كانت أصوات اليهود الأمريكيين دائمًا محل جذب وصراع بين مرشحي الرئاسة الأمريكية، على الرغم من أن نسبتهم لا تتجاوز نحو 2.2% من عدد سكان الولايات المتحدة البالغ تقريبًا 345 مليونًا. ولكن في ظل السباق الرئاسي المحتدم بين “كامالا هاريس” و”دونالد ترامب” وتقارب استطلاعات الرأي بينهما، فإن صوت الناخب اليهودي قادر على تغيير مسار الانتخابات، خاصة في الولايات المتأرجحة التي يمكن أن تحسم السباق بفارق صغير من الأصوات. مما يسلط الضوء على التأثير المحتمل للتصويت اليهودي في نتيجة الانتخابات الرئاسية لعام 2024 في ظل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
يشكل السكان اليهود في الولايات المتحدة أكبر أقلية دينية، ويلعبون دورًا حاسمًا في الساحة السياسية الأمريكية، ويتمتعون بحضور تقليدي كبير في السياسة المحلية، ويصوتون بأغلبية ساحقة لصالح الحزب الديمقراطي. ووفقًا لدراسة ديموجرافية أصدرها مركز بيو للأبحاث عام 2020، يبلغ عدد اليهود الأمريكيين حوالي 7.5 ملايين شخص منهم 5.8 ملايين بالغ و1.7 مليون طفل. ويمثلون 33 نائبًا يهوديًا من أعضاء الكونجرس من إجمالي 535 عضوًا أي (بنسبة 6%). ويشكل الأعضاء اليهود في مجلس الشيوخ (9%) مقارنة بمجلس النواب (5.5%). ينتمي أغلب أعضاء الكونجرس اليهود للحزب الديمقراطي، 9 بمجلس الشيوخ و22 بمجلس النواب، بينما ينتمي عضوان فقط للحزب الجمهوري.
على مدى المئة عام الماضية، صوتت الأغلبية الكبيرة من اليهود الأمريكيين لصالح الحزب الديمقراطي ومرشحه للبيت الأبيض. وكان آخر جمهوري يفوز بنسبة كبيرة من أصوات اليهود هو “رونالد ريجان” في عام 1980. ومنذ ذلك التاريخ، نادرًا ما فاز مرشح الحزب الجمهوري بأكثر من ربع أصوات اليهود. ففي انتخابات عام 2020، فاز دونالد ترامب بنسبة 22% من أصوات اليهود مقارنة بنسبة 77% لبايدن. ويعود تصويت اليهود للديمقراطيين إلى ارتباط الحزب بالقيم الليبرالية، التي يتمسك بها معظم اليهود، بالإضافة إلى اتساق مواقف الحزب والناخب اليهودي بالقضايا الداخلية المتعلقة بالإجهاض والرعاية الصحية وحقوق المثليين.
تأثير عامل الولاء لإسرائيل في حسابات الناخب اليهودي
فيما يتعلق بإسرائيل فهي ليست الأولوية الأهم للكتلة اليهودية، حتى مع اندلاع حرب الإبادة التي يقوم بها الكيان المحتل في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، تظل إسرائيل قضية ثانوية بالنسبة لمعظم اليهود الأمريكيين؛ فهم يشعرون أنهم أمريكيون ويصوتون كمواطنين في بلادهم، وليس كإسرائيليين يعيشون في الولايات المتحدة. هذا الاتجاه أكده استطلاع للرأي أجري بين الأمريكيين اليهود في سبتمبر الماضي أظهر أن 75% من اليهود يشعرون بالارتباط العاطفي بإسرائيل، ولكنها ليست ذات أولوية في اتجاهات تصويتهم –تحتل المرتبة التاسعة على قائمة مكونة من 11 قضية– وكشف الاستطلاع عن أن مستقبل الديمقراطية القضية الأكثر أهمية في تحديد تصويت اليهود بنسبة (44%)، يليها الإجهاض (28%)، والاقتصاد/التضخم (24%).
ومن الجدير بالذكر أن الأهمية المتراجعة نسبيًا التي تحتلها إسرائيل على القائمة، ليست فقط بعد الديمقراطية والإجهاض، والاقتصاد، بل وأيضًا بعد تغير المناخ والأمن القومي ومعاداة السامية والهجرة والرعاية الصحية، وهو ما يتماشى مع استطلاعات الرأي السابقة التي أجريت بين اليهود الأمريكيين الذين أكدوا أن أصواتهم في نوفمبر ستكون مدفوعة بقضايا تتجاوز إسرائيل. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تقليديًا من أشد المؤيدين لإسرائيل، ناهيك عن التعاطف الكبير الذي حازته إسرائيل في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، فإن استطلاعًا للرأي أجرته يوجوف/إيكونوميست بعد أسبوعين فقط من العدوان الإسرائيلي على غزة أظهر بعض التغير؛ إذ انخفض التعاطف مع الإسرائيليين بنسبة 7%، وزاد التعاطف مع الفلسطينيين بنسبة 3%.
والآن، بينما يستمر العدوان الإسرائيلي على غزة، فإن الناخب اليهودي يواجه صعوبة في فهم الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في الصراع؛ خاصة أن السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل والتطورات العنيفة في الشرق الأوسط أدت إلى انقسام اليهود الأمريكيين، فضلًا عن القاعدة الديمقراطية الأوسع نطاقًا. ومن ناحية أخرى، كان للناشطين اليهود حضور واضح في المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في المدن الكبرى، وأبدى كذلك الشباب اليهودي استياءه من سياسات إسرائيل الحالية، بطريقة دفعته إلى المشاركة بنشاط في الأعمال المناهضة لإسرائيل في حرم الجامعات الأمريكية. الأمر الذي يثير تساؤلًا حول السبب وراء تعاطف بعض الشباب اليهودي مع الفلسطينيين، وهو ما يقف خلفه عدة أسباب نوردها فيما يلي:
- تراجع المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط: كان هنري كيسنجر من أشد المدافعين عن المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، ونستشهد هنا بمقولته الشهيرة: “ليس لأمريكا أصدقاء أو أعداء دائمون، بل مصالح فقط“. وتطبيقًا لهذه المقولة، يرى الشباب اليهودي أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين ينظرون إلى إسرائيل باعتبارها شريكًا رئيسًيا في منطقة كانت المصالح الحيوية للغرب فيها معرضة للخطر؛ لأنها المصدر الذي يحصلون منه على النفط، وخلال الحرب الباردة كانت إسرائيل عنصرًا أساسيًا في حماية المنطقة من النفوذ السوفيتي. ولكن المخاوف المتزايدة بشأن تغير المناخ، والتي تشكل أهمية خاصة للشباب، إلى جانب أن الولايات المتحدة أصبحت أقل اعتمادًا على النفط من الشرق الأوسط، تعني أن أهمية إسرائيل كحليف للولايات المتحدة تراجعت.
- هزيمة الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق: شن الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن حربي أفغانستان والعراق عامي 2001 و2003 على التوالي. ووصف السيناتور الراحل إدوارد كينيدي غزو العراق بأنه “فيتنام جورج بوش”. لذا فليس من المستغرب أن يعارض الشباب اليهودي المؤيد للحزب الديمقراطي جر الولايات المتحدة إلى حرب أخرى لا نهاية لها في الشرق الأوسط، ولا سيما أن الشباب يرى في الصراع الحالي حربًا استعمارية بعد أن شارك المستوطنون الإسرائيليون في موجة من العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
- الاعتراض على ثنائية ترامب ونتنياهو: يحظى ترامب بدعم كبير في إسرائيل، وداخل النخبة الحاكمة بقيادة بنيامين نتنياهو. ورغم تطرفه في دعم إسرائيل فإن الشباب اليهودي في الولايات المتحدة يرى أن ترامب قضى على الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط بسبب “صفقة القرن” التي لم تتحقق، وعلى إثرها قطعت العلاقات والدعم المالي عن الفلسطينيين، ونقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة، والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان ودعم الاتفاقيات الإبراهيمية. بالإضافة إلى انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018 بتشجيع من نتنياهو، ليس لأنه معيب بل لأنه كان إنجازًا لأوباما، وهو الأمر الذي نجم عنه إحراز إيران تقدمًا كبيرًا نحو امتلاك سلاح نووي خلال فترة حكم ترامب ونتنياهو.
وفي مقابل ذلك، فإن الاتجاه اليهودي الأمريكي المناهض لإسرائيل يقابله اتجاه آخر تتبدد فيه الشعارات السياسية الراسخة، ولا يتمتع فيه الديمقراطيون برفاهية اعتبار الناخبين اليهود أمرًا مسلمًا به. حيث لم يحافظ الحزب الجمهوري على دعمه لإسرائيل فقط بل كثفه. ويعود هذا الموقف إلى حد كبير إلى المسيحيين الإنجيليين الذين ينظرون إلى إسرائيل باعتبارها حليفًا رئيسًيا في مكافحة التطرف والنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. كما أدى تحالف الحزب الجمهوري مع حزب الليكود اليميني الإسرائيلي إلى تعميق الانقسام الأيديولوجي بين الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة.
وبالنسبة للجمهوريين، لا تمثل إسرائيل حليفًا استراتيجيًا فحسب، بل رمزًا للقيم الغربية في منطقة تتسم بعدم الاستقرار. وفي استطلاعات الرأي، أعرب اليهود الأمريكيون عن دعمهم القوي لإسرائيل طيلة الحرب. وفي استطلاع أجرته اللجنة اليهودية الأمريكية في مايو الماضي، وصف 85% من المشاركين اليهود الدعم الأمريكي لإسرائيل بأنه “مهم”. وفي استطلاع أجرته الاتحادات اليهودية في أمريكا الشمالية في أبريل، أشارت أغلبية كبيرة إلى دعم أهداف الحرب الإسرائيلية، بما في ذلك ربط وقف إطلاق النار بالإفراج عن الرهائن (80%)، وإبعاد حماس عن السلطة (73%)، ونزع سلاح المنظمة (67%).
كما تجلى دعم اليهود الأمريكيين لإسرائيل في مسيرات التضامن، ومنها مسيرة من أجل إسرائيل في نوفمبر 2023 والتي ضمت ما يقرب من 300 ألف مشارك. كما تبرع اليهود الأمريكيون بما يقرب من مليار دولار لإسرائيل، بما في ذلك حوالي 600 مليون دولار جمعتها الاتحادات اليهودية في أمريكا الشمالية (JFNA) منذ اندلاع الحرب في غزة. هذا المبلغ غير مسبوق ويمثل زيادة بنسبة 70% مقارنة بثاني أكبر جهد لجمع التبرعات من قبل الجالية اليهودية في الخارج في التاريخ، والذي حدث خلال حرب لبنان الثانية في عام 2006.
ولأن الناخبين اليهود أكثر ميلًا إلى أن يكونوا ديمقراطيين، فإن الجمهوريين يبذلون جهودًا إضافية لتقليص تأثيرهم وتعظيم مشاركة اليهود في الانتخابات. لذلك ينفق التحالف اليهودي الجمهوري 10 ملايين دولار لحشد الأصوات اليهودية في الولايات المتأرجحة، وينفق المجلس الديمقراطي اليهودي الأمريكي 2 مليون دولار على الانتخابات.
تأرجح الدعم اليهودي بين ترامب وهاريس
استنادًا إلى ما سبق، تتزايد الأهمية النسبية للانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024 عن سابقتها، ليس فقط فيما يتعلق بالقضايا الداخلية ومستقبل الديمقراطية، ولكن بما كشفته التطورات العنيفة في الشرق الأوسط، والتي أعادت تأطير توجهات شريحة كبيرة من الناخبين اليهود نحو الاهتمام بالقضايا المتعلقة بأمن إسرائيل والدعم السياسي والعسكري الأمريكي لدولة الاحتلال في مقابل تحالف شريحة كبيرة من اليهود الأمريكيين المناهضين لسياسة إسرائيل في غزة مع التقدميين الديمقراطيين في السعي إلى تحويل السياسة الخارجية الأمريكية بعيدًا عن توجهاتها المؤيدة لإسرائيل، وابتعاد بعض اليهود عن الأجندة المؤيدة لإسرائيل، بسبب عدم رضاهم عن حكومة نتنياهو وانفصالهم عن السياسات الحالية للدولة اليهودية. أما اليهود الأصغر سنًا فيبدو أن هذا الاستياء لديهم أكثر عمقًا وتحديًا ناهيك عن كونه أكثر أيديولوجيًا، وهو ما كشفه اتساع نطاق ما بات يوصف بـ “خطاب الكراهية” و”معاداة السامية”، بالإضافة إلى المشاركة النشطة في مظاهرات الحرم الجامعي ضد إسرائيل.
وعلى الرغم من الدعم اللا محدود الذي تقدمه الإدارة الأمريكية الحالية في سبيل الدفاع عن إسرائيل، فهناك ارتفاع كبير في المشاعر المعادية لإسرائيل، خاصة بين التقدميين الديمقراطيين والجماعات المتحالفة معهم، وظهور مجموعة من المفاهيم الإشكالية تتمثل في:
- تصنيف اليهود على أنهم عنصريون، وأقوياء، واستغلاليون.
- النظر إلى اليهود على أنهم شركاء أو حلفاء سياسيون غير مقبولين بسبب مكانتهم السياسية والاقتصادية.
- النظر إلى الصهيونية على أنها فكرة استعمارية عنصرية.
- التعريف بإسرائيل على أنها مؤسسة استعمارية غربية.
وتتسق المؤشرات السابقة مع نتائج استطلاع للرأي أشار إلى أن 91% من اليهود الأمريكيين يشعرون بقلق بالغ إزاء “معاداة السامية”. وكنتيجة لذلك فإن المجموعات التي تعتقد أنها تتعرض للهجوم تبحث عن الحماية السياسية من خلال أحد الأحزاب الكبيرة التي بإمكانها التأثير، لا سيما في ظل البيئة السياسية المنقسمة والأوضاع السياسية المضطربة. لذا؛ يرى الجمهوريون أن الانقسامات الديمقراطية حول الموقف من إسرائيل و”معاداة السامية” يمكن أن تؤدي إلى “تحول صغير”، ولكنه مؤثر في مواقف الناخبين اليهود نحو الحزب الجمهوري، ويستندون في ذلك إلى تحسن أداء ترامب بين الناخبين اليهود في عام 2020 مقارنة بعام 2016 كدليل على الاتجاه المحتمل لتحول الدعم اليهود للجمهوريين.
وبالفعل، اكتسب ترامب مجموعة جديدة من الناخبين اليهود الذين يشعرون بأن اليسار تخلى عنهم عبر مشاركته في الاحتجاجات الجامعية وترديد شعارات توصف بأنها “معادية السامية”، ناهيك عن توجهات السيناتور الديمقراطي “جمال بومان” المؤيد لفلسطين وأحد أشد المنتقدين في الكونجرس لإسرائيل، بالإضافة إلى احتفال المنظمات التقدمية مثل فروع حركة “حياة السود مهمة” و”منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين” بهجمات السابع من أكتوبر. وهو ما جعل العديد من اليهود الأمريكيين يشعرون بالتخلي عنهم من قبل حزبهم، وإعادة تسجيل أنفسهم كجمهوريين والتصويت لصالح ترامب.
ولكن ضمان ترامب تحول أصوات اليهود الأمريكيين نحو حزبه في الانتخابات تقف أمامه عدة عقبات، ومن أبرزها:
- الابتعاد عن مركز الثقل: تتركز أغلب الأصوات اليهودية في ولايات لا يملك الجمهوريون فيها أي فرصة على الإطلاق؛ مما يسهم في اتساع الفجوة في الدعم بين الجمهوريين والديمقراطيين. ويميل الجمهوريون إلى استمداد معظم قوتهم اليهودية من الأرثوذكس المتدينين، وهم الجالية اليهودية الأسرع نموًا ولكنها الأصغر بين الطوائف الثلاث الكبرى (اليهودية الإصلاحية، اليهودية المحافظة والأرثوذكسية اليهودية). وقد أظهر استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث في عام 2021 انقسامًا واسعًا في الانتماء الحزبي بين الناخبين اليهود اعتمادًا على الحركة التي ينتمون إليها؛ إذ فضل اليهود الأرثوذكس الجمهوريين على الديمقراطيين بنسبة 75٪ إلى 20٪، بينما دعم 70٪ من اليهود المحافظين و80٪ من اليهود الإصلاحيين الديمقراطيين.
ومع ذلك قد لا يكون لليهود الأرثوذكس تأثير يذكر على السباق لأن معظمهم لا يعيش في أي من الولايات السبع المتأرجحة: أريزونا، وجورجيا، وميشيجان، ونيفادا، وكارولينا الشمالية، وبنسلفانيا، وويسكونسن. وتعيش نسبة كبيرة، إن لم يكن معظمهم في نيويورك، وفلوريدا، وكاليفورنيا، ونيوجيرسي، وميريلاند. ومن المتوقع أن يفوز ترامب بولاية فلوريدا لكنه سيخسر بقية الولايات، التي تعد ديمقراطية راسخة، لذا فإن استطلاعات الرأي التي تُظهر تحول التصويت اليهودي نحو ترامب في أماكن مثل نيويورك لا معنى لها بالنسبة للسباق الرئاسي.
- تصريحات ترامب المهينة لليهود: استغل ترامب الانقسام الديمقراطي حول دعم إسرائيل، وانتقد الأمريكيين اليهود الذين لا يدعمونه، قائلًا: “إذا لم أفز بهذه الانتخابات، سيكون للشعب اليهودي دور كبير في ذلك، حيث سيصوت 60% للعدو وستتوقف إسرائيل عن الوجود في غضون عامين.. وإذا فزت، ستكون إسرائيل آمنة، وسنوقف السم المتمثل في معاداة السامية”. كرر الرئيس السابق تهديده وزعم أن الناخبين اليهود الذين يدعمون هاريس مسئولون عن تعريض سلامتهم للخطر، ووبخ الناخبين اليهود لعدم دعمهم له في الماضي. لم تلقَ تصريحات ترامب استحسانًا وسط الناخبين اليهود، بل زادت من شكوك الناخبين حوله، خاصة تصريحاته التي قال فيها: “إن خسارته المحتملة ستكون خطأ اليهود”، تحمل نبرة تهديد وتحولهم إلى كبش فداء في المستقبل.
- معاداة السامية: بقدر ما سعى ترامب إلى تحصين نفسه من أي إشارة إلى معاداة السامية من خلال استحضار صهره اليهودي وابنته اليهودية (تحولت إلى اليهودية) وأحفاده اليهود، فإنه كثيرًا ما يجد نفسه مستمتعًا بدعم، بل وحتى بصحبة معادين للسامية صريحين، منهم المرتبط بـ”النازي الأسود” مارك روبنسون، ومنكر الهولوكوست “نيك فوينتس”. كما أن الأيام الأكثر دموية لليهود في أمريكا كانت على أيدي اليمين المتطرف، وليس اليسار المتطرف؛ حيث ارتُكب الهجوم الأكثر دموية على اليهود في تاريخ الولايات المتحدة في كنيس يهودي في بيتسبرج في عام 2018 من قبل قومي أبيض يؤمن بنظرية المؤامرة اليمينية المتطرفة “الاستبدال العظيم” التي تقول: إن اليهود يعملون على إغراق البلاد بالمهاجرين غير الشرعيين. وفي عام 2017، سار أنصار ترامب النازيون الجدد في شارلوتسفيل بولاية فرجينيا، وهم يهتفون “اليهود لن يحلوا محلنا”، وقد اعتبرهم ترامب آنذاك أنهم “أشخاص طيبون للغاية“.
التحديات السابقة تشير إلى أن الادعاءات التي تفيد بأن الناخبين اليهود سوف ينشقون لصالح ترامب والحزب الجمهوري غير دقيقة. فعلى الرغم مما تميزت به رئاسة ترامب من مواقف قوية مؤيدة لإسرائيل، بطريقة أسهمت في جعله محبوبًا لدى شريحة من الناخبين اليهود، فإن الشريحة الأكبر من اليهود الأمريكيين ليبراليون يميلون إلى تجنب الأصوات الشعبوية التي تقدم وعودًا غير واقعية، ويسعون إلى انتخاب رئيس يدافع عن القيم الديمقراطية، ويضمن العدالة الاقتصادية، ويدعم الطبقة المتوسطة. ومن غير المرجح أن يدعموا مرشحًا يوجه اتهامات لا أساس لها للمهاجرين، ويهدد الديكتاتورية، ويقوض نظام العدالة، ولا يحترم حقوق المرأة والأقليات.
تاريخيًا، دعم اليهود الأمريكيون المرشح الرئاسي الديمقراطي على المرشح الجمهوري في المتوسط بهامش كبير بلغ 71٪ إلى 26٪ منذ عام 1968. ولا يزال المجتمع اليهودي يفضل الديمقراطيين في انتخابات نوفمبر المقبل. ومع ذلك، لم تثبت كامالا هاريس أنها صديقة مفضلة للمجتمع اليهودي أو إسرائيل بسبب سياساتها كنائبة للرئيس ومرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة؛ فقد استعانت حملة هاريس بمحامية مصرية الأصل “بريندا عبد العال”، في منصب “مدير التواصل العربي الأمريكي في الحملة”، والتي كان لها تصريحات سابقة في عام 2022 قالت فيها: “إن الصهاينة يسيطرون على السياسة الأمريكية”.
يأتي هذا في أعقاب تعيين “نصرينا بارغزي”، من أصول أفغانية، لقيادة ملف التواصل مع الناخبين المسلمين، والعرب، ووصفت شكاوى الطلاب الجامعيين اليهود بشأن “معاداة السامية” بأنها “تنمر قانوني”. وربما يكون الأكثر إثارة للقلق هو المنسق اليهودي لهاريس، إيلان جولدبرج، المولود في إسرائيل، والذي دعم في مناصب سابقة الاتفاق النووي مع إيران، ودعم قرار أوباما المناهض لإسرائيل في الأمم المتحدة بوقف بناء المستوطنات الإسرائيلية، وعارض نقل السفارة إلى القدس، كما أنه منتقد لاذع لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
حدود تأثير الصوت اليهودي في الانتخابات الأمريكية
يتمتع اليهود بقدرة تفوق وزنهم في السياسة الأمريكية؛ فرغم صغر عددهم، يتعاقب مرشحو الرئاسة منذ أبراهام لينكولن على مغازلة أصواتهم للأسباب التالية:
- حسم نتائج الانتخابات: على مر التاريخ الانتخابي شهدت الولايات المتحدة نتائج متقاربة في الانتخابات الرئاسية، مثل: الانتخابات التي جرت بين رذرفورد هايز وصامويل تيلدن في عام (1876)، وجون كينيدي وريتشارد نيكسون عام (1960)، وجورج دبليو بوش وآل جور عام (2000). هذا التقارب كشف عن سبب تمتع المجموعات الصغيرة من اليهود بنفوذ في الانتخابات، فعندما يكون لكل صوت أهمية، وخاصة في المجمع الانتخابي؛ حيث لا يعتمد النظام الانتخابي على الأصوات الكلية، بل أصوات كل ولاية على حدة ما يمنح الأقليات تأثيرًا كبيرًا في الانتخابات، وبالتالي يكون صوتها مهمًا مقارنة بما لو كان النظام يعتمد على مجمل أصوات الناخبين.
- مركزية الولايات: يقيم اليهود في الولايات التي يسعى أي مرشح رئاسي للفوز بها في الانتخابات؛ حيث يقطن حوالي 85% من اليهود في 25 دائرة انتخابية بالغة الأهمية، وتملك الولايات الأربع التي تضم أكبر الجاليات اليهودية (كاليفورنيا ونيويورك وفلوريدا ونيوجيرسي) 128 صوتًا انتخابيًا من أصل 270 صوتًا مطلوبًا للفوز في الانتخابات. بالإضافة إلى ذلك، يعيش عدد كبير من اليهود في الولايات المتأرجحة التي غالبًا ما تقرر الانتخابات الأمريكية، خاصة فلوريدا وبنسلفانيا وأوهايو. وهذا من شأنه أن يزيد بشكل كبير من أهمية الأصوات اليهودية.
- التصويت بنسبة كبيرة: يُعرف عن اليهود الأمريكيين كثافة مشاركتهم السياسية من خلال التصويت أكثر من أي مجموعة عرقية أو دينية أخرى تقريبًا؛ إذ يصوت نحو 85% من اليهود في الانتخابات الرئاسية. على النقيض من ذلك، يشارك الأمريكيون من أصل آسيوي أو لاتيني بمعدل أقل من 50%. ونتيجة لهذا، ورغم أنهم لا يشكلون سوى 2.2% من السكان، فإن تصويت اليهود يصل إلى 4% من إجمالي الناخبين.
- الإسهام في الحياة السياسية: يحرص اليهود الأمريكيون على شغل العديد من المناصب السياسية والقضائية والتشريعية، والإسهام في دعم الأحزاب السياسية بشكل كبير عبر الإعانات التي يقدمها المانحون اليهود للمرشحين الرئاسيين، والنفوذ اليهودي في الإعلام. هذا بالإضافة إلى أن ما يصل من 50% من جميع الأموال التي يجمعها المرشحون الديمقراطيون للرئاسة تأتي من ممولين يهود، وعلى نحو مماثل، تتألف نسبة 25% من قاعدة المانحين الجمهوريين من كبار المسهمين اليهود.
- دعم القضايا الاجتماعية: يعد اليهود من بين أقدم الدوائر الانتخابية البيضاء في الولايات المتحدة، ونتيجة لهذا فإن القضايا المتعلقة بالصحة والسياسات المتعلقة بالعمر تشكل أهمية خاصة بالنسبة لهؤلاء الناخبين. كما يستثمر اليهود في قضايا الإجهاض والهجرة والتعليم، وكثيرًا ما تشير استطلاعات الرأي إلى استجابة عالية بشكل خاص من جانب الناخبين اليهود لهذه القضايا السياسية والتي تأتي في مقدمة اهتمام مرشحي الرئاسة.
في الختام، يظل “التصويت اليهودي” عاملًا مهمًا في الساحة السياسية الأمريكية بشكل عام، والانتخابات الرئاسية على وجه الخصوص. وبسبب تركز الناخبين اليهود في ولايات رئيسية، مثل: نيويورك وكاليفورنيا وإلينوي، فإنهم فئة ديموجرافية محورية يمكن أن تؤثر في نتائج الانتخابات. ويميل غالبية اليهود المحافظين والإصلاحيين إلى التصويت للديمقراطيين وهم أكثر انفتاحًا بشأن حل الدولتين في الشرق الأوسط الذي من شأنه أن يخلق دولة فلسطينية ذات سيادة. وأكدت استطلاعات الرأي الأخيرة أن الناخبين اليهود يميلون نحو هاريس بنسبة 60%، وهو رقم يتسق نسبيًا مع دعم الكتلة اليهودية للديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية السابقة، وذلك استنادًا إلى دعم هاريس لإسرائيل وإدانتها القوية لمعاداة السامية. ومع ذلك، فإنهم في الغالب ينظرون إلى ترامب باعتباره شخصية غير مستقرة واستبدادية تشكل تهديدًا حقيقيًا للديمقراطية الأمريكية. وسوف تتجه أقلية، من الأرثوذكس والحريديم، للتصويت لصالح ترامب، حيث يرون أنه أكثر تأييدًا لإسرائيل أو أكثر انسجامًا مع قيمهم المحافظة.