كتبنا عن الاختراق الإسرائيلي لإفريقيا بمراحله المختلفة في أكثر من موضع. ويحاول هذا المقال معرفة حدود التأثير السياسي لإسرائيل في إفريقيا؛ إذ شهد تاريخ العلاقة بين الطرفين منذ تأسيس الدولة العبرية مراحل صعود وتراجع، على أنه يتم الترويج في السنوات الأخيرة لعودة الظهور الإسرائيلي في إفريقيا؛ لا سيما في النصف الثاني من ولاية رئس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
فما حقيقة حدود الدور والتأثير الذي تمارسه إسرائيل في إفريقيا؟
وهل تمتلك إسرائيل قوةً ونفوذًا سياسيًّا أقوى من الأطراف الدولية الأخرى المُشارِكَة في عملية التكالب الدولي الثالث على إفريقيا بعد نهاية الحرب الباردة؟
ولماذا يتم الترويج في العالم العربي لمفهوم القوة الإسرائيلية الخارقة –من منطق تآمري-، والتي تكاد تُعرقل مسيرة تطوُّر العلاقات العربية الإفريقية؟
كل هذه الأسئلة بحاجة إلى إجابات موضوعية لمعرفة حقيقة تأثير الوجود الإسرائيلي المتزايد بعد تصاعد حملة الهرولة الإفريقية من أجل تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، والتي انتهت بحصول إسرائيل على مقعد -بصفة مراقب- في الاتحاد الإفريقي.
تطور العلاقات الإسرائيلية الإفريقية:
منذ لحظة تأسيسها كدولة في عام 1948م، كان وضع إسرائيل ملغزًا: هل هي كيان مُصطَنَع؟ أم دولة لشعبٍ مُحرَّر، في مرحلة ما بعد الاستعمار؟ أم دولة استعمارية استيطانية؟ أم بؤرة إمبريالية تابعة للغرب؟ حاولت الدبلوماسية الإسرائيلية الترويج لرواية الشعب اليهودي المضطهد في مواجهة الرواية الفلسطينية، ووجدت بالفعل الساحة الإفريقية مناسبة تمامًا في معركة كسب العقول والقلوب.
ففي أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، عندما حصلت الدول الإفريقية على استقلالها، كانت إسرائيل تبذل كل ما في وسعها لتصبح واحدة من دول المجموعة الأفروآسيوية.
كانت إسرائيل بحاجة إلى إثبات شرعية الوجود أولاً، والالتفاف على مفهوم الأمن القومي العربي من خلال محاصرته من مناطق الأطراف ثانيًا، كما أنها من جهة ثالثة كانت بحاجة أيضًا إلى الحصول على مزيد من الأصوات في الأمم المتحدة لمواجهة الضغوط الدولية في القضايا المتعلقة بفلسطين.
لقد كانت حرب أكتوبر 1973م فاصلة في تاريخ العلاقات الإسرائيلية الإفريقية؛ حيث بادرت معظم الدول الإفريقية بقطع علاقتها مع إسرائيل. ومع ذلك فقد اتخذت بعض الدول قرارًا بقطع العلاقات مع إسرائيل قبل حرب أكتوبر، على سبيل المثال: قرر الزعيم الغيني أحمد سيكو توري، الذي كان مقربًا جدًّا من مصر، قطع العلاقات في عام 1967م بعد حرب الأيام الستة. كما قطعت الكونغو وتشاد والنيجر ومالي وبوروندي العلاقات مع تل أبيب خلال الفترة ما بين عامي 1972 و1973م، أي قبل حرب أكتوبر 1973م. بعد ذلك استأنفت معظم الدول الإفريقية علاقاتها مع الدولة العبرية خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ومؤخرًا هرولت بعض الدول الأخرى نحو إسرائيل.
ولا شك أن اتفاقيات أوسلو في عام 1993م كانت دافعًا قويًّا لاستئناف العلاقات مع بعض الدول الإفريقية. ومع ذلك، أدَّت الانتفاضة الفلسطينية الثانية خلال الفترة (2000-2005م)، إلى إضعاف هذه العلاقات مرة أخرى: فقد تم إغلاق بعض البعثات الدبلوماسية التي تم افتتاحها في التسعينيات في المغرب وتونس. وما زالت الجزائر وليبيا على موقفهما من عدم الاعتراف بوجود إسرائيل.
عودة ظهور إسرائيل في إفريقيا:
تتمتع إسرائيل اليوم بعلاقات دبلوماسية مع نحو46 دولة إفريقية، ولكن ليس لديها وُجود فعلي من حيث التمثيل الدبلوماسي سوى 15 سفارة في جميع أنحاء القارة بأكملها، بما في ذلك القاهرة. كانت آخر السفارات التي تم افتتاحها في كيغالي (رواندا) في عام 2019م، وأكرا (غانا) في عام 2011م.
ومع ذلك، فإن افتتاح سفارة في رواندا كان مشروطًا بإغلاق سفارة أخرى في أمريكا اللاتينية، وهو التزام فرضته وزارة المالية، التي تسعى بأيّ شكل لتجنُّب الإنفاق أكثر على السفارات في الخارج. فيما يتعلق بالقناصل الفخريين، يوجد لدى إسرائيل رسميًّا أقل من عشرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وبنين، وبوتسوانا، والرأس الأخضر، وغامبيا، ومدغشقر، وموريشيوس، وموزمبيق.
في عام 2016م، جدّدت إسرائيل العلاقات مع غينيا لأول مرة منذ حرب الأيام الستة عام 1967م. بعد ثلاث سنوات، فعلت الشيء نفسه مع تشاد، التي قطعت العلاقات في عام 1972م. وفي عام 2020م، قامت إسرائيل بتطبيع العلاقات مع المغرب، وأعلنت بدء مثل هذه العملية مع السودان.
لكن بينما حقَّقت إسرائيل مكاسب كبيرة في القارة في السنوات الأخيرة؛ فإن البنية التحتية الدبلوماسية اللازمة للاستفادة من إنجازاتها مفقودة بسبب قلَّة عدد السفراء المقيمين في القارة. إلى جانب البحث عن أسواق جديدة للزراعة الإسرائيلية والتكنولوجيا الفائقة والمعرفة الأمنية، كان رئيس الوزراء السابق حريصًا على تحسين سِجِلّ تصويت الدول الإفريقية بشأن المسائل المتعلّقة بإسرائيل في المنتديات الدولية مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة واليونسكو.
وأخيرًا أعلن الاتحاد الإفريقي قبول إسرائيل كعضو مراقب، بعد 19 عامًا من إقصائها من هذا التجمع القاري المؤلف من 55 دولة بسبب ضغوط الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي. وقد حاولت إسرائيل الحصول على مقعد في الاتحاد الإفريقي منذ تعليق عضويتها بعد فترة وجيزة من تشكيل الاتحاد في عام 2002م خلفًا لمنظمة الوحدة الإفريقية.
ولعل التساؤل المطروح في هذا السياق يرتبط بانعكاس ذلك على مستقبل العلاقات الإسرائيلية الإفريقية.
في يوليو 2016م، أصبح نتنياهو أول رئيس وزراء إسرائيلي يسافر إلى القارة منذ عقود عندما زار أربع دول في شرق إفريقيا: أوغندا وكينيا ورواندا. في ديسمبر من ذلك العام، استضافت القدس المحتلة سبعة وزراء والعديد من كبار المسؤولين الآخرين من أكثر من اثني عشر دولة من غرب إفريقيا في مؤتمر زراعي في إسرائيل، والذي رعته بشكل مشترك الإيكواس وماشاف، الوكالة الإسرائيلية للتعاون الإنمائي الدولي.
في يونيو 2017م، حضر نتنياهو المؤتمر السنوي للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، وهي منظمة تضم 15 دولة يبلغ عدد سكانها مجتمعة حوالي 320 مليون نسمة. تمت دعوة رئيس الوزراء لحضور الدورة العادية الحادية والخمسين لهيئة رؤساء دول وحكومات التجمع في مونروفيا، عاصمة ليبيريا.
وتحظى إفريقيا بأهمية خاصة لدى إسرائيل في هذا السعي. وكما قال نتنياهو نفسه عام 2017م لسفراء إسرائيل إلى إفريقيا: «تتكون الأغلبية التلقائية ضد إسرائيل في الأمم المتحدة -في جوهرها– من الدول الإفريقية. توجد 54 دولة؛ إذا غيَّرت نمط تصويت أغلبيتها، فإنك بذلك تكون قد نقلتهم فورًا إلى الجانب الآخر. لقد تغير ميزان الأصوات المناهضة لنا في الأمم المتحدة، واليوم الذي سنحصد فيه الأغلبية هناك ليس ببعيد».
حدود التأثير السياسي:
في أحد الكتب المهمة التي كُتبت عن العلاقات الإسرائيلية الإفريقية، بعنوان إسرائيل في إفريقيا: الأمن، الهجرة، السياسة بين الدول، الذي نُشر في أبريل 2020م، يشرح الباحث الإسرائيلي، يوتام جيدرون، بوضوح كيف أنه منذ العقود الأولى التي تلت تأسيس إسرائيل، لم تقدّم الدول الإفريقية -متأثرة بعلاقاتها مع الدول العربية- سوى القليل من الدعم للدولة اليهودية في المنظمات الدولية.
ومع ذلك، تُصوّر إسرائيل الخمسينيات والستينيات بشكل روتيني على أنها عصر ذهبي في العلاقات مع إفريقيا؛ بسبب ما قامت به رئيسة الوزراء جولدا مائير، لا سيما من خلال جهاز التعاون الإنمائي الدولي (ماشاف).
وفي المقابل كذلك، يجب التأكيد على أنه في المنظمات الدولية -في القضايا التي لا تتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني- تنحاز إسرائيل أحيانًا إلى الكتلة الغربية، وقد تتخذ مواقف تتعارض مع مصالح الدول الإفريقية. لذلك، قد تختار إسرائيل في كثير من الأحيان الانحياز إلى حلفائها الغربيين، على الرغم من أن هذا يستلزم إضعاف علاقاتها مع إفريقيا، على سبيل المثال في قضايا الهجرة.
يمكن الحديث عن ثلاث نقاط رئيسية تفيد بأنَّ تعامل إسرائيل مع إفريقيا تاريخيًّا لم يُسْفِر إلا عن نتائج متواضعة، ولم تكن الدول الإفريقية مجرد ضحايا للتدخل الإسرائيلي، ومن جهة ثالثة تم خصخصة تفاعل إسرائيل مع القارة الإفريقية إلى حد كبير.
فيما يلي نظرة فاحصة على هذه الموضوعات:
نتائج محدودة:
بعد فترة وجيزة من الاستقلال، رأت إسرائيل، المعزولة مِن قِبَل الكثير من العالم العربي وآسيا، في إنهاء استعمار البلدان الإفريقية وسيلة لكسب حلفاء دوليين. كما سمحت العلاقات الوثيقة مع دول معينة على أطراف العالم العربي، ولا سيما إثيوبيا (أحد شركاء إسرائيل الأفارقة الأوائل)، لإسرائيل بالتحقق من قوة أعدائها العرب. بينما أنشأت إسرائيل 22 سفارة في الدول الإفريقية بحلول عام 1963م، وقدمت مساعدات تنموية وأمنية لعدة دول، إلا أنها لم تكن قادرة على الاستفادة من هذه العلاقات على المسرح الدولي.
ويشير جيدرون إلى أن “دعم العديد من أصدقاء إسرائيل في إفريقيا لم يتجاوز عادة الامتناع المهذب عن التصويت على القرارات المتعلقة بإسرائيل” في الأمم المتحدة. ويرجع ذلك، كما يقول، إلى حقيقة أن العالم العربي كان لديه أيضًا أدوات دبلوماسية يستطيع من خلالها التأثير على إفريقيا.
يمكن قياس النفوذ السياسي الحقيقي لإسرائيل في إفريقيا من خلال دراسة القضايا المتعلقة بفلسطين في المنظمات الدولية على وجه التحديد. في عام 2018م، عندما دعت الولايات المتحدة إلى إدانة الأمم المتحدة لحركة حماس، بعد الهجمات الصاروخية على الأراضي الإسرائيلية من قطاع غزة، صوَّتت سبع دول فقط من أصل 54 دولة إفريقية لصالح القرار: رواندا وجنوب السودان وإريتريا وملاوي وليبيريا وليسوتو والرأس الأخضر. وصوَّتت 28 دولة ضده، وامتنعت عشر دول عن التصويت، وغابت عشر دول .
أظهر تصويت آخر للأمم المتحدة الضعف السياسي الحقيقي لإسرائيل في إفريقيا. في نوفمبر 2009م، طُلِبَ من الدول الأعضاء التصويت على ما إذا كان ينبغي فتح تحقيق مستقل في أعمال العنف التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية أثناء حرب غزة في أوائل عام 2009م، والتي أودت بحياة أكثر من 1400 فلسطيني. في هذه المناسبة، لم يكن بإمكان إسرائيل الاعتماد إلا على دعم حفنة من الدول الإفريقية: لم تصوّت أيّ دولة ضد التحقيق، وامتنعت ثماني دول فقط عن التصويت، وغابت ثماني دول أخرى عن قصد. وصوتت الدول الإفريقية الأخرى على تشكيل لجنة تحقيق برئاسة القاضي الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون.
مناسبة أخرى مهمة تُسلّط الضوء على تحفظات معظم الدول الإفريقية تجاه إسرائيل تعود إلى نوفمبر 2012م عندما تم التصويت على القرار 67/19 الذي يمنح فلسطين وضع دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة. في ذلك الوقت، صوتت 47 دولة إفريقية لصالح تبنّي القرار. لم يصوّت أيّ منهم ضده، وامتنعت فقط الكاميرون وجمهورية الكونغو الديمقراطية وملاوي ورواندا وتوغو، في حين غابت غينيا الاستوائية وليبيريا ومدغشقر.
ويمكن ملاحظة استمرار الانحياز الإفريقي لصالح القضية الفلسطينية في عددٍ من البلدان التي يقودها حزب حاكم له ماضٍ ماركسي، وغالبًا ما يتبنَّى خطابًا يُدين سياسة الاستيطان لدولة إسرائيل.
من الأمور اللافتة في هذا السياق قيام وزارة الخارجية الأمريكية بتسجيل أصوات جميع الدول الأعضاء خلال الجلسات العامة للأمم المتحدة فيما يتعلق بالموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل. آخر الأرقام المتاحة لعام 2018م؛ حيث تم التصويت 21 مرة في قضايا متعلقة بإسرائيل.
السيناريو يقول: لا توجد دولة إفريقية لديها أكثر من 50٪ تصويت متوافق مع واشنطن. كانت الدولة التي صوتت أكثر لصالح إسرائيل هي جنوب السودان (50٪ متوافقة مع الولايات المتحدة)، تليها الكاميرون (48٪)، رواندا (47٪)، ليبيريا (45٪)، توغو (45٪) وكوت ديفوار (38٪). كانت الغالبية العظمى من الدول الإفريقية في حدود 10٪ من التصويت المتوافق مع الولايات المتحدة في القضايا المتعلقة بإسرائيل في عام 2018م. تاريخيًّا، كان افتقار إسرائيل الحقيقي للتأثير في المنظمات الدولية يظهر دائمًا بنفس الطريقة.
الدور الإفريقي:
لم تكن العلاقة بين إسرائيل وإفريقيا من جانب واحد. لقد كانت إسرائيل دائمًا العضو الأقوى في أي علاقة ثنائية تمتعت بها مع دولة إفريقية، ويرجع هذا النفوذ الذي تتمتع به إسرائيل في إفريقيا إلى الدعم الأمريكي لإسرائيل, ومع ذلك، فإن القادة الأفارقة غالبًا ما لعبوا أوراقهم بحكمة.
إنَّ الوعي برغبة إسرائيل في استخدام القارة كوسيلة لإظهار القوة الدبلوماسية والجيوسياسية والاقتصادية قد منح القادة الأفارقة نفوذًا كبيرًا. على سبيل المثال: في ذروة الصراع العربي الإسرائيلي، كان القادة الأفارقة قادرين دائمًا على زيادة ثمن صداقتهم من خلال التهديد، بشكل صريح إلى حدّ ما، بتعزيز تعاونهم مع الطرف الآخر. وهكذا اتصفت العلاقة، في جزء منها، على أنها تُعبّر عن استفادة القادة الأفارقة من الصراعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أجل جَذْب الدعم المادي والسياسي الإسرائيلي لتحقيق مصالحهم الوطنية. يعرف الأفارقة كيف يمكنهم الاستفادة من الاستثمارات والتكنولوجيا والخبرات الإسرائيلية دون الحاجة إلى سدادها مباشرة في شكل دعم السياسي”.
الشبكات الإسرائيلية الخاصة:
في حين أن تفاعل إسرائيل المبكر مع إفريقيا بدأ إلى حد كبير مِن قِبَل الدولة، لم يمضِ وقتٌ طويل حتى استحوذت المصالح الخاصة على الوجود الإسرائيلي. في القارة. واليوم، حتى مع الاحتفال بعودة إسرائيل لإفريقيا؛ فإن المصالح الإسرائيلية الخاصة، لا سيما تلك المتعلقة بتجارة الأسلحة والتعدين، هي التي تهيمن على العلاقات الإسرائيلية الإفريقية.
وبالنظر إلى الطبيعة المريبة وغير الشَّفافة للعديد من هذه العمليات، تحافظ إسرائيل رسميًّا على مسافة من معظم مبادرات القطاع الخاص هذه، على الرغم من أنه عندما يتعلق الأمر بالجيش الإسرائيلي، يكون التمييز بين المصالح الوطنية والمصالح الخاصة غير واضح.
بعض رجال الأعمال الإسرائيليين، على الرغم من قلة عددهم، يديرون جميع أعمالهم تقريبًا في القارة؛ حيث يقيمون في جزء من السنة أو يقيمون فيها بصفة دائمة. لا يخضع رجال الأعمال هؤلاء بالضرورة للأرقام الرسمية الإسرائيلية الخاصة بالعلاقة مع إفريقيا؛ حيث قد يكون لديهم في نهاية المطاف فقط علاقة ضعيفة مع إسرائيل.
في بعض الأحيان، لا يرغبون في دعم الشركات الإسرائيلية الأخرى؛ لأنهم يعتبرون موقفهم في بعض البلدان الإفريقية إقطاعية خاصة بهم. في بعض الحالات، اكتسب رجال الأعمال هؤلاء نفوذًا سياسيًّا مهمًّا في بلد عملهم.
وقد حقَّق هؤلاء ثروات باهظة في مجالات التعدين ومبيعات الأسلحة. على سبيل المثال يُعَدُّ تاجر الماس دان جيرتلر أبرز الأمثلة النموذجية لهذا النوع من الشبكات الخاصة، ويصفه البعض بأنه يمثل الوجه الخبيث للاستثمارات الإسرائيلية في إفريقيا. كان يشغل منصب القنصل الفخري السابق لجمهورية الكونغو الديمقراطية في إسرائيل، كما كان أحد مقدّمي الأموال الرئيسيين والأسلحة للرئيس الكونغولي لوران ديزيريه كابيلا (1997-2001م)، ثم ابنه جوزيف كابيلا (2001-2019م).
منذ أواخر التسعينيات حصل على نِسَب كبيرة في مناجم البلاد، لا سيما في الماس والكوبالت. وفي عام 2010م، اشترى دان جيرتلر أيضًا أكثر المناطق النفطية الواعدة في البلاد، الواقعة على بحيرة ألبرت وحولها، والتي تم اكتشاف أكثر من مليار برميل قبالة سواحلها على الجانب الأوغندي. ومع ذلك، منذ الانتخابات في أواخر عام 2018م في جمهورية الكونغو الديمقراطية وانتخاب فيليكس تشيسكيدي رئيسًا، تلاشى نجم دان جيرتلر إلى حد كبير. وفي مايو 2018م، فرضت الولايات المتحدة أيضًا عقوبات عليه شخصيًّا، إلى جانب 14 من شركاته؛ حيث اتهمته واشنطن بأنه جمع ثروته من خلال عمليات التعدين والنفط غير الشفافة.
فشل تأسيس قمة إسرائيلية إفريقية:
من الأمثلة على ضعف موقف إسرائيل في القارة هو صعوبة عقد قمة كبرى مع رؤساء الدول الإفريقية؛ مثلما تفعل فرنسا كل عامين، والصين، والولايات المتحدة، وأيضًا اليابان وكوريا الجنوبية، أو روسيا منذ عام 2019م وتركيا بأشكال مختلفة.
حتى اليوم، لم تتمكن إسرائيل من عقد مثل هذه القمة. ومع ذلك، في أكتوبر 2017م، كان من المفترض أن تستضيف لومي، عاصمة توغو، القمة الأولى التي تم إلغاؤها في اللحظة الأخيرة. كانت فكرة بنيامين نتنياهو عقد القمة في إفريقيا، وكان رئيس توغو فور غناسينغبي متحمسًا لها في البداية. ومع ذلك، مع اقتراب الحدث، لم يتمكن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي من الحصول على معلومات حول عدد الرؤساء الأفارقة الذين سبق لهم الموافقة على دعوة توغو.
في مواجهة الخوف من الفشل، قررت إسرائيل أخيرًا في صيف 2017م تأجيل القمة التي لم يكتب لها النجاح حتى الآن. يمكن طرح عدة أسباب لتفسير هذا الفشل. يبدو أن بعض الدول في المنطقة لم تقبل عقد تلك القمة في لومي. ينطبق ذلك بشكل خاص على نيجيريا. علاوة على ذلك، عمد العديد من رجال الأعمال الإسرائيليين خلف الكواليس لمنع عقد هذه القمة. ففي حين أن وفدًا من أكثر من 120 شركة إسرائيلية قد سجل بالفعل للحضور إلى لومي، فإن بعض رجال الأعمال الإسرائيليين الذين يمتلكون أعمالا في إفريقيا لعدة عقود كانوا يشعرون بالقلق على استثماراتهم الخاصة، لقد فعلوا كل شيء لتجنب مواجهة منافسة جديدة من داخل إسرائيل.
ومن جهة ثالثة فإنه قبل أسابيع قليلة من قرار تأجيل القمة؛ اندلعت مظاهرات كبيرة في توغو، متحدية مباشرة الرئيس فور غناسينغبي. وهناك من يشير إلى ضغوط فلسطينية وعربية لتفسير هذا الفشل.
وعلى أيّ حال فإنه على الرغم من استعداد العديد من الدول الإفريقية لإقامة علاقات دبلوماسية أو حتى اقتصادية مع إسرائيل بعد مرحلة العزلة والجمود في السبعينيات والثمانينيات، لا يبدو أن جميع هذه الدول مستعدة لدعم الدولة اليهودية في قضية فلسطين شديدة الحساسية.
في هذا الصدد، تعتبر نيجيريا، القوة الاقتصادية الرائدة في القارة والأكثر اكتظاظًا بالسكان والتي يبلغ عدد سكانها حوالي 200 مليون نسمة، مثالًا نموذجيًّا على ذلك؛ حيث فتحت سفارة في تل أبيب عام 1993م، لكنها لا تريد بأيّ حال من الأحوال تغيير موقفها بشأن فلسطين.
فتحت إسرائيل سفارتها في لاغوس في الستينيات، قبل أن تضطر إلى إغلاقها بين عامي 1973م و1992م. بعد حرب أكتوبر 1973م كانت العلاقات بين الدولتين تتسم بالفتور والتوتر، باستثناء فترة وجيزة من التقارب في عهد الرئيس النيجيري، جودلاك جوناثان (2009-2015م)، الذي دفعه إيمانه الخمسيني المسيحي إلى التعاطف الشديد مع إسرائيل، التي تُعتبر أرضًا موعودة في بعض تفسيرات الكتاب المقدس. يذهب عدة آلاف من النيجيريين والأوغنديين والغانيين لأداء فريضة الحج إلى إسرائيل كل عام. ومع ذلك، منذ وصول الرئيس محمد بخاري إلى السلطة في عام 2015م، انخفض مستوى الاتصال الأمني والسياسي بشكل كبير بين الطرفين.
يمكن قول الشيء نفسه عن جنوب إفريقيا وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم -الذي يتخذ موقفًا مؤيدًا للقضية الفلسطينية-، وكذلك الجزائر التي لا تزال لا تعترف بالدولة اليهودية.
وفي نهاية المطاف ربما تكون هناك رغبة حقيقية في إقامة علاقات أقوى مع إسرائيل من جانب صناع القرار الأفارقة لكن دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى دعم سياسي.
وختامًا فإنه بالرغم من عودة الظهور الإسرائيلي في إفريقيا في عهد نتنياهو، فمن الواضح أن النفوذ السياسي الحقيقي لإسرائيل في إفريقيا ضعيف، وسيبقى كذلك، بينما يظل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو العقبة الأساسية لسببين:
الأول هو أن ثلاثًا من أكبر القوى الاقتصادية في القارة، الجزائر ونيجيريا وجنوب إفريقيا، تعارض بشدة أيّ موقف مؤيّد لإسرائيل في المؤسسات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة. وذلك بالرغم من أن إسرائيل حصلت على مقعد مراقب في الاتحاد الإفريقي مؤخرًا.
السبب الثاني هو أنه حتى رؤساء الدول المعروفين بولائهم لإسرائيل، مثل قادة الكاميرون، وكوت ديفوار، وإثيوبيا، وجنوب السودان ورواندا، لا يُظْهِرُون رغبة حقيقية لمساعدة الدولة اليهودية في المنظمات الدولية.
عند مواجهة الدبلوماسيين الإسرائيليين، يبرر هؤلاء القادة افتقارهم للحماس بالقول: إن الدول الإفريقية الكبرى معادية لأيّ تطبيع كامل طالما استمر الصراع في الشرق الأوسط.
وفي نهاية المطاف؛ فإن إسرائيل دولة صغرى في النظام الدولي، ويمكن تبرير عجزها النسبي في الشؤون الإفريقية نتيجة لنقص الموارد المخصَّصة لمؤسسات صُنْع وتنفيذ السياسة الإفريقية لإسرائيل.
.
رابط المصدر: