مسلم عباس
سُئل الباحث الكويتي الدكتور عبد الله النفيسي عن موقع بلاده وسط دول كبيرة تتحارب فيما بينها، وما هو الموقف المطلوب من حكومة بلاده أن تتخذه طوال الوقت؟
أجاب النفيسي: أن الكويت هي نملة صغيرة وسط عدد من الفيلة الكبار، ويقصد العراق وإيران والسعودية، الذين يعيشون حالة من الصراع المزمن.
وفي لقاء تلفزيوني آخر يصف النفيسي دولة الكويت بأنها مجرد وسادة بين السعودية والعراق.
ماذا تعني الوسادة؟
عند حمل ألواح الزجاج على السيارات يتم وضع وسادة صغيرة بين ألواح الزجاج لمنع الاحتكاك بينها، بمعنى آخر وظيفة الوسادة الفاصلة بين الزجاج هي منع احتكاكه وتكسره، وتلك وظيفة دولة الكويت الصغيرة جداً بين جيران يكبرونها مساحة وتأريخاً ومشاكسة وحروباً وأزمات.
هذه الدولة النملة، أو الدولة الوسادة، قد كلفت العراق مليارات الدولارات لأنه استسهل غزوها عام 1990، ولم يستطع التخلص من آثار فعلته إلا قبل أيام قلائل عندما تم الإعلان عن انتهاء ملف التعويضات العراقية لدولة الكويت.
من مقدمتي المقتبسة أحاول السفر إلى دولتين صغيرتين يشبه وضعهما دولة الكويت:
الأولى: أوكرانيا التي تتعرض هذه الأيام لغزو روسي قد يكلفها خسائر فادحة ليست آنية فحسب، إنما خسائر مستقبلية تجعل من الصعوبة استقرارها على جادة سليمة.
والغزو الحالي له جذور قديمة بعضها تراكمات لأخطاء الحكومات السابقة، وأخرى تتعلق بطبيعة الصراع العالمي وتوزيع مناطق النفوذ بين الدول الكبرى.
فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 بسطت كييف يدها على 6000 رأس نووي، والرقم ليس غريباً على الدولة التي شهدت أسوأ كارثة نووية في ثمانينيات القرن الماضي بانفجار منشأة تشيرنوبل السوفيتية، شملت آثارها المدمرة أغلب مناطق القارة الأوروبية، وما تزال تنفث اشعاعاتها المميتة على سكان المنطقة المحيطة.
من كارثة تشيرنوبل تولدت عقدة خوف أوكرانية من كل شيء له علاقة بالتقنية النووية، لذلك لم تستطع كييف الحفاظ على اسلحتها النووية، وأسرعت إلى تدميرها عام 1994، قالت إنها ستتحول إلى دولة محايدة، بمعنى أنها لا تتحالف مع روسيا ولا مع الدول الغربية ممثلة بحلف شمال الأطلسي “ناتو”.
لكن التخلي عن 6000 قنبلة نووية يشبه إلى حد ما نزع أنياب مفترس كبير وسط غابة لا تعترف إلا بأصحاب الأنياب القوية القاتلة، لقد مُسِخَت أوكرانيا من وحش مخيف إلى نملة تشبه دولة الكويت.
ببساطة انتقلت من دور المفترس إلى فريسة سهلة، ومساحة يحاول الكبار الاقتراب من حدودها ليس رغبة فيها ولا حباً بمصلحة شعبها، إنما من أجل مضايقة الكبار الآخرين وخنقهم، والقصد هنا عن الصراع الأميركي الروسي، السعي لقضم أوكرانيا كل لصالحه.
دولة مثل أوكرانيا يجب عليها إن أرادت العيش بسلام اختيار مسار محدد.
أما أن تمتلك سلاحاً نووياً فيعصمها من الغزو الشرقي أو الهيمنة الغربية، بينما قامت كييف بالتخلي عن درعها النووي.
أو اتخاذ طريق الحياد من الجميع وإعطاء ضمانات لكافة الأطراف بأنها لن تنحاز ضدهم سواء الروس أو الأمريكان.
تأرجت أوكرانيا بين الحياد والانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو” الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأميركية العدو الأول لروسيا.
وكل خطوة تقرب أوكرانيا من حلف الناتو، تدفعها خطوات نحو الصدام مع روسيا، لأن انضمامها يعني فعلياً خنق روسيا وتحويلها إلى دولة إقليمية غير مؤثرة على الساحة الدولية.
وكان على ساسة أوكرانيا فهم المعادلة الدولية المعقدة، وعدم التصديق بالوعود الغربية والأميركية، فهم لا يرون في كييف إلا ساحة نفوذ وتوسع ومسألة كسب نقاط ضد موسكو، فإن ربحوها كان خيراً وإن خسروها عسكرياً سوف يستخدمونها ذريعة لشيطنة روسيا وعزلها دولياً.
ربما أراد قادة أوكرانيا التخلص مسميات مهينة لبلادهم مثل “الحديقة الخلفية لروسيا”، إلا أنهم في سعيهم هذا انتقلوا من الحديقة التي لا يمسها أحد إلى الساحة التي يتصارع فيها الكبار بينما ينزح شعبها إلى الجوار، وينهار اقتصادها وتتمزق صورتها لتسقط في النهاية وسط الوحل.
طال الحديث بشأن أوكرانيا، وهي تستحق أكثر لكونها نشرة أخبار العالم حالياً، إنها قصة الحرب الراهنة، وعند أصوات الرصاص لا يمكن تجاهل المنطقة العربية التي لا يسكت صوت الرصاص فيها.
أعود إلى مقدمتي المقتبسة بشأن الكويت حينما كانت مجرد نملة كما وصفها الدكتور عبد الله النفيسي، إذ غزاها صدام خلال ساعات قليلة وأحرق جيشه نفطها ونهب خيراتها، بكلمات أخرى لقد افترسها ومزقها، وتحولت إلى جثة هامدة حكومتها منفية خارج حدودها وشعبها تحت حكم صدام.
بالنسبة لصدام الأمر يشبه مفترس يمارس ألعابه في حديقته الخلفية ليؤدب من تطاول على كبريائه، لكنه أخفق في فهم العالم المحيط به وتوازنات القوة التي ترفض تغيير الحدود بدون تنسيق مع الكبار.
ما هي إلا شهور قليلة ويهرب جيش صدام الذي أشيع بأنه رابع جيش في العالم خلف أميركا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا.
النمر الغاضب من نملة اسمها الكويت، لا يستطيع استخدام طائراته التي تمثل أنيابه التي يقتل بها أعداءه، قصف عنيف وتدمير للقوة العراقية ثم حصار اقتصادي خانق ثم عمليات تفتيش عن أسلحة الدمار الشامل ثم غزو العراق عام 2003.
ما بعد غزو الكويت انطبق علينا المثل الدارج “نمر من ورق”، وأي دولة في العالم مهما كانت آلتها العسكرية هائلة ومدمرة سوف تنهار إذا بقيت تستخدم حديقتها الخلفية لتخويف العالم.
لم يعد العراق نمراً حتى من ورق، وبات حديقة خلفية لإيران كما يشيع الإعلام الغربي، أو ساحة أميركية متقدمة ضد إيران كما تشيع الأخيرة.
لا يوجد اختلاف كبير في التوصيف، ففي معناها العام يعني أن العراق لم يعد دولة قادرة على اتخاذ قراراتها لوحدها، إنما بعد أخذ الإذن من اللاعبين الإقليميين والدوليين.
في حالتنا اليوم علينا استخلاص الدروس والعبر، الدرس الأول والأقسى كان درس غزو الكويت وما قبله الحرب مع إيران.
والدرس الحالي ما يجري في أوكرانيا التي لم تفلح في أن تكون دولة نووية قوية، ولم تستطع أن تكون دولة محايدة، فكان مصيرها ما نشاهده عنها في نشرات الأخبار من مأساة لا يحبها أي أحد.
من الصعب علينا كعراقيين امتلاك سلاح فتاك يخيف الدول الأخرى ويمنعها من مهاجمتنا، السبب أننا نخاف من سلاحنا قبل غيرنا لعدم امتلاكنا حكومة عاقلة، ولا مسيطرة بالحد الذي يجعلنا نثق في تسليمها سلاحاً فتاكاً.
يبقى أمامنا خيار واحد، أن نكون محايدين، وهذه الاستراتيجية ليست سهلة أيضاً لكن تكلفتها أقل بكثير من تكديس السلاح.
لنعمل على جعل العراق دولة محايدة في الصراعات الدولية، فالمحاولة وحدها مع الجدية في السير على هذا النهج قد تسهم في ترميم صورتنا كدولة فاشلة وغير قادرة على حماية أمنها الداخلي فضلاً عن كونها تهديداً لجيرانها.
لا نريد أن نكون حديقة خلفية لأحد، كما لا نريد استخدام أراضينا منصة لضرب أي دولة، لأننا ببساطة حاربنا كثيراً وخسرنا كل حروبنا.
ليحمي الله شعب أوكرانيا.
.