في جزء من عالم تلوح فيه قوة الصين الصاعدة والأهداف النووية لكوريا الشمالية، اختتم الرئيس “جو بايدن” زيارته إلى كوريا الجنوبية التي استمرت ثلاثة أيام، في إطار أولى جولاته الآسيوية التي تشمل كوريا الجنوبية واليابان، لتعزيز العلاقات مع الحلفاء الأمنيين الإقليميين وإعادة توجيه السياسة الخارجية الأمريكية نحو آسيا، بالإضافة إلى حشد العالم ضد الهجوم الروسي على أوكرانيا، ومواجهة التحدي الاستراتيجي طويل الأمد مع الصين.
حققت زيارة بايدن أهدافها الأمنية والاقتصادية والسياسية، وأكدت على جوهرية ورمزية العلاقة الاستراتيجية والاقتصادية بين واشنطن وسول وجذورها التاريخية. فكانت سول أولى محطات بايدن في جولته الآسيوية، والتي التقى خلالها بالرئيس “يون سوك يول” الذي تولى الرئاسة في 10 مايو الجاري، وهو مدع عام سابق حديث العهد بالسياسة انتخب في مارس رئيسًا للجمهورية بعدما فاز بفارق ضئيل للغاية عن منافسه بتأييد شعبي بالكاد يصل إلى 41%، وذلك بفضل رسالته المؤيدة بقوة للولايات المتحدة.
دعا “يون” خلال حملته الانتخابية إلى نشر المزيد من أنظمة صواريخ “ثاد” الأمريكية في كوريا الجنوبية، وأثار إمكانية شن ضربات عسكرية استباقية على مواقع أسلحة بيونج يانج، الأمر الذي جاء متماشيًا مع استراتيجية بايدن للسيطرة على برنامج كوريا الشمالية للأسلحة النووية وتجارب الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، بعدما أجرى زعيم كوريا الشمالية “كيم يونج أون” 16 اختبارًا للأسلحة والصواريخ هذا العام حتى الآن، بما في ذلك إطلاق صاروخ بعيد المدى من غواصة، قد يغير من قواعد الاشتباك في أي حرب محتملة.
حقق بايدن من زيارته إلى كوريا الجنوبية هدفه من تعزيز العلاقات من خلال تكثيف الدبلوماسية، وهو ما أكد عليه عندما قال في أكتوبر 2020: “كرئيس، سأقف إلى جانب كوريا الجنوبية، وأقوي تحالفنا لحماية السلام في شرق آسيا وما ورائها. بدلًا من ابتزاز سول بتهديدات متهورة بسحب قواتنا، سوف أنخرط في دبلوماسية قائمة على المبادئ، وسأواصل الضغط نحو نزع السلاح النووي لكوريا الشمالية وشبه الجزيرة الكورية الموحدة”.
دلالات مهمة
جاءت زيارة بايدن إلى كوريا الجنوبية كترجمة عملية لاستراتيجية الدفاع الوطني لعام 2022 التي أصدرتها الإدراة الأمريكية في شهر مارس الماضي وحافظت على الصين بوصفها التحدي الأمني الرئيس للولايات المتحدة، وإعطاء الأولوية لتحدي الصين في المحيطين الهندي والهادئ، وزيادة الضغط على روسيا والصين، بوصفهما أكبر خصمين للولايات المتحدة. وعلى هذا، تعكس الزيارة الكثير من الأهداف والآمال:
التركيز على مصادر التهديد الأمني للولايات المتحدة: تحمل زيارة بايدن إلى كوريا الجنوبية رسالة واضحة إلى الصين بأنها لا تزال في صلب استراتيجية البيت الأبيض الخارجية، على الرغم من الانشغال الأمريكي بالحرب الروسية على أوكرانيا. وكانت إدارة بايدن قد سعت مرارًا إلى إيصال هذه الرسالة، لا سيما من منطلق تحذير بكين بعدم السير على خطى موسكو، والذهاب إلى اجتياح تايوان.
وبينما تعد الصين الخصم الرئيس للولايات المتحدة في هذه المعركة، سلط بايدن الضوء على التحدي الخطير من روسيا عندما وقع على مشروع قانون ينص على تخصيص 40 مليار دولار لمساعدة أوكرانيا على مواجهة الغزو الذي تشنه موسكو. وتم نقل مشروع القانون الذي مرره الكونجرس في وقت سابق إلى سول بالطائرة ليكون بإمكان بايدن التوقيع عليه ليصبح قانونًا من دون الحاجة إلى انتظار عودته إلى واشنطن.
انتهاء سياسة الصبر الاستراتيجي: قبل زيارة بايدن إلى كوريا الجنوبية كان هناك قلق في سول من أن واشنطن تتراجع إلى سياسة “الصبر الاستراتيجي” لإدارة أوباما لتجاهل كوريا الشمالية، حتى تظهر جدية بشأن نزع السلاح النووي، وهو نهج تم انتقاده لإهماله كوريا الشمالية بينما قطعت أشواطًا كبيرة في بناء ترسانتها النووية، وإعلانها عدم وقف تجارب الصواريخ الباليسيتة، وفي ذلك إشارة واضحة للولايات المتحدة بأن سياسة “الصبر الاستراتيجي” قد فشلت وأن بيونج يانج لن تتفاوض على التخلي عن برنامجها النووي وستتفاوض على أساس أنها دولة نووية. وتريد أن تبرهن أيضًا من خلال تجاهلها للتحذيرات الأمريكية ومواصلة التصعيد دون الاستجابة لدعوات واشنطن بأن نفوذها على بيونج يانج محدود وأن أي حوار يجب أن يكون بشروطها هي.
دعم أوكرانيا: على الرغم من أن زيارة بايدن تستهدف تعميق العلاقات مع كوريا الجنوبية، لكن تظل الحرب الروسية في أوكرانيا على جدول أعمال بايدن، وسيشجع المزيد من الشركاء على معاقبة الرئيس فلاديمير بوتين. ويذكر أن حكومة كوريا الجنوبية، في عهد الرئيس السابق مون جاي أن، قدمت مساعدات إنسانية ودعمت العقوبات الدولية ضد روسيا، لكن على عكس اليابان وأستراليا، لم تفرض عقوبات. غير أن الرئيس المنتخب حديثًا يقود حملة لتعزيز التحالف مع الولايات المتحدة، مما قد يوفر فرصة لبايدن لتأمين دعم أكبر بشأن قضية أوكرانيا.
دعم تايوان: يستخدم بايدن الأزمة الأوكرانية للإشارة إلى أن تغيير الوضع الراهن بالقوة من جانب واحد أمر غير مقبول في آسيا كما هو الحال في أوروبا، في إشارة إلى أزمة تايوان التي تدعي الصين تبعيتها لها. وتريد الإدارة الأمريكية أن توضح أن هناك دعمًا قويًا لتايوان في جميع أنحاء المنطقة، مثلما هناك قدرة في التحالف عبر الأطلسي تجاه أوكرانيا. خاصه أنه لا يزال هناك قلق، في تايوان وأيضًا في كوريا الجنوبية حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تستطيع التعامل مع أزمتين أمنيتين كبيرتين إذا اندلعت أزمة في آسيا، بينما لا تزال الحرب في أوكرانيا قائمة.
مكاسب استراتيجية
تجاوز التحديات الداخلية: في وقت يتسم بارتفاع معدلات التضخم وعدم الرضا في الداخل الأمريكي، يواجه الرئيس بايدن تراجعًا في استطلاعات الرأي حتى الآن، مدفوعًا بالإحباط المتزايد بسبب الاقتصاد والمخاوف المختلفة حول الأسعار والأوضاع السياسية. فقد تسبب النقص في حليب الأطفال في إحباط العائلات، حتى في ظل الجهود المبذولة لجلب الواردات وتعزيز الإمدادات المحلية. أضف إلى ذلك ارتفاع أسعار البنزين والتحدي المستمر المتمثل في التضخم عند أعلى مستوى في 40 عامًا تقريبًا، فضلًا عن العنف المسلح واستمرار تهديد جائحة كورونا.
في ظل هذه الإشكاليات أكد بايدن على مهمته العالمية لتقوية الاقتصاد الأمريكي من خلال إقناع الشركات الأجنبية مثل هيونداي باستثمار 5 مليارات دولار في الولايات المتحدة حتى عام 2025 لتعزيز تعاونها مع الشركات الأمريكية في تقنيات متنوعة، مثل الروبوتات والتنقل الجوي في المناطق الحضرية والقيادة الذاتية والذكاء الاصطناعي. ومن المتوقع أن يوظف مصنع هيونداي في جورجيا 8100 عامل وينتج ما يصل إلى 300 ألف سيارة سنويا، مع خطط لبدء البناء في أوائل العام المقبل وبدء الإنتاج في عام 2025.
الحفاظ على سلاسل الإمداد: أدى تفشي فيروس كورونا والحرب في أوكرانيا إلى نقص في الرقائق الإلكترونية المستخدمة في صناعات الكمبيوتر والسيارات وغيرها من السلع، وتسببت في ارتفاع معدلات التضخم التي أثرت على شعبية بايدن وتركيز إدارته على زيادة التصنيع المحلي. وقدر مسؤولو الحكومة الأمريكية أن إنتاج الرقائق لن يكون بالمستويات التي يرغبون بها حتى أوائل عام 2023، وهي نقطة ضعف محتملة تأمل الولايات المتحدة في حمايتها من خلال المزيد من الإنتاج المحلي والاستثمار الحكومي في هذا القطاع، فقد يؤدي خطر العدوان الصيني على تايوان إلى قطع تدفق رقائق الكمبيوتر المتطورة المطلوبة؛ إذ توفر آسيا أكثر من 70% من إنتاج العالم من أشباه الموصلات تايوان (21٪)، كوريا الجنوبية (19٪) واليابان (13٪)، يتم تصنيع 10٪ فقط من الرقائق في الولايات المتحدة.
وتعد زيارة بايدن إشارة إلى إحدى أولوياته المحلية الرئيسة المتمثلة في زيادة المعروض من الرقائق والحفاظ على مرونة سلاسل الإمداد. واستهل بايدن جولته بزيارة مصنع سامسونج لأشباه الموصلات لإظهار التعاون المتزايد بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية بشأن التكنولوجيا وقضايا أخرى. وذكرت سامسونج أنها ستبدأ في بناء مصنع في ولاية تكساس، وتأمل أن تبدأ عمليات الإنتاج فيه خلال النصف الثاني من عام 2024. وترى الإدارة الأمريكية أن استثمار سامسونج في تكساس سيعني توفير وظائف ذات رواتب جيدة للأمريكيين، والمزيد من المرونة في سلاسل التوريد.
تأمين المصالح الأمنية: كانت زيارة بايدن إلى قاعدة أوسان الجوية، حيث يراقب الآلاف من الجنود الأمريكيين والكوريين الجنوبيين التهديد النووى المتصاعد من كوريا الشمالية، جانبًا آخر من أهداف بايدن التي حاول من خلالها التأكيد على تبني سياسة أمنية مغايرة تمامًا لسلفه دونالد ترامب. فقد أشاد بايدن باستمرار وجود القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية والتي يبلغ قوامها 30 ألف جندي تقريبًا، بعد أن تراجعت ثقة سول بالحليف الأمريكي في عهد ترامب الذي طلب منها دفع مليارات الدولارات لدعم القوات الأمريكية، ورفض استمرار الولايات المتحدة في الحفاظ على قوات في سول بعد سبعة عقود من الحرب الكورية، مما شكك في مدى التزام الإدارة الأمريكية بالتحالف الأمني.
وفي 2019، هدد ترامب بسحب 4000 جندي ما لم تدفع كوريا الجنوبية 5 مليارات دولار سنويًا لتغطية تكلفة القواعد العسكرية الأمريكية، حتى أنه اقترح انسحابًا كاملًا للقوات الأمريكية من كوريا الجنوبية. وعلى الرغم من تعليق ترامب للتدريبات العسكرية رفيعة المستوى، استمرت التدريبات المشتركة على نطاق أصغر مع الجيش الكوري الجنوبي خلال فترة ولايته.
لكن بايدن تعهد بإعادة إحياء تحالفات بلاده مع أصدقائها لمواجهة روسيا والصين وكوريا الشمالية، وبدء مناقشات لتوسيع نطاق وحجم التدريبات العسكرية، والتعاون لمواجهة الهجمات الإلكترونية من كوريا الشمالية، وتنسيق استراتيجية شاملة تتبنى نهج “الردع السيبراني متعدد الطبقات” على النحو الموصى به في تقرير للجنة الفضاءالسيبراني لعام 2020.
حماية الردع الموسع: تهيمن مسألة “الردع الموسع” على السجال الأمني في سول، وترى نسبة كبيرة من الكوريين الجنوبيين أن على بلادهم تطوير قدراتها النووية الخاصة. في موازاة ذلك، تواصل الولايات المتحدة منح كوريا الجنوبية مظلتها النووية منذ سحب أسلحتها النووية التكتيكية من شبه الجزيرة الكورية في 1991. وقد سعى الرئيس الكوري الجديد إلى الحصول على مزيد من التأكيدات بأن الولايات المتحدة ستعزز ردعها ضد تهديدات كوريا الشمالية، وأكد بايدن استعداد بلاده للدفاع عن كوريا الجنوبية بـ”أسلحة نووية إذا لزم الأمر”.
ولا تتضمن الاتفاقيات الموقعة بين البلدين التعهد الأمريكي بالإبقاء على “المظلة النووية”، فيما كان “يون” قد تراجع عن اقتراح خلال حملته لإعادة نشر أمريكا أسلحتها النووية التكتيكية في شبه الجزيرة. ومنذ ذلك الحين طلب من إدارة بايدن نشرًا دائمًا لـ”أسلحتها الاستراتيجية”، مثل الغواصات الحربية وحاملات الطائرات، وقاذفات الصورايخ في بلاده، وتضاف إلى ذلك إعادة “تطبيع” المناورات المشتركة، وأعاد تفعيل مجموعة تشاور حول استراتيجية الردع الموسع مع واشنطن والتي لم تكن تجتمع منذ سنوات.
وأعلن بايدن والرئيس الكوري الجنوبي عزمهما توسيع التدريبات العسكرية المشتركة لردع التهديد النووي من كوريا الشمالية، في وقت لا يوجد فيه أمل كبير في دبلوماسية حقيقية بشأن هذه المسألة. وأن هدفهما الرئيس نزع السلاح النووي لكوريا الشمالية بشكل كامل، بينما أكدا التزامهما بـ”نظام دولي قائم على القواعد” في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا. وأكد مستشار الأمن القومي الأمريكي “جيك سوليفان” أن بلاده مستعدة للقيام بتعديلات قصيرة وطويلة المدى لموقفها العسكري في كوريا الجنوبية للرد على أي استفزاز كوري شمالي.
تعزيز التقارب بين سول وطوكيو: يسعى بايدن إلى زيادة الضغط على الصين من خلال حمل سول على إصلاح الخلافات مع طوكيو وتقوية صفوفهما معًا ضد بكين، بعدما كانت العلاقات بين حليفي الولايات المتحدة ضعيفة في السنوات الأخيرة؛ بسبب النزاعات الإقليمية وعدم تسوية انتهاكات تعود إلى فترة احتلال اليابان لشبه الجزيرة الكورية خلال الحرب العالمية الثانية.
ومع ذلك، لن تكون المهمة سهلة، ففي حين أوضح رئيس الوزراء الياباني أن الكرة في ملعب سول، ويقول رئيس الوزراء الكوري الجنوبي إنه يريد تحسين العلاقات، إلا أنه نظرًا لسيطرة المعارضة على البرلمان في كوريا الجنوبية، فإن تقديم أي تنازلات لطوكيو في هذه القضية الحساسة وطنيًا سيكون مهمة شاقة للرئيس الكوري الذي فاز بهامش ضئيل في الانتخابات الأخيرة، وقد يكون مترددًا في مجافاة أكبر شريك تجاري لسول (284 مليار دولار في 2019 وفقًا لوزارة التجارة الصينية)، لا سيما عندما يظل تحسين الاقتصاد الكوري الجنوبي مشكلة رئيسة.
.
رابط المصدر: