جميل عودة ابراهيم
تُعد حرية الرأي والتعبير من الحقوق والحريات الأساسية التي تُحتمها طبيعة النظام الديمقراطي، وهي ركيزة مهمة من ركائز الحكم الديمقراطي السليم، كونها حجر الزاوية الذي لا غنى عنه في تعريف المواطنين خاصة، والرأي العام عامة، بكل ما يشهده المجتمع من أحداث سياسية واقتصادي واجتماعية؛ من جهة، ولإتاحة الفرص لجميع المواطنين للمساهمة بالرأي في تسير شؤون البلاد؛ من جهة ثانية.
وتنطوي حرية الرأي والتعبير على حقين متكاملين: الأول؛ حق حرية الرأي، والثاني؛ حق حرية التعبير عنه، ولا يمكن الفصل بينهما، أو ممارسة أحدهما دون الأخر. فحرية التعبير هي انعكاس لحرية الرأي، وبموجبهما ينقل الفرد من مرحلة اعتناق الرأي إلى مرحلة التعبير عن محتواه، ونقله إلى الآخرين، في مظهر مادي خارجي، بأي وسيلة من وسائل العلانية، بعد أن كان مجرد فكرة حبيسة، أو كامنة في الصدور.
إن الحق في حرية الرأي؛ والحق في حرية التعبير هما حقان مشروعان؛ وحقان مكفولان، فكل إنسان يحق له اعتناق ما يشاء من آراء وأفكار، بناء على تفكيره الشخصي الحر، دون مضايقة من أحد، فلا يجوز أن يٌفرض على الشخص تبني أفكار وآراء معينة، ومنعه من تبني غيرها، كما لا يجوز مساءلة الشخص، ومعاقبته على ما يعتنقه من أفكار.
ينطبق الأمر (تماما) على الحق في التعبير عن الرأي، فكل إنسان له الحق في التعبير عن رأيه، والتعبير عن أفكاره، بأي طريقة كانت، أو بأي وسيلة كانت، دون أن تفرض عليه طريقة ما، أو وسيلة ما، من أي أحد كان. فله الحق في ممارسة الخطاب السياسي، والتعليق على الشؤون العامة، واستطلاع الرأي، ومناقشة حقوق الإنسان، وحرية الكتابة والصحافة، والتعبير الثقافي والفني، والتدريس، والخطاب الديني وغيرها من الحقوق اللصيقة بحق التعبير.
كما أن نطاق هذا الحق يمتد ليشمل حماية جميع أشكال التعبير، ولغة الإشارة، والتعبير بلغة غير لفظية، مثل: الصور؛ والقطع الفنية؛ والكتب؛ والصحف؛ والمنشورات؛ والملٍصقات؛ واللافتات؛ والملابس، وجميع أشكال التعبير السمعية والبصرية، وطرق التعبير الإلكترونية والشبكية.
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في المادة (19) منه أن: (لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء، دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار، وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت، دون تقيد بالحدود الجغرافية) وجاء في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، في المادة (19) من العهد أن: (1.كل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة. 2. لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين، دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها).
وقد حرص المجتمع الدولي على إيلاء حق الرأي والتعبير أهمية خاصة في المواثيق والصكوك الدولية التي صدرت على مدار العقود الماضية، حيث تٌلزم المادة (الثانية) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الدول الأعضاء بضمان الحقوق والحريات وكفالتها وحمايتها، ولا يجوز لأي دولة عضو في العهد أن تحتج بأن تشريعاتها الوطنية ودستورها يعفيها من التزاماتها الدولية التي ارتضتها بالانضمام طواعية إلى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وعلى الدولة أن تقوم بتعديل تشريعاتها الداخلية، إذا لزم الأمر لتكون أكثر اتساقا لتطبيق الحقوق المنصوص عليها في العهد الدولي وحمايتها.
ولكن السؤال الأهم هنا؛ ما هي حدود حرية الرأي؟ وما هي حدود حرية التعبير عن الرأي؟ فهل حق حرية الرأي، وحق حرية التعبير عنه هما حقان مطلقان لا تحدهما أي حدود؟ وبتعبير آخر؛ هل من حق أي إنسان أن يفكر بأي شيء؟ وهل من حقه أن يقول أي شيء؟ أو أن من حقه أن يفعل أي شيء من أجل رأيه وحسب، بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى، تتعلق بالأفراد الآخرين، أو الفئات الاجتماعية الأخرى، أو المجتمعات الأخرى؟
فإذا كان لنا رأي في قضية سياسية ما، إزاء حكومة ما، أو جماعة ما، قليلين كنا أم كثرين، محقن كنا في نظر غالبية الناس أم غير محقين، فهل يحق لنا أن نعبر عن رأينا بأي طريقة كانت، وبأي وسيلة كانت مثل أن نقطع الطرق، ونمنع المرور، ونغلق المحال التجارية، ونفرض بالقوة عدم استمرار الدوام الرسمي للمدارس والمعاهد والجامعات والمؤسسات الحكومية حتى تحقيق مطالبنا، ثم نصعد وسائلنا لنقوم بحرق المؤسسات، ونعتدي على موظفيها، ونهدد بالقتل أو نقتل بالفعل قوات الأمن والشرطة، وغيرها من وسائل الضغط على الحكومة لتحقيق مطالبنا؟
نعم؛ إن الحق في حرية الرأي هو حق مطلق، لا يجوز تقيده بأي قيود كانت، فلا يحق لأي أحد، مهما كانت سلطته ومكانته الروحية والاجتماعية والسياسية أن يمنع الآخرين من التفكير في الأشياء، إيجابا أم سلبا، لأن الحق في حرية الرأي هو قضية تتعلق بالإنسان نفسه، ولا تتعدى غيره، ومازالت كذلك؛ فلا يجوز تقيدها أو الحد منها، بل لا يمكن تصور تقييدها أو حدها إلا بموت الشخص نفسه. ويمكن تغيير أفكار الآخرين بالمنطق والعقل والحجة فقط.
ولكن ما ينطبق على الحق في الرأي لا ينطبق على الحق في التعبير عنه، فالحق في حرية التعبير ليس حقا مطلقا، فإذا كان الحق في حرية الرأي من الحقوق المطلقة التي لا يجوز تقيدها بأي حال من الأحوال، فان الحق في حرية التعبير ليس كذلك، إذ يجوز تقييده بشروط معينة، وفي ظروف معينة، بقصد تحقيق أهداف معينة، لأن الحق في حرية التعبير عن الرأي تتعلق بالآخرين، أفراد كانوا أم جماعات، حكومات كانوا أم دول، وهذه الفئات لها الحق في التعبير عن رأيها أيضا، ومادام الأمر كذلك؛ فانه ينبغي أن يٌقيد حق التعبير عن الرأي من أجل المحافظة على سلامة حقوق التعبير عند جميع الناس بلا استثناء.
من هذا المنطلق؛ أباحت المواثيق والاتفاقات الدولية تقييد الحق في حرية التعبير لحماية مصالح إنسانية واجتماعية وسياسية وأمنية ودولية مختلفة، لكن يمكن القول إن سلطة تقييد الحق في حرية التعبير ليست مطلقة، بل مقيدة هي الأخرى بمجموعة من الضوابط التي يتعين توافرها، لكي يكون القيد الوارد على حرية التعبير مشروعا خاليا من وجود تعسف ينال من جوهرها.
فقد نصت المادة (9 / 3) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على وجوب أن تكون القيود الواردة على حرية التعبير مقررة بموجب القانون، كما يجب أن يكون صدور هذا القانون ضروريا لخدمة أحد الأغراض المنصوص عليها في الفقرتين (أ) و(ب) من الفقرة الثالثة، وهي: (احترام حقوق الأفراد وسمعتهم، وحماية الأمن القومي والنظام العام، وحماية الأخلاق العامة، وحماية الصحة العامة).
أما الفقرة الثانية من المادة العاشرة من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان؛ فقد توسعت في المقتضيات التي تتطلب فرض القيود على حرية التعبير، فاشترطت أن يكون القيد محددا بمقتضى القانون حسبما تقتضيه الضرورة في مجتمع ديمقراطي لصالح الأمن القومي، وسلامة الأراضي، وأمن الجماهير، وحفظ النظام، ومنع الجريمة، وحماية الصحة العامة، والآداب، واحترام حقوق الآخرين، ومنع إفشاء الأسرار، أو تدعيم السلطة، وحياد القضاء.
كذلك ثمة قيود أخرى على حرية التعبير عن الرأي ضمنتها الأمم المتحدة في مواثيقها تتعلق بحظر الدعاية للحرب، والدعوة للكراهية القومية، والتمييز العنصري والديني، وضرورة تجريم نشر الأفكار القائمة على هذا الأساس، كما هو الشأن في المادة (20) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة (4) من الاتفاقية الدولية للقضاء على أشكال التمييز العنصري.
بناء على ذلك؛ فان للدولة أن تقيد حرية التعبير، أو أن تحجب بعض المعلومات عن المواطنين لأسباب (مشروعة) حددها العهد الدولي الخاص، مثل المعلومات المصنفة سرية، أو المتعقلة بأمن الدولة أو بالموضوعات الدفاعية؛ وحماية التحقيقات الجنائية؛ وحماية الخصوصية والمصالح الخاصة؛ وحماية الأسرار الصناعية والتجارية وغيرها.
ولكن عد تصرف ما مطابق لحرية التعبير عن الرأي، أو كان خرقا لتك الحرية هو محل جدل كبير، ليس بين المجتمعات والأنظمة الحاكمة، بل بين المنظرين ودعاة حقوق الإنسان أنفسهم أيضا، فليس هناك معايير واضحة يمكن الاستناد عليها بشأن ما إذا كانت تصرفات الأفراد أو الجماعات والدول تعد مطابقة لحرية التعبير أم مخالفة لها.
هذا الأمر دفع المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية إلى وضع معايير لما يمكن عده إساءة أو خرقا لحدود حرية التعبير، ويسمى باختبار (ميلر) الذي بدأ العمل به في عام 1973م، ويعتمد المقياس على ثلاثة مبادئ رئيسية، هي:
1. إذا كان غالبية الأشخاص في المجتمع يرون طريقة التعبير مقبولة؛
2. إذا كانت طريقة ابداء الرأي لا تعارض القوانين الجنائية للولاية؛
3. إذا كانت طريقة عرض الرأي تتحلى بصفات فنية أو أدبية جادة.
نخلص مما تقدم ما يأتي:
1. إن حرية الرأي وحرية التعبير عن الرأي هما حقان طبيعيان ومكفولان في القوانين الوطنية والدولية، لأي إنسان كان، بغض النظر عن جنسه، وعمره، وعمله، ولا يجوز وضع قيود على حرية الرأي، كما لا يجوز وضع قيود غير ضرورية على حرية التعبير عن الرأي.
2. لا بد أن نفرق بين حق التعبير، وبين طريقة عرض التعبير والوسيلة المستخدمة في عرض التعبير. فحق التعبير حق مطلق لا نطاق له، أما طريقة التعبير أو الوسيلة المستخدمة في التعبير هي من تحتاج إلى نطاق وحدود لأنها تتعلق بحقوق الآخرين أفرادا وجماعات ودولا.
3. ينبغي شطب جميع القوانين التي تجرِّم الأشخاص الذين يتجرؤون على الكلام أو يحتجُّون سلمياً. كما ينبغي عدم التوسع في فرض قيود كثيرة على حرية التعبير، لأن القيود غير الضرورية ستحد من حرية التعبير.
4. ينبغي أن تتصدى قوات الأمن والشرطة لكل من يدعو إلى الكراهية؛ والتمييز؛ والعنف والتعذيب، والاتجار بالبشر، ويسعى للترويج لأي أفكار من هذا القبيل.
5. في كل الأحوال لا ينبغي مساءلة المخالفين والمقصرين في طريقة التعبير عن رأيهم، وتحميلهم أكثر مما كانوا يبغون من وراء استعمال حرية الرأي والتعبير.
رابط المصدر: