ردت السوق بعنف عندما بات التباطؤ واضحا، في أعقاب إصدار بيانات مؤشر مديري المشتريات الأضعف من المتوقع وأحدث تقارير العمالة الشهرية، والذي جاء في أعقاب اجتماع سياسات الاحتياطي الفيدرالي مباشرة. استوعبت السوق التأكيدات المتكررة التي أطلقها رئيس البنك جيروم باول (بما في ذلك في مؤتمر البنك…
بقلم: محمد العريان
كمبريدج- اسمحوا لي هنا باستعراض قصة بنكين مركزيين وَقَعَـت أحداثها الأسبوع الماضي. كل من البنكين راسخ منذ أمد بعيد، ويمتد نفوذه إلى ما هو أبعد كثيرا من حدود بلاده، وكل منهما يضطر إلى اتخاذ قرارات تقديرية دقيقة المتوخى منها الاستمرار في خفض التضخم مع تجنب إلحاق ضرر غير مبرر بالنمو والوظائف. وفي هذه العملية، تنتهي الحال بكل منهما إلى اتباع نهج مختلف تماما في غضون 24 ساعة من الآخر.
بطل القصة الأول هو بنك إنجلترا، الذي يخفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، في أعقاب تصويت بأغلبية خمسة إلى أربعة أصوات، ويعكس هذا تعقيد القضايا الاقتصادية الأساسية. البطل الآخر هو بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي يفخر بصياغة الإجماع ويتوصل إلى تصويت بالإجماع، فقط لكي تنهال عليه الانتقادات من قِبَل المحللين ووسائل الإعلام في الأيام التي تلي قراره.
تُـرى أي البنكين المركزيين يحظى بثقتك أكثر من الآخر فيما يتصل برفاهتك الاقتصادية ورفاهة أسرتك وأصدقائك؟ هذا سؤال مهم، لأن الثقة تدعم قدرة أي بنك مركزي على الوفاء بتفويضه. يستند قسم كبير من البنية المالية اليوم إلى افتراض مفاده أن البنوك المركزية ملتزمة بالحفاظ على ثقة الجمهور في عملية صنع السياسات. ففي نهاية المطاف، يجب أن يكون هدف التضخم مُـقـنِـعا لترسيخ توقعات التضخم؛ وينطبق ذات الشيء على التوجيه الـمُـسـبَق الذي يهدف إلى تخفيف وعورة تعديلات السياسة بمرور الوقت.
تُدَعَّم الثقة والمصداقية من خلال تقديم قدر أكبر من الشفافية، وهي العملية التي تطورت على مر السنين إلى عقد مؤتمرات صحافية منتظمة ونشر محاضر الاجتماعات ونصوصها. وفي بعض الحالات، يقدم البنك المركزي توقعات كمية ربع سنوية للسياسات الرئيسية والمقاييس الاقتصادية. تعززت مصداقية كل من بنك إنجلترا والاحتياطي الفيدرالي بفضل النتائج الجيدة. لكنهما يختلفان عندما يتعلق الأمر بمقياس مهم يرتبط بالـمُـدخلات: كيفية توصيل عملية صنع القرار السياسي. يُذَكِّـرُني هذا الموقف بمزحة قديمة عن المحامين وأهل الاقتصاد: “على عكس المحامين، الذين يمكنهم أن يسوقوا الحجج عن يقين تام حتى عندما يكون أساس قضيتهم ضعيفا للغاية، يحتاج أهل الاقتصاد إلى أساس متين للغاية للجدال بأي قدر من اليقين على الإطلاق”. بعد دمج أعضاء مستقلين من الخارج في لجنة السياسة النقدية، لا يتردد بنك إنجلترا في الإشارة إلى الانقسامات بين كبار صناع قراراته.
جاء التصويت الأخير بأغلبية خمسة إلى أربعة أصوات لصالح الخفض بعد تصويت جرى في يونيو/حزيران بأغلبية سبعة أصوات إلى صوتين لصالح إبقاء أسعار الفائدة دون تغيير. وفي فبراير/شباط، جاء تصويت لجنة السياسة النقدية منقسما بواقع صوتين لصالح رفع أسعار الفائدة، وستة أصوات لصالح الإبقاء على الأسعار دون تغيير، وصوت واحد لصالح خفض أسعار الفائدة. وفي كل حالة، جرى شرح جميع الحجج وراء هذه الأصوات في الأيام والأسابيع التي أعقبت اجتماع لجنة السياسة النقدية.
الواقع أن الكشف عن مثل هذا النطاق من المواقف الفردية أمر غير مسموع به في الاحتياطي الفيدرالي. ففي حين يفخر البنك المركزي الأميركي بترحيبه بتنوع الآراء أثناء مداولاته خلف الأبواب المغلقة، فإنه مُـنغَـمِـس أيضا في تقليد صُـنع القرار بالإجماع. وعلى هذا فإن البنك المركزي الأميركي في الممارسة العملية يفرض حواجز شديدة الارتفاع تحول دون إذاعة الآراء الـمُعارِضة. وحتى محاضر اجتماعات مجلس الاحتياطي الفيدرالي التي تصدر بعد ثلاثة أسابيع من كل اجتماع تميل إلى تجاهل أو تمويه المجموعة الكاملة من الآراء التي تسربت. وللتعرف على ما قيل حقا، يتعين علينا أن ننتظر السجلات المدونة الكاملة، والتي تَـصـدُر عادة بعد مرور خمس سنوات.
أرجو ألا تسيئوا فهمي. إن النهج القائم على الإجماع والذي يساعد في التوفيق بين آراء وتحليلات مختلفة لا يخلو من قيمة. لكن الإجماع المصطنع ــ الذي يُـلاحَـق غالبا لأسباب سياسية، أو لإنقاذ ماء الوجه (افتراضا) ــ يميل إلى التعتيم وتهميش الآراء التي تستحق دراسة أكثر شمولا. إلى جانب الافتقار البنيوي إلى التنوع المعرفي الإدراكي فضلا عن ارتفاع احتمالات الانزلاق إلى فخ التفكير الجمعي، يعمل الهوس بالإجماع في نهاية المطاف على تقويض ذات المصداقية التي ظل الاحتياطي الفيدرالي يحاول استعادتها منذ الخطأ السياسي الجسيم الذي ارتكبه في عام 2021. من خلال رفضه تقديم ذلك النوع من الشفافية في صُـنع القرار الذي تبناه بنك إنجلترا، عكس بنك الاحتياطي الفيدرالي عن غير قصد رضا السوق التي فشلت في النظر في إمكانية تباطؤ اقتصادي أسرع وأوسع نطاقا من المتوقع.
نتيجة لهذا، ردت السوق بعنف عندما بات التباطؤ واضحا، في أعقاب إصدار بيانات مؤشر مديري المشتريات الأضعف من المتوقع وأحدث تقارير العمالة الشهرية، والذي جاء في أعقاب اجتماع سياسات الاحتياطي الفيدرالي مباشرة. استوعبت السوق التأكيدات المتكررة التي أطلقها رئيس البنك جيروم باول (بما في ذلك في مؤتمر البنك المركزي الأوروبي في سينترا بالبرتغال في الثاني من يوليو/تموز) بأن الاقتصاد “الموفور الصحة جوهريا” وسوق العمل القوية منحا بنك الاحتياطي الفيدرالي الوقت الكافي لاتخاذ القرار بشأن خفض أسعار الفائدة.
وعندما أشارت البيانات الجديدة إلى خلاف ذلك، نشأت حالة من الفوضى مع اندفاع الأسواق إلى رفع احتمالات خفض غير عادي بمقدار 50 نقطة أساس في سبتمبر/أيلول من الصفر تقريبا إلى نحو 80%، اعتبارا من الثاني من أغسطس/آب. (كما وضعت الأسواق في الحسبان دورة خفض أسعار الفائدة الأسرع والأعلى مقدارا). أدى هذا التفاعل العنيف إلى انهيار دراماتيكي في العائدات على السندات الحكومية وخسائر ضخمة في سوق الأسهم، والتي بعد أن بدأت في الولايات المتحدة انتشرت على مستوى العالَـم وكشفت عن نقاط ضعف في أماكن أخرى، وأبرزها اليابان.
حتى أن المخاوف بشأن ارتفاع خطر الانهيار المالي والاقتصادي دفعت بعض المراقبين (ولكن ليس أنا) إلى الدعوة إلى خفض أسعار الفائدة الطارئ بين الاجتماعين. كلا، أنا لا أدعو بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى تبني ذلك النوع من الشفافية المتطرفة التي اشتهر بها صندوق التحوط بريدجواتر. فهناك مجالات معينة، مثل “الرسم البياني الـمُـنَـقَّـط” ربع السنوي للتوقعات، حيث ذهب بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى أبعد مما ينبغي بالفعل. ومع ذلك، بوسع الاحتياطي الفيدرالي ــ بل ينبغي له ــ أن يكون أكثر انفتاحا بشأن القرارات السياسية التي تؤثر علينا جميعا.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/economicarticles/39727