حربٌ بلا نهاية: آفاق النزاع السوداني في ضوء التطورات الميدانية الأخيرة

  • تضاءلت فُرص نجاح طرفيّ النزاع السوداني في حسمه عسكرياً، بعد نجاح قوات الدعم السريع في توسيع رقعة سيطرتها في جنوب البلاد وشرقها، بالتزامُن مع تمكُّن الجيش من صد هجمات “الدعم السريع” على عاصمة ولاية شمال دارفور، وإبعادها عن أغلب مناطق مدينة أم درمان بالعاصمة.
  • تَعَمَّد قائد الجيش عبد الفتاح البرهان التقليل من أهمية عمليات التوسُّع الأخيرة لقوات الدعم السريع بغرض تحقيق ثلاثة أهداف أساسية، هي: رفع الروح المعنوية لجنوده؛ وتفادي أي ضغوط دولية على الجيش لدفعه نحو التفاوض؛ ومواجهة حملات التشكيك في كفاءة القيادة الحالية للجيش.
  • قوَّضت التطورات العسكرية الأخيرة احتمالات حسم النزاع السوداني في المدى القريب، ولذا اتجهت الأطراف الإقليمية والدولية إلى محاولة التخفيف من تداعياته الأمنية والإنسانية، التي باتت مُرشحة للتصاعُد بعد تقلُّص نسبة الملاذات الآمنة في السودان إلى أقل من 20% من إجمالي مساحة البلاد. 
  • في ظل رغبة طرفيّ النزاع السوداني في تحقيق نصر عسكري حاسم، بالتزامن مع استمرار تلقيهما للدعم الخارجي، وضعف الضغط الدولي الممارس عليهما لإيقاف القتال، فإن من المستبعد أن يتجه الطرفان نحو التهدئة قريباً، ما يفتح الباب أمام زيادة الكُلفة الإنسانية للنزاع.

 

نجحت قوات الدعم السريع في الأسابيع الأخيرة من يونيو 2024 في توسيع رقعة سيطرتها العسكرية والميدانية في عدد من ولايات السودان، حيث أبعدت قوات الجيش عن عاصمتيّ ولايتيّ سنار وغرب كردفان، بعد نجاحها في الأشهر القليلة الأخيرة في فرض سيطرتها على أغلب ولايات إقليم دارفور، كما تقاسمت السيطرة مع الجيش على ولايات الجزيرة والعاصمة الخرطوم.

 

توسُّع السيطرة الميدانية للدعم السريع وأثره في الأوضاع القتالية

اتجهت قوات الدعم السريع إلى توزيع نشاطها القتالي على أكثر من ولاية سودانية، وكَثَّفت هجماتها العسكرية على مناطق جنوب البلاد وشرقها، بالتوازي مع استمرار مساعيها الرامية إلى إبعاد قوات الجيش وحلفائه عن ولاية شمال دارفور في غرب السودان، وهي الولاية الوحيدة التي لا تخضع عسكرياً لها حتى الآن، بعكس بقية ولايات إقليم دارفور الأربعة.

 

ومع تركيز الجيش العملياتي على إدارة المعارك في العاصمة الخرطوم وإقليم دارفور، نجحت قوات الدعم السريع في دفع قواته نحو الانسحاب من بعض المناطق في جنوب البلاد وشرقها، وتحديداً في كل من مدينة الفولة عاصمة ولاية غرب كردفان، وبعض مُدن ولاية سنار، منها العاصمة سنجة.

 

واتسم التوسُّع العسكري الأخير لقوات الدعم السريع بأهمية استراتيجية نسبية لعدة اعتبارات، أهمها أنه يُعزز من فُرص تعطيل إمدادات النفط لقوات الجيش، إذ تُعد ولاية غرب كردفان من أبرز الولايات النفطية في السودان، كما يمر بها خط أنابيب النفط الوارد من دولة جنوب السودان إلى مناطق شرق البلاد. وتتعاظم أهمية النفط في سياق المواجهات بين الجيش والدعم السريع بسبب احتكار الأول لسلاح الجو، واستخدامه له في مهام عسكرية مختلفة. وارتفعت أهمية توسُّع سيطرة الدعم السريع بالنظر إلى أنها تزامن مع محاولة الجيش تعزيز إمداداته النفطية في خلال الأشهر الأخيرة، إذ سعى إلى استيراد الوقود من روسيا، بعد تعطُّل إمدادات النفط القادمة من جنوب السودان.

 

نجحت قوات الدعم السريع في دفع الجيش السوداني نحو الانسحاب من بعض المناطق في جنوب البلاد وشرقها (Shutterstock)

 

من جهة أخرى، يعد توسيع السيطرة العسكرية للدعم السريع في ولاية سنار مكسباً جيوعسكرياً مهماً، حيث تربط سنار بين مناطق وجود قيادة الجيش الحالية في شرق البلاد، وبقية عناصره المُقاتلة في وسط البلاد وغربها، ما قد يتيح للدعم السريع خنق خطوط الإمداد بين فرق الجيش ووحداته المختلفة.

 

علاوة على ذلك، تتمتع ولايتا سنار وغرب كردفان بحدود مشتركة مع دولتيّ إثيوبيا وجنوب السودان على الترتيب، وقد تسعى قوات الدعم السريع إلى توظيف سيطرتها على الولايتين في جلب إمدادات لوجستية من خارج السودان.

 

موقف الجيش من توسُّع سيطرة الدعم السريع

تُشير ردود الأفعال الميدانية للجيش على توسع سيطرة الدعم السريع إلى انخفاض مستويات تقديراتهم لقدرة الدعم السريع على تحقيق مثل هذا التوسُّع، بحيث لم يلجأ الجيش إلى إحداث أي تغيير مُعلَن في توجهاته الرئيسة حيال النزاع في أعقاب حدوثها. وعلى العكس، سارع قائده عبد الفتاح البُرهان، في خلال كلمة ألقاها البرهان بمنطقة وادي سيدنا العسكرية بأم درمان، إلى تجديد موقفه الرافض لعقد أي مفاوضات مع الدعم السريع، قبل خروج عناصرها من الأحياء السكنية. وقد ينطوي اختيار البرهان لأم درمان على إشارة رمزية بامتلاك الجيش الأفضلية العسكرية في المواجهات بالعاصمة السودانية، حيث أعقب زيارته للمنطقة إعلان الجيش نجاح قواته في إبعاد عناصر الدعم السريع عن حي الدوحة بغرب أم درمان، ليُسيطر بهذه الخطوة على أغلب مناطق المدينة، والتي تعد الأقرب من بين مدن العاصمة لولاية شمال دارفور.

 

ويبدو أن عدم تعديل الموقف التفاوضي للجيش يرتكز إلى محددات ميدانية وعملياتية ربما يكون من بينها استمرار تمتُّع قواته بسيطرة ميدانية على أغلب المناطق الشمالية بالسودان، بما قد يتيح له الربط بين عناصره المُنتشرة في كل من شرق السودان والولاية الشمالية وولاية نهر النيل والخرطوم، ما يسمح بمعاودة الهجوم على مناطق سيطرة الدعم السريع في شرق البلاد، كما تُعزز سيطرة الجيش على أم درمان من فُرص نجاحه لاحقاً في إبعاد الدعم السريع عن مقار الحُكم الاستراتيجية بوسط العاصمة.

 

في ظل هذه المعطيات، يبدو أن البرهان قد تَعَمَّد التقليل العلني من أهمية عمليات التوسُّع الأخيرة لقوات الدعم السريع بغرض تحقيق ثلاثة أهداف أساسية، هي: شحن الروح المعنوية لجنوده؛ وتفادي أي ضغوط دولية قد تمارس على الجيش لدفعه نحو التفاوض؛ ومواجهة حملات التشكيك في كفاءة القيادة الحالية للجيش، في ظل حديث تقارير إعلامية عن استياء عدد من العسكريين السودانيين السابقين من الهزائم العسكرية الأخيرة للجيش.

 

ومن غير المستبعد أن تكون تصريحات البُرهان قد عكست تماهياً بين أجندة كُلٍّ من قيادة الجيش والحركة الإسلامية السودانية، والتي تتمسك باستمرار القتال لحين تخلِّي الدعم السريع عن مطالبه الخاصة بتصفية نفوذ الحركة السياسي، إذ تتمتع الحركة بتأثير نسبي على صناعة القرار داخل الجيش، نظراً لسيطرتها على الحُكم في السودان لمدة ثلاثين عاماً (1989-2019)، كما شارك عناصرها في القتال ضد قوات الدعم السريع عبر مجموعة البراء بن مالك.

 

حرص قائد الجيش عبدالفتاح البرهان على التقليل علناً من أهمية عمليات التوسُّع الأخيرة لقوات الدعم السريع (AFP)

 

ردود الأفعال الإقليمية والدولية 

قوَّضت التطورات العسكرية الأخيرة احتمالات حسم النزاع السوداني في المدى القريب، واتجهت الأطراف الإقليمية والدولية إلى محاولة التخفيف من تداعياته الأمنية والإنسانية، التي باتت مُرشحة للتصاعُد بعد تقلُّص نسبة الملاذات الآمنة في السودان إلى أقل من 20% من إجمالي مساحة البلاد، فضلاً عن ظهور بوادر موجة نزوح جديدة بانتقال 136 ألف نسمة من ولاية سنار إلى ولايتيّ القضارف والنيل الأزرق، ليضافوا بذلك إلى 7.3 مليون نازح في داخل السودان وخارجه.

 

وبهدف كبح الجموح العسكري لطرفيّ القتال، قام نائب وزير الخارجية السعودي وليد الخريجي بزيارة البُرهان لدعوته لاستئناف المفاوضات عبر منبر جدة، الذي ترعاه الرياض بالاشتراك مع واشنطن بغرض التوصُّل لتسوية سلمية للنزاع. وجَدد المبعوث الأممي للسودان رمضان لعمامرة دعوته لطرفيّ النزاع لعقد مباحثات في جنيف، وتزامنت تلك التحرُّكات مع إبداء الاتحاد الإفريقي رغبته في تنشيط مبادرته الخاصة بالجمع بين قائدي الجيش والدعم السريع في لقاء مباشر، فيما جددت أطراف دولية مثل واشنطن، وموسكو، والاتحاد الأوروبي دعوتها لوقف القتال.

 

اقرأ المزيد من تحليلات «سمير رمزي»:

 

وفي ظل استشعار عدد من دول الجوار السوداني اتجاه الأزمة هناك نحو التصاعُد، استضافت القاهرة في يوليو 2024 مؤتمراً للقوى السياسية السودانية بهدف بحث سُبل وقف الحرب، ومعالجة الأوضاع الإنسانية. وأشارت مخرجات المؤتمر إلى اتجاه القاهرة لتعزيز مساعي تهدئة الأزمة، وتُرجِم الاهتمام المصري بعدم حفز التباينات بين القوى السودانية في استجابة القاهرة لرغبة تحالف تنسيقية تقدُّم في عدم دعوة حزب المؤتمر الوطني لحضور المؤتمر، كما لم يُلبِ البيان الختامي للمؤتمر مطالب الحركات المُسلحة الداعية إلى اتهام قوات الدعم السريع بارتكاب جرائم بحق المدنيين، وهو ما دفعهم لرفض توقيعه. وأشارت هذه التطورات إلى تفضيل القاهرة التقارُب مع مختلف أطراف الأطراف السودانية، وتعزيز فُرص نجاح منبر جدة في التوفيق بين طرفيّ النزاع في ضوء تراجُع فُرص كسب الجيش السوداني وحلفائه للنزاع.

 

وأعقب مؤتمر القاهرة قيام رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بزيارة بورتسودان ومقابلة قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البُرهان، مستهدفاً تعزيز فرص نجاح مبادرة مجلس السلم والأمن الأفريقي، وتهدئة التوترات مع الجيش السوداني، بعد اقتراب بؤر المواجهات المُسلحة في شرق السودان وجنوبه من الأراضي الإثيوبية.

 

ومع تصاعُد الاهتمام الدولي بالملف الإنساني، اتخذ الجيش السوداني بعض التحركات، التي أشارت إلى تحسّبه لاحتمالات أن يقود هذا الاهتمام إلى اتخاذ قرارات دولية قد يكون منها التلويح بالتدخل الخارجي في السودان لأغراض إنسانية، أو تزايد مستوى التعاون الدولي مع الدعم السريع على صعيد إيصال المساعدات لمناطق سيطرتها.

 

وفي هذا السياق، حَمَّل إبراهيم جابر، القيادي بالجيش، قوات الدعم السريع مسؤولية إعاقة وصول المساعدات الإنسانية، مؤكداً التزام الجيش بإعلان جدة الموقَّع بين طرفيّ القتال، والذي نَصّ على ضمان وصول المساعدات الإنسانية للمتضررين. ويبدو أن جابر قد أطلق هذه التصريحات استباقاً لظهور أي متغيرات قد تدفع مجلس الأمن الدولي إلى إلزام طرفيّ النزاع بتنفيذ قراراته الداعية لتنفيذ إعلان جدة، ومنها القرارين رقم 2724، و2736. اللذان صدرا بعد اتهام الأمم المتحدة لمختلف أطراف القتال السوداني بتعمُّد وضع عراقيل أمام إيصال المساعدات الإنسانية.

 

من المستبعد أن يتجه طرفا الصراع السوداني نحو التهدئة قريباً، ما يفتح الباب أمام زيادة الكُلفة الإنسانية للنزاع (Shutterstock)

 

مستقبل النزاع السوداني: السيناريوهات المحتملة

هناك ثلاثة عوامل رئيسة تتحكم في مستقبل النزاع السوداني في خلال المستقبل القريب، وهي: التطورات الميدانية للمواجهات المُسلحة؛ وموقف طرفيّ القتال من المبادرات الرامية لحلحلة النزاع؛ ومستوى انخراط الأطراف الخارجية في مساعي وقف القتال. وفي ضوء هذه العناصر، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسة لمستقبل النزاع السوداني، وذلك على النحو الآتي:

 

السيناريو الأول، انحسار المواجهات العسكرية تدريجياً، ونجاح المساعي الدولية في خفض التكلفة الإنسانية للنزاع. يتطلب تحقيق هذا السيناريو انفتاح طرفيّ القتال على الدعوات الخارجية الرامية إلى وقف القتال، وتيسير وصول المساعدات للمتضررين من المواجهات المُسلحة، غير أن فُرص تحقّق ذلك تعد مُنخفضة نسبياً، بسبب إيلاء طرفيّ القتال الأهمية الأكبر لخيار الحسم العسكري، وعدم اكتراثهما خلال الفترات السابقة بالتكلفة الإنسانية للمواجهات.

 

لكن احتمالات تحقّق هذا السيناريو قد ترتفع نسبياً في حال تصاعدت الضغوط الدولية على طرفيّ القتال، وربما يؤدي الاتساع المتوقع للرقعة الجغرافية للمواجهات دوراً في هذا الصدد، بما قد يقود إلى اتجاه مجلس الأمن الدولي إلى إلزام طرفيّ القتال بالتعاطي الجاد مع الجهود الرامية إلى تخفيض الكُلفة الإنسانية للنزاع.

 

السيناريو الثاني، استمرار المواجهات العسكرية، وارتفاع الكُلفة الإنسانية للنزاع. يعد هذا السيناريو الأقرب للتحقق في المستقبل القريب، في ظل رغبة كُلٍّ من طرفيّ القتال في تحقيق النصر الحاسم، مع استمرار تلقيهما للدعم الخارجي. وفي ظل بقاء الضغط الدولي على مستواه الراهن، فإن من المستبعد أن يتجه الطرفان نحو التهدئة. ومع ذلك، تواجه فُرص تحقّق هذا السيناريو بعض التحديات، منها إمكانية تصاعُد الضغوط الدولية والإقليمية على الطرفين، أو تصاعُد الاهتمام الدولي بالملف الإنساني في السودان مع اتجاه الأزمة الإنسانية في البلاد للتفاقم.

 

السيناريو الثالث، التوصُّل لوقف جزئي أو كلي لإطلاق النار بين طرفي النزاع. في ظل انخفاض فُرص حسم النزاع عسكرياً، قد يجنح طرفا القتال إلى القبول بوقف إطلاق النار، إذا ما تصاعُدت الضغوط الدولية والإقليمية عليهما، بالتزامُن مع تعرُّض أيٍّ منهما لهزيمة عسكرية كبيرة. ومما يعيق تحقّق هذا السيناريو اعتقاد طرفيّ القتال بأنهما على طريق الحسم العسكري للنزاع، ما قد يدفعهما إلى القبول بتنفيذ هُدن إنسانية مؤقتة، كوسيلة لتخفيف الضغوط الخارجية عليهما.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/hrb-bila-nihaya-afaq-alnizae-alsuwdani-fi-daw-altatawurat-almaydania-alakhira

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M