكتظاظ قطاع غزة بالسكان وضيق مساحة القطاع يجعل فكرة إخلاء المواطنين إلى أماكن آمنة غير واردة، حيث لا يوجد العديد من الأماكن الآمنة التي يمكن أن تستوعب هذا العدد الكبير من السكان.
إعادة إعمار غزة هو إحدى أهم أولويات مصر في الفترة المقبلة نظرًا لموقعها الملاصق للحدود المصرية؛ مما يجعل استقرارها وأمنها من إحدى ركائز الأمن القومي المصري. كما أن في إعادة الإعمار فرصة اقتصادية مهمة للشركات المصرية، كما يمكن الاستفادة من خبرات مصر في إزالة الذخائر غير المتفجرة وإعادة إعمار تلك المناطق.
التعامل مع الذخائر غير المنفجرة: نجاح التجربة المصرية
عانت جمهورية مصر العربية من خطر الذخائر غير المتفجرة ومخلفات الحرب، فمصر تأتي في المرتبة الأولى عالميًا من حيث عدد الألغام بإجمالي يصل إلى أكثر 23 مليون لغم أو ما يشكل حوالي 20% من إجمالي الألغام على مستوى العالم حتى عام 2022. ولقد خسرت مصر حوالي 697 قتيلًا و7616 مصابًا من مواطنيها حتى شهر يوليو عام 2015، هذا إلى جانب تعطل العديد من مشروعات التنمية السياحية والعقارية والزراعية وغيرها. تنقسم المناطق المتضررة في مصر إلى قطاعين، وهما قطاع الصحراء الغربية والذي عانى من الألغام التي خلفتها الحرب العالمية الثانية (معركة العلمين) حيث نتج عن ذلك تعطل العديد من المشروعات الزراعية والسياحية والعقارية والصناعية والتنقيب عن البترول، وقطاع البحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء نتيجة الحروب مع إسرائيل والتي نتج عنها أيضًا تعطل مشروعات الاستصلاح الزراعي والسياحة بالإضافة إلى التنقيب عن البترول.
ونتيجة لجهود القوات المسلحة المصرية على مدى سنوات، نجحت مصر في تطهير منطقة كبيرة في منطقة العلمين من الألغام وبدأ مشروع مدينة العلمين الجديدة، والذي يعد أحد أبرز النماذج على تحويل حدائق الشيطان إلى أراضٍ مليئة بالحياة والتنمية. حيث كانت منطقة العلمين من أبرز المناطق المتضررة بالألغام في السابق وأصبحت حاليًا أحد المشروعات الواعدة ورمزًا للإرادة في تحويل حقول الألغام إلى مشروعات قومية عملاقة، ناهيك عن استصلاح عدد كبير من الأفدنة للزراعة.
خاتمة
تشكل الذخائر غير المتفجرة تهديدًا كبيرة لحياة السكان بعد انتهاء الحرب ولا تمحي شبح الموت. وتزداد خطورة تلك الذخائر مع الزمن، حيث تصبح غير مستقرة وأكثر قابلية للانفجار، ويمكن للألغام أن تتحرك من مكانها نتيجة الظروف الجوية خاصة في المناطق الصحراوية؛ مما يجعل الخرائط الخاصة بالألغام غير مطابقة للواقع. فينبغي أن تكون أولوية إعادة إعمار مناطق الحروب هي تطهير الأراضي من مخلفات الحرب والقضاء على “حدائق الشيطان”.
المصدر : https://ecss.com.eg/46892/